أفكار وآراء

«البريكست» ومفاوضات القضايا العاجلة !!

19 يوليو 2017
19 يوليو 2017

عبد العزيز محمود -

أن المادة 50 من معاهدة لشبونة لا تحدد الالتزامات المالية المطلوبة من أي دولة ترغب في الخروج من الاتحاد الأوروبي، مما يثير جدلا حول ما إذا كانت تلك الدولة المنسحبة مطالبة بسداد التزاماتها المالية في ميزانية الاتحاد، أم تدفع تعويضات عن الخسائر المتوقعة نتيجة خروجها.  

يبدو أن الوقت مازال مبكرا للحديث عما تمخضت عنه أول جولة فعلية لمفاوضات البريكست التي بدأت في بروكسل يوم الاثنين الماضي الموافق ١٧ يوليو الجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. فالمباحثات التي أجراها الجانبان حول فاتورة الخروج وحقوق المواطنين المغتربين للطرفين والمسألة الإيرلندية جرت وسط جو من الغموض، وبدا واضحا أن إحراز تقدم خاصة علي صعيد حسم القضايا الخلافية يتطلب جولات إضافية.

ويركز الطرفان في هذه الجولة من المفاوضات، والتي تختتم أعمالها اليوم، على التوصل إلى أرضية مشتركة بشأن القضايا العاجلة، بما يسمح بالتوصل إلي اتفاق مرحلي في ديسمبر المقبل تمهيدا للانتقال لمناقشة العلاقات التجارية المستقبلية.

وبينما يسعى الأوروبيون لإنهاء مفاوضات البريكست في أكتوبر ٢٠١٨، وبما يعطي الوقت الكافي للبرلمان الأوروبي ومجلس أوروبا للتصديق على معاهدة الانسحاب قبل سريانها رسميا في 29 مارس ٢٠١٩، يحاول البريطانيون إنجاز اتفاق إطاري للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي خلال عامين.

وتأتي هذه المحاولة في إطار خطة بريطانية لإنجاز عملية البريكست على مراحل، لتخفيف الآثار الجانبية الناجمة، وبهدف توقيع اتفاق شامل للتجارة الحرة يتيح لبريطانيا التواجد في السوق الموحدة ومواصلة التعاون الأمني مع أوروبا لكن الأوروبيين يرفضون مناقشة أي قضايا مستقبلية قبل حسم القضايا العاجلة.

ويصر الأوروبيون على تسوية 3 مسائل رئيسية، قبل بدء أي مفاوضات حول الاتفاق التجاري مع بريطانيا، وتشمل حقوق مواطني الطرفين، وتسوية القضايا المالية، والحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، مع مراعاة العلاقة الخاصة بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأهمية عملية السلام في إيرلندا الشمالية.

يذكر أن بريطانيا قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي عقب استفتاء أجري في يونيو من العام الماضي، وصوت فيه ٥١.٩٪ من الناخبين البريطانيين لصالح الخروج، مقابل اعتراض ٤٨.١٪، مما أدى إلى استقالة ديفيد كاميرون من رئاسة الحكومة وحزب المحافظين، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة تيريزا ماي، وقد أعدت الحكومة الجديدة خطة للخروج أقرها مجلس العموم البريطاني .

وكانت الجولة التمهيدية للمفاوضات التي عقدت في 29 يونيو الماضي قد أسفرت عن اتفاق الطرفين علي البرنامج الزمني للمفاوضات، والقضايا العاجلة التي ينبغي تسويتها أولا، بالإضافة إلى مسائل أخرى من بينها مستقبل بريطانيا في وكالة الأمن النووي التابعة للاتحاد الأوروبي (يوراتوم) ودور محكمة العدل الأوروبية التي تمثل أعلى هيئة قضائية داخل الاتحاد الأوروبي.

كما حددت بريطانيا أهدافها من المفاوضات وأهمها إنهاء التعامل بقانون الجماعة الأوروبية الصادر في عام ١٩٧٢والتحول إلى القانون المحلي، وإنهاء اختصاص محكمة العدل الأوروبية في بريطانيا، وتعزيز اتحاد أجزاء المملكة، وحماية نظام الهجرة، وإقامة شراكة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، تتضمن اتفاقا للتجارة الحرة واتفاقا جمركيا جديدا، واستمرار التعاون في حماية الأمن الأوروبي ومحاربة الإرهاب، والوفاء بالتزاماتها كعضو في حلف شمال الأطلسي.

وتحاول حكومة تيريزا ماي إعطاء انطباع برغبتها في تحقيق تقدم، بالتركيز على نقاط الاتفاق لتعزيزها، وتحديد نقاط الاختلاف للتعامل معها، لكن التباين مازال حادا بين البريطانيين والأوروبيين حول قضايا عديدة في مقدمتها فاتورة الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ويطالب الأوروبيون بريطانيا بسداد فاتورة تتراوح ما بين ٦٠ إلى ١٠٠ مليار يورو، تمثل الالتزامات التي تعهدت بدفعها قبل إعلان نيتها للخروج، ومنها مساهمتها في ميزانية الاتحاد بين عامي ٢٠١٤ و٢٠٢٠، والتزامات مالية أخرى، لكن بريطانيا ترى انه لا يوجد أي بند قانوني يلزمها بدفع مقابل لخروجها من الاتحاد الأوروبي.

وبدون التوصل إلى اتفاق حول هذه المسألة، قد تدخل عملية التفاوض نفقا طويلا، فأعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرون يرفضون زيادة مساهماتهم، بينما يرفض الاتحاد الأوروبي إجراء أي خفض لميزانيته قد يترتب عليه الإضرار بالمشروعات التي تم الاتفاق سلفا على تمويلها.

والحقيقة أن المادة ٥٠ من معاهدة لشبونة لا تحدد الالتزامات المالية المطلوبة من أي دولة ترغب في الخروج من الاتحاد الأوروبي، مما يثير جدلا حول ما إذا كانت تلك الدولة المنسحبة مطالبة بسداد التزاماتها المالية في ميزانية الاتحاد، أم تدفع تعويضات عن الخسائر المتوقعة نتيجة خروجها.

وفي بيان أمام مجلس العموم اعترفت الحكومة البريطانية مؤخرا بان لديها التزامات مالية تجاه الاتحاد الأوروبي، لكن الخلافات ما زالت مستمرة حول قيمة هذه الالتزامات، التي تعتبرها بريطانيا في حدود ما بين 15 إلي 45 مليار دولار وتقترح سدادها خلال فترة انتقالية تتراوح ما بين 3 الى 5 سنوات.

من جهة أخرى تمثل قضية حقوق المواطنين المغتربين إحدى القضايا العاجلة التي ينبغي على البريطانيين والأوروبيين الاتفاق بشأنها قبل نهاية العام الحالي، وتشمل حقوق التنقل والمواطنة والإقامة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي والعلاج الطبي والمعاشات التقاعدية، ويوجد في بريطانيا نحو 3.2 مليون من مواطني الاتحاد الأوروبي، بينما يعيش في بلدان الاتحاد مليون بريطاني.

ويدرس الاتحاد الأوروبي اقتراحا بمنح الجنسية المشتركة لمواطني بريطانيا، إذا تقدموا بشكل طوعي للحصول على جنسية الاتحاد، حتى يمكنهم مواصلة العمل والعيش داخل القارة، بينما يتوقع استمرار النظام الحالي لحرية التنقل وحركة العمالة، حتى تنسحب بريطانيا فعليا من الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٩، وقد يمتد السماح لفترة إضافية مدتها 5 سنوات، لإعطاء الحكومة ورجال الأعمال الفرصة للتكيف، وتدرس بريطانيا ربط نظام الهجرة مستقبلا باحتياجات سوق العمل.

من ناحية أخري يحاول الطرفان خلال الجولة الراهنة من المفاوضات حسم قضية الحدود المتنازع عليها بين بريطانيا العظمى وجمهورية إيرلندا التي هي عضو بالاتحاد الأوروبي وإيرلندا الشمالية التي هي جزء من بريطانيا، وهي قضية بالغة التعقيد فالجمهورية الإيرلندية لا ترغب في إغلاق حدودها بعد البريكست مع إيرلندا الشمالية، بهدف الحفاظ علي اتفاق السلام بينهما.

ويحاول الطرفان التوصل الى اتفاق في هذه المسالة يحترم اتفاق الجمعة العظيمة الذي تم توقيعه بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأحزاب أيرلندا الشمالية في عام 1998 والذي سمح بتقاسم السلطة بين الكاثوليك والبروتستانت، وأنهى حربا أهلية دامت 30 عاما بين طوائف إيرلندا الشمالية وبينها وبين جمهورية إيرلندا.

والحقيقة أن حسم مسألة الحدود الإيرلندية سوف يتطلب وقتا وجهدا، وقد يشكل عقبة حقيقية أمام المفاوضات، فالاتفاق حول هذه القضية يتوقف على الاتفاق النهائي للبريكست وشكل العلاقات المستقبلية بين بريطانيا وأوروبا ، وهي قضايا ما زالت مطروحة للنقاش ولم يتم حسمها.

ووسط كل هذه التعقيدات تستمر مفاوضات البريكست بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي وسط وجهة نظر ترى أنه ليس المهم ما تستغرقه المفاوضات من وقت وجهد، بل المهم ما سيترتب عليها في النهاية من نتائج.