أفكار وآراء

ثمة حوار لم يكتمل!!

16 يوليو 2017
16 يوليو 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

عودة الى المجتمعات التقليدية التي تتربى على نوع معين من الصور الاجتماعية، وهذه الصور تؤثر فيما بعد على كل حركات الإنسان وتفاعلاته مع من حوله من البشر، وأكثر ما يميز هذه المجتمعات هو التسلسل الهرمي في كل مناخات الحياة اليومية ومن ضمنها ضم آليات الحوار وفق هذا التسلسل الهرمي، أكثر منه النظر في التسلسل التكافئي إلا ما ندر.

يأتي الحوار كأهم محدد في تجذير العلاقات بين الناس، ذلك أن الناس - بفطرتهم الاجتماعية - منساقون نحو بعضهم البعض، وهذا الانسياق والتلاحم له معززات: منها الأمان، والصدق، والتعاطف، وحسن النوايا، ويأتي الحوار ليوظف كل هذه المعززات على طاولة الحوار، ليصل الناس الى كلمة سواء، هذه هي الصورة الماثلة عندما يأتي الحديث عن الحوار، وبالتالي ما شذ عن هذه الصورة، فهو لا يدخل في بيئة الحوار النظيفة، والإنسانية منذ نشأتها الأولى قامت على الحوار، وأول حوار يمكن القياس عليه هو ذلك الحوار الذي قام بين ابني آدم قابيل وهابيل، والذي انتهى بقتل أحد الأخوين لأخيه، وما تبعه من حوار منولوجي، فيه ما فيه من الندم والأسف، ما بين الأخ القاتل ونفسه؛ في قصة الغراب الذي بعثه الله ليري القاتل كيف يواري سوءة أخيه، من خلال مشهد تمثيلي فيه من الحكمة والعظة، حيث قتل هذا الغراب أخاه، ومن ثم حفر حفرة في الأرض ودفنه، (فعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؛ فأواري سوأة أخي، فأصبح من النادمين) حيث أرخ هذان الحواران البدايات الأولى، ومنها انطلقت هذه الصورة الحوارية بين أي طرفين؛ جمعا أو إفرادا، فالإنسان في تعامله اليومي مع الآخر لن يستغني عن هذا الحوار في أشكاله المختلفة، لأنه يبقى الوسيلة الوحيدة للوصول الى نقطة الفصل؛ إما اتفاقا، وإما اختلافا، وفقا لسماحة الأطراف أو تشددها لذات القضية موضوع الحوار، ولعلنا نرى ذلك حتى في سلوك كثير من الحيوانات عندما تتقارب بعضها الى بعض، وهناك منها من يصدر أصواتا، أو همسا مفضي الى تفاهم ما، لأنه بعد ذلك يذهب كل واحد الى طريق آخر معاكس، وما يكتب عن مملكتي النحل والنمل، مما اكتشفه العلماء المتخصصون في البحث في مملكة الحيوان؛ لشيء عجيب من حيث التنظيم والتنسيق المفضي الى عمل أكبر من أن يوصف بالروعة، وما ذلك إلا نتائج حوار قائم صريح ودقيق بين تلك الأعداد الكبيرة من هذه الكائنات الصغيرة في أجسادها وتكويناتها، ولكنها الكبيرة في أعمالها وتأثيرها حتى على الواقع البشري بشموليته وجبروته.يسجل العالم البشري، وبما أوتي من عقل ومشاعر، مع ذلك، إخفاقا مستمرا في كثير من مناخات هذا الحوار القائم بين أفراده، وما مجموع الأخطاء والمصائب والمشاكل التي تحدث على واقع الناس، إلا نتيجة طبيعية لهذا الإخفاق، وهذا الإخفاق هو ما يسجله بما يوصف بحوار «العضل» وليس حوار العقل، وشتان ما بينهما، فالأول قائم على القوة والجبروت والطغيان والانتصار للذات، كما جاء النص الكريم؛ على لسان فرعون: (ما أوريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وهو الحوار الخاسر أبدا بلا مواربة، والثاني - حوار العقل - قائم على «كلمة سواء» ولا تزال البشرية على الرغم من تيقنها بخطورة حوار «العضل» إلا أنها لا تزال تستمرئ فعله وتوظيفه في مواقف كثيرة، إمعانا منها في الإساءة والكبرياء والتنطع، وما تؤول إليه مختلف الإساءات الى مهالك يدفع ثمنها هذا الإنسان، وذلك مرجعه في المقام الأول إلى سوء خلقه الفطري، فهناك أناس تجدهم مجبولين على المشاكسة والاختلاف على طول الطريق، ولا تجد منهم فرجة أمل، فقد اعتنقوا فهم الاختلاف لأجل الاختلاف فقط، وليس الانتصار للأصلح، وهؤلاء من أشد الناس تصلبا في المواقف، ومن أشد الناس تعبا في تليين آرائهم لتتفق مع الرأي الجمعي، ويأتي ما يعزز ذلك أيضا عوامل أخرى منها مناخات التربية خاصة عندما يكون احد قطبي الأسرة من هذا النوع المتشدد في رأيه ولا يقبل الرأي الآخر مهما كان صوابا، ومنها المجتمع؛ فالمجتمعات التقليدية، كما هو معروف تنتصر للقوة العضلية أكثر من القوة العقلية، ولذلك يكون أفرادها من هذه الفئة أيضا حتى لو قدر لها في يوم من الأيام أن تعيش في مجتمعات حديثة تؤمن بفكر الآخر وبالتعاطي معه، يظل هذا الأخ الآتي من مجتمعه التقليدي منتصرا الى ثيمة القوة وما يتسلسل منها من تصلب في المواقف، ومن الأخذ بالرأي الأوحد، والمصيبة الأكبر عندما يكون في موقع المسؤولية، حيث يا خراب المؤسسة التي يديرها، ومنها أيضا الثقافة، وهي المأخوذة أكثر من آلية التكوين الأسري والاجتماعي، وحتى لو جاءت عوامل المعرفة فيما بعد فإنها لن تغير كثيرا من القناعات المترسبة عند هذا الإنسان، وهذه من أكبر التعقيدات الموجودة في كل مجتمع بلا استثناء. وعودة الى المجتمعات التقليدية التي تتربى على نوع معين من الصور الاجتماعية، وهذه الصور تؤثر فيما بعد على كل حركات الإنسان وتفاعلاته مع من حوله من البشر، وأكثر ما يميز هذه المجتمعات هو التسلسل الهرمي في كل مناخات الحياة اليومية ومن ضمنها ضم آليات الحوار وفق هذا التسلسل الهرمي، أكثر منه النظر في التسلسل التكافئي إلا ما ندر، وفي حدود ضيقة جدان فالرأي السديد - وفق هذه الرؤية - يجب أن يصدر من رأس الهرم؛ أب، أخ أكبر، شيخ قبيلة، مسؤول، لكي يحظى الرأي المطروح في الحوار بالقبول المطلق في أغلب الأحيان، والحوار يجب أن يقوده رأس الهرم لكي ينجح، ونسبة نجاحه متوقفة على مدى رؤيته هو، وما يريده، بغض النظر إن كان هناك آراء أخرى ربما أكثر فائدة لموضوع الحوار، وبالتالي فالرأي الحسم يجب أن يصدر من أحد هؤلاء المتربعين على قمة المجتمعين، وإمعانا في هذا التأصيل، أو التكريس، يأتي النص التالي: «إذا تساوت الأصوات، يرجح الرأي الذي يصوت فيه الرئيس» أو فيما يندرج تحت هذا المعنى، وهنا تحضرني قصة جميلة وقعت في إحدى الشركات اليابانية، قرأتها منذ فترة تقول: إن هذه الشركة تعاني، منذ إنشائها من تكسر قواعد الآلات العاملة فيها..

وتمت دراسة الحالة أكثر من مرة من قبل المهندسين المتخصصين في الجانب «الميكانيكي» وكل ذلك لم يسفر عن حل جذري ينهي المشكلة، وبينما كانت العاملة المكلفة بتقديم الضيافة في الاجتماع، تعايش هذه الاجتماعات المستمرة لهذه القضية الشائكة، قالت مرة - مستأذنة - هل يمكن أن أدلي باقتراح، ولما أذن لها الرئيس، قالت: يمكن أن يكون سبب المشكلة هو سكة الحديد التي تمر من جانب الشركة، وفعلا أخذ برأيها وتمت دراسة المشكلة من هذه الناحية، ووجد أن مشكلة تكسير قواعد الآلات الميكانيكية هي فعلا ناتجة عن سكة الحديد التي تمر بجانب الشركة، فاتخذت الإجراءات الفنية التي تحول دون تكرار المشكلة، هذا نموذج للإدارات الحيوية الفاعلة، وللمسؤولية الناجزة في الفعل الجمعي، فالمسألة ليست بهرجة اجتماعات وجداول أعمال، ونقاشات لا تنتهي بنتيجة، والتي تستمر، في أغلب الأحيان الى ساعات طويلة؛ وكلها هدر للوقت، بلا نتيجة. والحوارات في عموميتها تظهر الكثير من التناقضات بين المجتمعين، ومنها تلحظ، وبصورة مباشرة، الانتصار للذات، حيث النرجسية، وعدم قبول الآخر؛ حيث التعالي، والانتصار للجماعة، وكراهية الآخر، وهذه كلها وفي مجملها تؤثر على مسارات الحوار فتضعفه، وتقلل من فرص نجاحاته، وقد تميته عن تحقيق الأهداف المرجوة من أي اجتماع، وقد تكون هناك تداعيات أخرى جانبية منها: الخوف من التبعية والمسؤولية، أو الهروب من المواجهة، أو الافتقار الى الأدلة، هذه الأخيرة تجد فئة أعضاء الحوار يدافعون بشراسة، وقد يتهجمون عليك بصورة مباشرة، ولعلنا شاهدنا كثيرا من الحوارات المباشرة في البرامج الحوارية التي تبثها شاشات التلفزة، وكيف يصل الحال الى القذف والسباب والشتائم، وهذه كلها وسائل الطرف الأضعف، فيحاول أن يكمل نقصه ويعزز قوته بمثل هذه الممارسات، وهي بالطبع ممارسات مكشوفة، وإن حاول سترها تحت عباءة هذه الممارسات الضيقة، فحرية التعبير الـ «منفلتة» من عقال الحكمة والتريث تفضي بصاحبها الى مهالك التصرف، وتقزم دوره وشخصيته أمام الآخر، وهذه مسالة مهمة لا ينتبه إليها كثير من الناس.