saif-al-f
saif-al-f
أعمدة

لقاء الأسبوع :كان يأمر أهله بالصلاة..

10 أغسطس 2017
10 أغسطس 2017

سيف بن سالم الفضيلي -

كان أبي -عليه رحمة الله تعالى- قبل أن يذهب الى المسجد الذي يؤم المصلين فيه يوقظني وإخوتي للصلاة خاصة صلاة الفجر بل كان لا يتحرك من امام باب منزلي إلا بعد ان يسمع أني قد أجبته.. إشعارا بأني قد استيقظت.. وكان لا يرتاح باله إلا بعد ان يراني وإخوتي وأبناءنا ضمن صفوف المصلين.. ممتثلا قول الله تعالى «وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ..» وقد كان من بين أدعيته التي لا يفارقها دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ»..

انتقل أبي «معلم القرآن وحافظ القرآن وتالي القرآن» قبل 4 أسابيع الى رحمة الله تعالى.. وجاء رجل –نحسبه من الصالحين- يصل عمره 65 عاما لأداء واجب العزاء.. وهو ممن تعلم القرآن الكريم على يدي والدي- فذكر أنه أبلغ أخته الكبرى بوفاة أبي.. فذكرت له.. إنها رأته «المعلم سالم» في منامها ليلة وفاته.. وهو يعلمهم القرآن تحت ظل شجرة السدر الكبيرة القريبة من المسجد الذي يقيم فيه ومن البيت الذي يعيش فيه.. عندما كانوا في سن صغير قبل الستينات.. نسأل الله تعالى أن يكون القرآن العظيم شفيع أبي وشفيعنا يوم القيامة..

كانت حياة أبي «المعلم سالم» الذي تجاوز المائة سنة مليئة بالذكريات.. حيث سافر من أجل لقمة العيش الى إحدى الدول المجاورة في الخليج.. لكنه لم يلبث هناك إلا قليلا.. لعله حنّ لمهنة تعليم القرآن الكريم التي سرت في عروقه ولعمته النخلة.. فرجع من السفر بعد فترة ليست بالطويلة.. فكان بين عمارة مزرعته التي يغلب شجر النخيل عليها وبين المسجد لإمامة الناس دون مقابل مادي وتعليم الأولاد والبنات القرآن العظيم.. وكنت ضمن الذين أكرمهم الله بالتعلم تحت يديه كتاب الله عام 1975..

كان عليه رحمة الله كثير التلاوة لكتاب الله حتى وهو على قمة نخلة يقوم بتنبيتها وتنظيفها والعناية بها أو وهو يسقي الزرع أو يحصده.. وقد كان لا يخزّن التمر إلا بعد أن يوزن ذلك التمر ويخرج زكاته.. ولم يترك الزراعة حتى آخر أيام حياته.. ويحثنا على عدم ترك النخلة خاصة.. وأمر بزراعة فسائل جيدة من النخيل في مزرعتنا قبل وفاته بأسابيع قليلة.. وكان له وِرْد من القرآن يتلوه أيضا بعد الفجر ولا ينام بعد الفجر أبداً.. وكذلك ورداً بعد صلاة العشاء وله نصيب من قيام الليل..

قبل يومين من وفاته.. كنت قد ذهبت به برفقة ابني «عمر» الى طوارئ المستشفى السلطاني.. ونحن في الطريق كان أحد المشايخ القراء يقرأ الآية «تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا..» فاختبرت ذاكرته بسؤاله في أي سورة هذه الآية التي يتلوها الشيخ؟ فرد مباشرة: إنها سورة الفرقان.. كان والدي مقصد الناس فقد كنت أذكر مذ كنت صغيرا يأتيه الناس ليرقيهم الرقية الشرعية سواء بالرقية المباشرة أو الرقية في ماء أو في دواء.. وقد عقد قران أغلب أهل البلدة التي يعيش فيها «البلة» وباقي القرى المجاورة «الحضيب - السوادي - الوادي- المريغات- أبو محار - العقدة - أبو عبالي - الحفري - النعمان» حتى ان بعض العائلات لا تقبل ان يعقد القرآن لأبنائها وبناتها إلا هو.. وكان يغسل الموتى ويصلي عليهم.. وقد ترك الرّقية إلا نادرا.. وعند سؤالي له عن ذلك قال: تأثرت لقمة العيش.. فشابها ما شابها من الشُّبَهِ.. فحجبت الإجابة..

قدم عرضا لأولاد أبنائه بعد ان منّ الله عليه بعدد من الأراضي السكنية تعويضاً له عن تأثر مزرعته بالشارع البحري بأن من يتزوج ابنة عمه أو ابنة عمته فله قطعة أرض سكنية وللبنت مثله مع مساهمته في المهر.. كما أنه كان يساهم لمن أراد الذهاب الى العمرة من العائلة.. وكان باراً بوالديه حتى بعد مماتهم بزيارة قبورهم وأداء الحج عنهم.. وتأجير الثقات من الناس للحج عنهما.. وكان -رحمه الله- محافظا على صلة الرحم.. حتى أن له ابنة خالة طاعنة في السن طريحة الفراش يزورها ويطمئن عليها ويذكرها بالله.. وكان يزور أصحابه وأصدقائه الذين يرتاحون لزيارته فتجد الابتسامات تتناثر هنا وهناك والذكريات تذكر بما يعيدهم الى الزمن الذي عاشوا فيه قبل سبعينيات القرن الماضي.. وأذكر إنني وإياه يوما زرنا أحد أنسابه الطاعنين في السن –وهو رحمه الله أيضا من أهل القرآن- وكان ذلك الشخص مريض جدا وكثير الذهاب الى المستشفى .. ويبدو عليه الإرهاق وقلة التركيز وقلة السمع.. فقد صافحناه وجلسنا بجواره ولم يعرف من نحن.. ولم يسألنا من نحن.. وعندما أبلغه ولده بصوت عالٍ بحضور «المعلم سالم» وابنه «سيف».. فكأن ذلكم المرض والوهن والضعف انقشع عنه وحلّ محلّه الأنس والفرح والسعادة.. إذ رجع ليقبّل أبي ويستسمحه ويسأله عن أحواله.. وتبادلوا ذكريات حياتهم في بلدة «الخمرة» بولاية بركاء.. والأعمال التي كانوا يقومون بها في تلك البلدة.. وكيف كانت الزيارات والتعاون بين فئات المجتمع واللقاءات الحماسية التي كانت بينهم.. وكيف كانت الصعوبة في لقمة العيش..

وكان –والدي- يدعو الله تعالى في آخر أيامه وكأنه شعر بدنو أجله «رب اجمعني بأولادي وبناتي» ووفق الله تعالى لذلك فأخذ يمسك بيد كل واحد منا ويضعها على صدره، ويقول «سامحوني وأبروني، ونحن نطلب منه أن يسامحنا ويذكر الله، فيردد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ويردد الباقيات الصالحات)».. وهذا من فضل الله عليه وعلينا.. ونسأل الله ان يرضى عنا برضا والدنا عنا..

لم أكتب هذا المقال مدحا وفخرا بقدر ما كتبته للاتعاظ والعبرة.. وأولهم نفسي المقصرة..

أسأل الله العلي القدير أن يتغمده بالرحمة والرضوان وأن يجمعنا به مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دار كرامته.. وأن لا يحرمنا أجره وأن لا يفتنا بعده.. وأن يرزقنا بره.. وأن يحسن خاتمتنا.. إن ربنا لطيف خبير..