1053212
1053212
إشراقات

د. كهلان: «المتاجرة بالبشر».. منشأها البعد عن هدايات الدين والخلق والفضيلة

13 يوليو 2017
13 يوليو 2017

استرقاق الإنسان وإهدار كرامته واستغلال حاجته .. أهم مضامينه -

متابعة: سالم بن حمدان الحسيني -

أوضح فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أن النفوس البشرية حينما تبتعد عن هدايات الدين وعن الخلق والفضيلة تصبح الحياة غابة يفتك فيها الأقوياء بالضعفاء ويستغل فيها ذوو النفوس والمتأثلون للأموال والجاه والموارد والثروات حاجات الفقراء والضعفاء والمحتاجين من بني البشر بلا رادع ولا وازع من دين أو خلق أو حقوق يمكن أن يرعوها فتغدو الحياة البشرية بعيدة عن فطرة هذا الإنسان وعن كرامته وعن حقوقه فتعطل حينها الحقوق لمصالح فئة قليلة من البشر.وأشار إلى أننا معاشر المسلمين ننبعث في ديننا الإسلامي الحنيف في نظرتنا الى هذه الحياة من مبدأ إيماني وهو ان أصل هذا الوجود إنما هو الخالق تبارك وتعالى، وان غاية هذا الإنسان ان يسعى الى مرضاة الله تبارك وتعالى، فان لم توجد هذه العقيدة الراسخة فان محور الحياة سيصبح الإنسان، وهذا هو مكمن الخطورة، لأنه حينئذ سيغدو هدف هذا الإنسان إشباع رغباته وأهوائه وشهواته بكل ما أتيح له وسُخّر له في هذه الحياة، وهذا ما تترتب عليه كثير من الممارسات الخاطئة التي يعاني منها الإنسان وتهدر له كرامته وتعطل له إنسانيته.. جاء ذلك في لقاء فضيلته لبرنامج سؤال أهل الذكر من تلفزيون سلطنة عمان تحت عنوان: «المتاجرة بالبشر».. نقرأ المزيد في الحوار التالي:

هذا المصطلح المخيف يتردد كثيرا في وسائل الإعلام وفي شبكات التواصل وغيرها.. هناك متاجرة بالبشر.. هل أصبح ظاهرة بالفعل تسعى الى استغلال الإنسان جسديا وماديا؟

قضية المتاجرة بالبشر بما تشتمل عليه من استرقاق لهذا الإنسان وإهدار لكرامته وتعطيل لحقوقه واستغلال لعوزه وفقره وحاجته وتسخير لهذا الإنسان في مآرب دنيوية وفي إشباع رغبات، ومن إهدار لمنزلة المرأة وكرامتها، ولما آل إليه الحال أيضا في الموضوعات التي يتناولها هذا العنوان الواسع من استغلال ومن إهدار لحقوق الطفل الواجبة على أسرته وعلى المجتمع.. كل هذه المضامين التي تندرج تحت موضوع المتاجرة بالبشر بوجه أو بآخر مع تفاوت بين المجتمعات بلغت حد ان تكون ظاهرة، وهذا غير مستغرب لأن هذه النفوس حينما تبتعد عن هدايات الدين وعن أخذ المراشد من الخالق جل وعلا فيما أوحاه الى أنبيائه ورسله بعيدا عن الإيمان، وعن الخلق والفضيلة، فان هذه الأهواء وتلك الشهوات تستبد بها فتصبح هذه الحياة حينئذ غابة يفتك الأقوياء بالضعفاء ويستغل فيها ذوو النفوس والمتأثلون للأموال والجاه والموارد والثروات حاجات الفقراء والضعفاء والمحتاجين من بني البشر بلا رادع وبلا وازع من دين أو خلق أو حقوق يمكن أن يرعوها فتغدوا الحياة البشرية بعيدة عن فطرة هذا الإنسان وعن كرامة هذا الإنسان وعن حقوق هذا الإنسان ولذلك فان هذه المسألة لينبغي ان تقرر من خلال محاور ثلاثة إذا نظرنا إليها نظرا شرعيا فقهيا، أما المحور الأول: فإنه يتعلق بأصل نظرة الإنسان الى هذه الحياة، فنحن في ديننا الحنيف إنما ننبعث في نظرتنا الى هذه الحياة وفي حقيقة وجود الإنسان في هذه البسيطة من مبدأ واحد وهو المبدأ الإيماني الراسخ ان اصل هذا الوجود إنما هو الخالق تبارك وتعالى، وان غاية هذا الإنسان ان يسعى الى مرضاة الله تبارك وتعالى، فإذا تقرر هذا فهمنا ان غير هذا الإيمان لا يصلح لبني البشر، لأن محور الحياة هنا إنما هو الله تبارك وتعالى الإله الخالق المدبر المستحق جلّ وعلا للعبادة وحده المتفضل على عباده، المنعم عليهم، والذي ينقلب إليه العباد في الآخرة، فان لم توجد هذه العقيدة الراسخة فان محور الحياة سيصبح الإنسان، وهذا هو مكمن الخطورة، لأنه إذا كان محور الحياة الإنسان فحينئذ سيغدو هدف هذا الإنسان إشباع رغباته وأهوائه وشهواته بكل ما أتيح له وسُخّر له في هذه الحياة، وهذا هو المحور الأول الذي تترتب عليه كثير من الممارسات الخاطئة التي يعاني منها الإنسان نفسه والتي تهدر له كرامته وتعطل له إنسانيته، وينبغي ان تكون معالجة المسلمين لمثل هذه القضايا منطلقة من هذا المحور الأول. وأضاف: أما المحور الثاني: فهو المظلة الكبرى لكل هذه القضايا وهو صلة هذا الإنسان بالخالق وصلة هذا الإنسان ببني جنسه، فهذه ان لم تكن منبعثة من المحور الأول فإنها ستكون هدرا لا ضابط له ولا قيم أو أسس يمكن ان تحكمها وإنما سيكون غاية هذا الإنسان - فردا كان أو مجتمعا أو منظمة - إرضاء فئة قليلة ولو بدوس كرامة ملايين البشر لأن العلاقة بين هذا الإنسان وبين الخالق والتي تستمد منها علاقة هذا الإنسان بأخيه الإنسان لن يكون لها أساس، سوف تكون خاضعة لذوي النزوات والنفوذ والسلطة والهيمنة في هذه الأرض. أما المحور الثالث: هو محور الأخلاق فان لم يوجد دين ولم تقم علاقات بني البشر فيما بينهم ومع خالقهم على أسس من العبودية والحقوق المنضبطة الواضحة فلا اقل من وجود مظلة أخلاقية، لكن إذا انعدم الإيمان وتاهت البشرية في معرفة حقوق خالقها وحقوق بعضها على بعض فما هو مستمد الأخلاق حينئذ؟ ولذلك فينبغي بل الواجب ان ينظر الى مثل هذه القضايا من المحور الثالث الذي هو الأخلاق لأن هذا الدين جعل الأخلاق من الثوابت.. كما هو شأن العقيدة وكما هو شأن الشريعة التي أرساها الله سبحانه وتعالى لتكون ضابطة لمصلحة ولأحوال بني البشر في هذه الحياة جالبة للسعادة لهم نافية لوجوه الفساد والظلم عنهم في الحياة جالبة للسعادة لهم في الآخرة فان ذلك كله لا بد ان يؤطر بإطار من الأخلاق والفضيلة والقيم وكل ما يندرج تحت معنى الكرامة والإنسانية ولذلك نجد ان الله تبارك وتعالى يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، ويقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ففي هاتين الآيتين كما في غيرهما من الآيات القرآنية، نجد هذه المحاور الثلاثة: الإيمان بالله تبارك وتعالى، والصلة بين العباد وخالقهم، وبين العباد بعضهم ببعض، ونجد الأخلاق الكريمة الفاضلة والأسس القيمة التي تبنى عليها حياة هذا الإنسان وحضارته.

مكافحة الظاهرة

الذين يقولون بمادية هذه المحاور وان الإنسان يمكن ان يضع لنفسه دستورا وأخلاقا وان البشرية يمكن ان تجمع على ذلك فيما يسمى بالعقد الاجتماعي، هناك الآن «أمم متحدة» وهناك «مجتمع دولي»، وهناك منظمة كثيرة تعنى بالإنسان تلاحق أولئك الذين يحاولون إيذاءه.. كل هذه القوانين وكل هذا المجتمع الدولي ألا يمكن ان يوفر ضمان حماية لهذا الإنسان في رأيك؟

ما الذي دعا بعض العقلاء إلى التنادي لمكافحة ظاهرة الاتجار بالبشر؟.. ما لا يعرفه كثير من الناس هو ان بعض البلدان المتقدمة فيها أسوأ أنواع استغلال الإنسان.. فإلى يومنا هذا بعض البلدان المتقدمة في الفترة من عام 1970 إلى عام 2005م بلغ عدد الرقيق الذين عُـبّدوا بالأنماط المعاصرة للرق من عشرة آلاف الى ثلاثة عشر ألفا بحسب وسائل الاعلام في تلك الدول نفسها، وهي من البلدان الرائدة المتقدمة، وأيضا استغلال الأطفال جنسيا لذوي السياسة ورجال الأعمال والرجال القائمين على الشرطة والأمن بلغ حدا أزكم الأنوف في هذه البلدان المتقدمة، الى حد أنه صار من القضايا التي تقرر لمن يصوت الناس، كما أن أسوأ الاستغلال الجنسي والعمالي وفي حقوق المرأة وفي الدعارة والاستغلال الجنسي توجد في أقبح صورها في اكثر البلدان تقدما بحسب المنظور المادي اليوم، والذي يستغل إنما هم أولئك الضحايا من البلدان الضعيفة والفقيرة الغارقة في الجهل البعيدة عن مراشد هذه الحقوق والتي لا تمتد إليها أيادي المنظمات الدولية ولو بالتعليم ونفي الجهل ومكافحة الفقر عنها، وهذا ما انكشف في وقت كانت هذه البلدان تدعي أنها ترجع الى منظمة من القيم والأخلاق مستمدة من أديانهم ومللهم ومن عقد اجتماعي، فكيف إذا كنا بلغنا اليوم حدا في انطماس الفطرة الإنسانية البشرية بإجازة أنواع أخرى من الزواج، كالزواج المثلي وإقرار الشذوذ الجنسي بمباركة من بعض الكنائس فكيف نتصور الحال اليوم إذا كانت هذه المجتمعات قد انحطت في دركات الرذائل وانطماس الفطرة البشرية الإنسانية الى هذه المستويات، ولذلك فالذي دعا الى النظر في مثل هذه الملفات هو تفاقم الأوضاع وبلوغ فروع وجزئيات قضايا الاتجار بالبشر مبلغا ما عاد يحتمل. وأوضح قائلا: وكما تقدم فانه عندما ينعدم الإيمان لا يصبح لهذا الإنسان وازع ولا رادع وحينما يختل في نظره صلته بالخالق وصلته ببني جنسه وحينما يظن ان الكرامة الإنسانية إنما هي منة من الإنسان لغيره من بني البشر وانه يتحكم فيها وليست هي هبة إلهية لكل بني البشر، وحينما تعطل الحقوق لمصالح فئة قليلة من البشر، وحينما تدير هذه الشبكات عصابات تتمول الملايين، بل المليارات من الأموال وتديرها فلا شك ان المسألة جاوزت حدود العقل ولذلك يتنادى العقلاء الى إعادة النظر في مثل هذه القضايا.

هل هي مبالغة؟

حتى لا نكون متحيزين لأن البعض قد يقول ان نقاشات المسلمين دائما تلقي اللوم على الغير فقط، فهؤلاء الذين ذكرتهم يصنفون منطقة الشرق الأوسط بأنها منطقة تنشط فيها ظاهرة الاتجار بالبشر.. وهي منطقة مسلمة، والإسلام جاء لحماية الإنسان. هل هي مبالغة؟ أم أن هناك بالفعل ما يدعو الى مراجعة هذا الموضوع؟

نحن لا نستحي أبدا من الاعتراف بالحق، ومن السعي الى تصحيح الأخطاء، بل هذا من ألزم واجبات المسلم، وهناك ممارسات خاطئة في بلاد المسلمين، ليست في منطقة الشرق الأوسط فحسب بل في عموم بلاد المسلمين، لكن أساسها البعد عن الدين، ثم الجهل، ثم الفقر في كثير من بلدان المسلمين، ثم طغيان النظرة المادية الاستهلاكية في أنماط حياة المسلمين ذوي الغنى واليسار، وأيضا التفكك الأسري فلابد للمسلمين ان يعترفوا بماهم واقعون فيه من أخطاء، والذي رأيته بنفسي ان المسلمين لا يجدون غضاضة في الاعتراف بأخطائهم وهذه ظاهرة صحية ويسعون الى تصحيحها عبر لجان وطنية وتوعية دينية وعلمية وخلقية، وعبر مكافحة الأسباب المفضية الى الاتجار بالبشر وعبر الالتفات الى حقوق العمال وحقوق المرأة، وحل القضايا المتصلة، لكن هنا ينبغي ان نؤكد على حقيقة يقع فيها بعض الدعاة وبعض الوعاظ وبعض الفقهاء الذين يطرحون هذه القضية، كما يقع فيها أيضا في الطرف الآخر بعض الكتاب وبعض المثقفين، فمن جانب تجد ان المشتغلين بالعلوم الشرعية دائما ما يلحون على ان للإسلام السبق وان لهم حيازة قصبات السبق في مثل هذه المبادرات، وفي الطرف الآخر تجد العتب: أين كنتم؟ لم لم تتحدثوا عن هذه القضايا؟ وعن أمثال هذه المبادرات ولم لم تكونوا انتم السباقين أيضا في تقديمها الى العالم؟.. وأنا لا اعرف من أين نشأ الظن بأنه لابد ان يكون للمسلمين سبق في المبادرات الإنسانية العالمية؟.. صحيح على المستوى النظري لكن المسلم ينشد الحق ومتى وجده فهو أحق به، والحق ألزم عليه، وليس له ان يتغافل عنه او يعرض عنه. وأشار الى أننا نجد في هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انه ما دعي الى خطة خير وإلى دعوة فيها إرساء لفضائل ومكارم إلا ويبادر إليها عليه الصلاة والسلام فقد ثبت عنه صلى عليه وسلم انه قال: «لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفا لو دعيت الى مثله في الإسلام لأجبت» وهو يشير إلى ما يعرف بحلف الفضول وقيل حلف المطيبين وهو غير الحلف الذي كان قبل ولادته عليه الصلاة والسلام، ففي هذا الحديث نجد ان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجد غضاضة في ان يستجيب الى حلف يكون فيه رفع الظلم عن المظلومين وإغاثة للملهوف وأداء للحقوق وبسط للعدل، ويؤكد هذا المعنى عند صحابته رضوان الله تعالى عليهم، وكذلك في صلح الحديبية التي يظهر في بعض شروطه انها مجحفة لكنه صلى الله عليه وسلم آثر خطة السلام وموادعة لكي تنتشر الدعوة في إرجاء الجزيرة العربية ويسمع بها الناس في العالم كله ولكي يتمكن من إيصال هذا الحق الى الناس جميعا. فنعم يجب علينا ان نكون نحن المسلمين أصحاب مبادرة ولكن لا يعني هذا انه من اللازم علينا ان نكون سباقين دائما فهناك تعاون وتكامل بين بني البشر. وأشار الى ان الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بجوهر هذا الموضوع نجد ان خطابه خطاب إنساني عام، فعندما يأتي صلى الله عليه وسلم ويقول: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوف له» فهنا لا يذكر صلى الله عليه وسلم الطرف المتعامل معه لأن المقصود ان يكون التعامل مع كل بني البشر وفقا لهذه المبادئ والحقوق اللازمة على المسلم نحو غيره.