أفكار وآراء

البرلمان.. والحكم الرشيد

23 يوليو 2017
23 يوليو 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

نثمن - كمواطنين - في هذا البلد العزيز، كما هو الحال في تجارب الدول المتقدمة في المجال البرلماني، الإرادة السياسية الحكيمة، وانتصارها ودعمها المستمر لجهود عمل المؤسسة التشريعية، ولا نرى ذلك الا تعضيدا مباشرا لها، ودعما سخيا لأدوارها، لليقين الموجود أن تفعيل المجالس البرلمانية تبقى ضرورة ملحة لمجالات التنمية، خاصة في ظل متغيرات كثيرة يشهدها العالم،

هناك من يعتقد أنه ثمة صورة نمطية قائمة في العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، مفادها أن هناك «فصلا بين التشريع والتنفيذ» أو يجب أن يكون هناك فصل، ولذلك تلعب هذه الصورة دورا محوريا في تشويه هذه العلاقة القائمة بين السلطتين، او تضعفها على أقل تقدير، وبالتالي من يرسم هذه الصورة، أو يجدها مسوغا لوجود التصادم الدائم بينهما يتكئ عليها كثيرا في التقليل من أهمية المجلس التشريعي ودوره المحوري في المساهمة الفاعلة والمباشرة في التنمية بشكل خاص، وهذه القناعة، إن وجدت تحتاج حقا الى مراجعة لتبيان الحقيقة، والى أهمية أن تكون هناك مجالس تشريعية في تجارب الدول التنموية على وجه الخصوص، وخاصة أن المجلس التشريعي يحظى بالدعم المباشر من القيادة العليا في أي بلد يكون فيه مجلس تشريعي، لأهمية الشراكة الحقيقية المباشرة بين الحكومة والمواطن، وحيث لا مناص من هذه الشراكة لكي تستقيم مسارات التنمية المختلفة، والانسان، كما يقال: «قوي بأخيه».

تأتي هذه الصورة، مع نمو تأثير السلطة التشريعية، والتحامها الأكبر في تصويب مسارات التنمية، خاصة وأن هذه النمو يقابله نمو في الخبرة الحياتية، والخبرة المعرفية، وذلك من تضمه السلطة التشريعية من كفاءات خبرت العمل في مؤسسات التنمية المختلفة، وكسبت من خلال تجربتها الكثير من الخبرات، وبالتالي أصبح عليها - في حكم الواجب - أن تسخر مجموع هذه الخبرات والتجارب في الدور المحوري الذي تقوم به في خدمة التنمية، وهو دور له أهميته الكبرى، حيث الشورى والمشاركة في الرأي السديد.

والمجالس التشريعية عندما تفرض دورها الفاعل ليس فقط من منطلق شرعيتها التي أعطاها أو منحها إياها القانون ، مع أهمية تحقق هذا الأمر كمسوغ للنشأة والتحقق، ولكن يأتي جمهورها العريض ليكون له كلمة الحق والعدل في ذلك، وهذا ما يجعل عضو البرلمان يرفع صوته بكل ما أوتي من قوة ومن نبرة الصوت الصادحة بين جنبات البرلمان - وهو الصوت المعزز بقيم التشريع والمعرفة التي يتيحها البرلمان لأعضائه - ليعزز وصول صوته الى كل أعضاء المجلس، ولعل لهذا الصوت أيضا، بعد ذلك، لأن يتجاوز الجدران الأربعة، وينفذ من تحت قبة البرلمان الى العالم الخارجي فيكون رسول محبة لمجتمعه العريض.

هذه الصورة البرلمانية التي يعهدها الجميع في كثير من البرلمانات على امتداد البسيطة، وليس في ذلك من مواربة، ما دام هذا الصوت لإعلاء المصلحة العامة للوطن، ولتنزيه مسارات السلطة التنفيذية وتشذيبها من أية شوائب قد تعترض تحقق المصلحة الكبرى للوطن الأكبر، ومن هنا تكتسب المجالس التشريعية أو النيابية هذه الأهمية السامية، وتحظى بهذا الرضا من قبل جمهورها العريض، فهي بلا شك؛ تسهم في تحقيق الآمال والطموحات، وتغذي جذور الأمنيات، ومتى أصلت هذه المجالس هذه الصورة الطموحة عند هذا الجمهور، يقينا ستجد الدعم والمساندة من قبل الجمهور الذي اختار أعضاءها بملء إرادته الكاملة من غير توجيه.

يلعب تراكم المعرفة والخبرة بالحياة البرلمانية دورا كبيرا في تجاوز الكثير من المعضلات القائمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهي معضلات غير منكورة في كل برلمانات العالم بلا استثناء، حيث لا تزال السلطة التنفيذية وبحكم خبرتها الكبيرة في المجال التنموي، ووقوفها على الكثير من التفاصيل الدقيقة لمجريات الأمور، تنتصر لما تطرحه على السلطة التشريعية من موضوعات القوانين المختلفة، وترى أن في انتصارها لمواقفها وآرائها؛ ما يبرر تصلبها في بعض الأحيان؛ ويعفيها من مغبة الاصطدام مع جمهور السلطة التشريعية، ولذلك تظل هناك مناكفة ما بين السلطتين، حتى يتم الوصول الى كلمة سواء، ومع ذلك تجد السلطة التشريعية الكثير من المبررات للوقوف على نقاط بعينها، انطلاقا من قربها الشديد الى ميدان الحياة اليومية للمواطنين بصورة اكثر وأقرب، ولما ترى فيه احقيتها في قول ما تراه ، وما يسبق ذلك من البحث والتمحيص للوصول الى نوع من الرضا في طرح آرائها على السلطة التنفيذية؛ بما يخدم المصلحة العامة، وهي بذلك تريد التخلص من صورة ذهنية لا تزال عند كثير من أعضاء السلطة التنفيذية، مفادها أن المجالس التشريعية لا تزال «مجالس استشارية بمظلة برلمانية يمرر اليها صاحب القرار ما يشاء» كما يقول البعض، وهذه الصورة قد تصل الى المبالغة في الاتجاه المعاكس لما تعمل عليه السلطة التشريعية طوال أدوار الانعقاد السنوي المتواصل، والذي يشهد الكثير من العمل الجاد والمخلص، والفحص والتمحيص.

نعرف عن المجتمع على أنه امتداد أفقي لا نهاية له من العدد والكثرة، وهو بهذا الـ «تموج» في الأعمار والثقافات والخبرات، والتجارب، يظل التعامل معه صعبا جدا، وكما قيل منذ زمن بعيد: «رضا الناس غاية لا تدرك» ولذا يكون البرلمان المنتخب هو المعبر الحقيقي عن رغبات وطموحات هذا الجمهور العريض، فهو جسر العبور للوصول الى انتاج السلطة التنفيذية بالصورة التي يستحقها، ويتمناها، واذا كان انتاج السلطة التنفيذية ماديا بالضرورة على شكل خدمات تقدم لهذا الجمهور، فإن انتاج السلطة التشريعية معرفي بالضرورة ، يندرج تحت تعديل أو تبني مشروعات قوانين لمختلف أنشطة السلطة التنفيذية، وذلك بهدف تقويم أدائها، وتعزيز دورها، ولمواكبتها لمستجدات الأحداث التي تطرأ من أثر تفاعل الناس مع برامج وأنشطة السلطة التنفيذية، ولذلك، وبناء على حجم هذا الامتداد الأفقي الممتد (العدد والكثرة) من أفراد المجتمع يصبح ليس من اليسير أن تفتح السلطة التنفيذية مكاتبها لتلقي المقترحات والمعالجات ليتم دراستها، ثم الخروج بنتائج تتوافق وما يطمح اليه هذا الجمهور المختلف المشارب والمآرب، وهنا يأتي المجلس النيابي المعبر عن امتداد هذه الجمهور ليقوم بهذا الدور الكبير والكبير جدا، وفق آليات عمل منظمة ومنضبطة، تجد مسارا يسيرا وسهلا لوصولها الى مناخات السلطة التنفيذية ودروبها ودهاليزها، ولذا فعلى هذا الجمهور أن يكون أكثر قربا من مجلسه، داعما بتغذيته مما قد لا يصل اليه عضو المجلس بصورة مباشرة لظروف مختلفة، فهذا الدعم هو ما يعزز العمل في المجلس النيابي ، ويعلي من قوة الموقف الذي يكون عليه العضو عند مناقشة السلطة التنفيذية، وكم شهدنا ذلك الاستنفار من قبل هذا الجمهور العريض الى المجلس، والـ «فزعة» الجماهيرية تجاهه عندما ألمت بالجمهور بعض المواقف التي تتطلب العودة الى المجلس ليقوم بدوره المأمول منه، وليحقق ما يتوقعه منه هذا الجمهور إبان التصويت لاختيار أعضائه، الذي يرى فيهم الكفاءة والخبرة والمعرفة، حيث يبقى هو الحاضنة المجتمعية.

نثمن - كمواطنين - في هذا البلد العزيز، كما هو الحال في تجارب الدول المتقدمة في المجال البرلماني، الإرادة السياسية الحكيمة، وانتصارها ودعمها المستمر لجهود عمل المؤسسة التشريعية، ولا نرى ذلك الا تعضيدا مباشرا لها، ودعما سخيا لأدوارها، لليقين الموجود أن تفعيل المجالس البرلمانية تبقى ضرورة ملحة لمجالات التنمية، خاصة في ظل متغيرات كثيرة يشهدها العالم، وفي مواقف دولية بالغة الحساسية، التي تحتاج الى كثير من الهدوء في التعامل معها، والى كثير من الحكمة لاستيعابها، والى كثير من التروي لاتخاذ موافق حازمة تجاهها، وهذا كله يحتاج الى جهة تتحقق في أعضائها الحكمة والدراية والخبرة والمعرفة، ويأتي - بلا شك - البرلمان ليقود الجميع الى بر الأمان، وهذا يعد من أكبر الإنجازات التي تقوم بها السلطة التشريعية، فمن يفكر بهدوء المراقب المتابع يكون أقرب الى استلهام الحكمة، والاقرب الى الرأي السديد، وفي تقارب الحكمة التشريعية، مع الممارسة التنفيذية يصل الوطن الى بر الأمان، ويبحر المركب بسلام.

تطمئننا الأرقام الصادرة من غرفتي مجلس عمان (الدولة والشورى) في تقريري المجلسين التي نشرت بمناسبة احتفال السلطنة بيوم الثالث والعشرين من يوليو المجيد، وهي أرقام تحمل دلالات كبيرة، في حقيقة العمل فيهما، على أن هناك اشتغالا جادا وجميلا وأمينا وصادقا طوال دور الانعقاد السنوي الثاني للفترة السادسة لمجلس الدولة، وللفترة الثامنة لمجلس الشورى، فقد أفصحت الأرقام لمجلس الدولة؛ كالتالي: «حيث عقد المجلس (11) جلسة اعتيادية، أنجز خلالها (6) مشروعات قوانين؛ كما أقر (8) دراسات مقدمة من لجان المجلس الدائمة واحالها الى مجلس الوزراء، إضافة الى الموافقة على قيام بعض لجان المجلس بدراسة (4) موضوعات ونحو ( 69) اجتماعا من اجتماعات اللجان التنسيقية المشتركة مع مجلس الشورى «، وبالنسبة لمجلس الشورى فقد «عقد (20) جلسة اعتيادية، أقر خلالها (13) دراسة، و(7) مشروعات ومقترحات قوانين، بالإضافة إلى (13) تقريرًا آخر.»

هذه الأرقام المنجزة لم تكن لتتحقق على الواقع لولا هذا الحرص المستمر لدى رئاستي المجلسين في توظيف الاختصاصات في مجالي التشريع والرقابة، والجهد المضني في العمل الذي يقوم به المكرمون الأعضاء في مجلس الدولة، واصحاب السعادة الأعضاء في مجلس الشورى.