أفكار وآراء

رفع الفائدة ومكافحة التضخم

12 يوليو 2017
12 يوليو 2017

مصباح قطب -

إنه يعاكس ألف باء الاقتصاد أو السياسة النقدية. “قرار مدمر”. هذه هي بعض الألفاظ التي تم استخدامها في تقييم قرار للبنك المركزي المصري الخميس الماضي برفع سعر الفائدة بـ200 نقطة أساس. رفع الفائدة الذي تم يضاف إلى رفع في نوفمبر 2016 بقيمة 300 نقطة بالتوازي مع تحرير سعر الصرف، ومع رفع آخر في مايو الماضي بواقع 200 نقطة ليكون المجموع 7%.

في مثل تلك الأجواء ومع مثل هذه المفردات تكون المناقشة الموضوعية عصية أو مستحيلة. البنك المركزي المصري مؤسسة راسخة وقوية ولديها كوادر على أعلى مستوى في جانبي الشؤون الاقتصادية والمصرفية. لكن السياسات الاقتصادية عموما ومنها بالطبع السياسة النقدية هي جدلية بطبيعتها وتحتمل اجتهادات وقراءات وتباينات في وجهات النظر لا أول لها ولا آخر، لكن التقييم الموضوعي أو الفحص الدقيق لمثل تلك الأمور ذات الطابع الفني المعقد يجب أن يكون عند نفس مستوى المؤسسة التي نناقشها ونفس مستوى القرارات وأثرها. ونأسف أن بعض الكتابات الانطباعية أو الانفعالية أو حتى غير الواعية أو غير البريئة على صفحات التواصل أصبحت توجه النقاش العام وهذا أمر محزن للغاية. افهم أن يختلف الناس حول الحدود التي يجب أن يقف عندها او حولها قيادات المركزي فيما يتعلق بالحديث مع الميديا. وكلنا يعرف قصة مراقبة الصحافة في الولايات المتحدة لكل همسة من محافظ المركزي لبناء توقعات عليها وكيف أن آلان جرينسبان بالذات كان يتعمد خداع الميديا بأن يطلب من زوجته أن تملأ حقيبته وهو يغادر البيت إلى البنك بـ”الساندويتشات” في أوقات معينة حتى يظن أهل الميديا أنه كان يدرس قرارا ما في البيت حين يرون الحقيبة منتفخة بما يحسبونه أوراقا بينما هي مليئة بالطعام كما قلنا. افهم ان يختلف الناس أيضا حول المعنى الدقيق لعبارة التنسيق بين السياستين المالية والنقدية وهل يشمل ذلك بالضرورة موافقة المالية على أي رفع للفائدة؟ لان الخزانة العامة هي أكبر من يتضرر من رفع الفائدة إذ أن الحكومة اكبر مقترض .. مع مراعاة أن ذلك لو حدث بهذه الطريقة لكان تعارضا للمصالح إذ كيف يقرر صاحب مصلحة أولى هكذا مستوى الفائدة دون نظر إلى الاعتبارات الأخرى؟  كما ان ذلك لو حدث فهو ينتقص بالفعل من استقلالية المركزي. ظني أن الوضع الصحيح هو أن ينظر المركزي إلى كل الاعتبارات ومنها اعتبار وضع العجز في الموازنة ومستهدفاته والنمو المستهدف حين يقرر رفع أو خفض الفائدة جنبا إلى جنب مع العوامل الأخرى كمستوى التدفقات وسعر الصرف والتضخم وحركة الائتمان الخاص والعام وأسعار الفائدة عالميا واتجاهات السيولة الدولية وهكذا، افهم أيضا أن يخاف البعض وقوع نتائج غير طيبة نتيجة اتخاذ قرارات يحركها غرور المركزي بما تحقق من نجاحات نقدية أو اقتصادية في وقت قصير أو قيامه باتخاذ أصعب القرارات، وعلى رأسها تحرير سعر الصرف بشكل يفاجئ الجميع، وبالتالي قد يتخذ قرارات فيها قدر من التسرع اعتقادا منه بأنها تعزز هذا النجاح بينما قد لا تكون نتيجتها جيدة بالفعل. هذا عامل بشرى مقدر. . اتفهم كذلك أن يختلف الناس مع الأسس التي يبني عليها المركزي اعتباراته في قرارات سعر الفائدة والأهداف التي يتوخاها وهل سيتحقق من جرائها سحب سيولة من السوق وكبح للتضخم بالفعل؟.

كل وجهات نظر من هذا النوع مطلوبة لكننا نهين عقولنا - وبنكنا المركزي - حين نردد وراء من لا علم لديهم أن المركزي خالف ألف باء الاقتصاد.

إذا قد يتحفظ المرء على رفع الفائدة هذه المرة أو المرة الفائتة بالمخالفة لكل التوقعات الفنية من الخبراء وبيوت الاستثمار تقريبا. لكن على كل صاحب وجهة نظر أخرى أن يحاول طوال الوقت أن يفهم المركزي قبل الحكم عليه وان يقرأ بيانه عن رفع الفائدة وما بين السطور فيه قبل أن يدلي بدوله نحوه. لقد فوجئت المرة قبل الماضية بأن كل المعلقين تقريبا لم يقرأوا بيان المركزي برفع الفائدة 200 نقطة أساس ودليلي أن أحدا منهم لم يتطرق إلى اهم نقطة فيه وهي تعهد المركزي لأول مرة بالوصول بالتضخم إلى 10 % زائد أو ناقص 3 في الربع الأخير من 2018. القانون يؤكد أن هدف البنك المركزي المصري هو السيطرة على التضخم وقد طالبه اقتصاديون كبار من قبل ومن بينهم الدكتور أحمد جلال بأن يعلن مستهدفه للتضخم لكنه لم يفعل وأخيرا قال بها فكيف لا يعني احد بذلك؟. قال المركزي في بيانه هذه المرة انه يرفع الفائدة بشكل مؤقت وهي عبارة غريبة تحسبا للصدمة التضخمية الإضافية الناتجة عن رفع أسعار الوقود يوم 29 يونيو، والكهرباء، وزيادة القيمة المضافة بواقع 1% من أول العام المالي الحالي لكنه تعهد بتحقيق هدفه المعلن والمشار إليه والخاص بالربع الأخير من 2018.

بعيدا إذا عن كل ذلك فقد لاحظ الجمهور المتابع أن اجتماع لجنة السياسة النقدية المرة الفائتة والخميس الماضي طال إلى مدى زمني غير مسبوق (عدة ساعات في كل مرة) ما يدل إما صعوبة التقييمات داخل اللجنة ذاتها أو محاولة للإحاطة بكل المتغيرات الإيجابية والسلبية التي يمكن أن تنجم عن القرار.

وكان اكثر المدافعين عن الرفع هم رجال البنوك وهؤلاء مع كل الاحترام لهم يعبرون عن مصالح المصارف التي تشتري اذون الخزانة والتي ستزيد عوائدها برفع الفائدة وبالتالي كان يجب عرض أصوات أخرى تؤيد التوجه ولديها أسانيد أخرى وهناك بالفعل من لفت نظرنا إلى أن الجهاز المصرفي المصري لم يهتز مطلقا خلال التحول السريع إلى تحرير سعر الصرف وتغيير السياسات الاقتصادية عقب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على الرغم من أن مثل هذا التحول ترك بنوكا في حالة انهيار في دول سارت على نفس النهج وانه بالتالي يجب الوثوق في قرارات المركزي الخاصة بلب السياسة النقدية وهي إدارة السيولة وتحديد أسعار الفائدة  الأساسية.

أيضا كان هناك بعض الغموض فيما يخص رفع الفائدة، فبيان المركزي جاء شديد الاقتضاب ما جعل الناس تخشى أن يكون للمركزي هدف آخر غير معلن كأن يكون جذب مزيد من الاستثمار الأجنبي غير المباشر عبر إغرائه برفع الفائدة على أدوات الدين الحكومية وان المركزي يخشى حدوث قدر من الدولرة حينما يبدأ في سداد التزامات خارجية كبيرة مستقبلا وبالتالي قرر أن يجتذب ما يستطيع من سيولة محلية لمنع أي مضاربة على العملة مرة أخرى. وان صح ذلك فهو ليس عيبا ولكنه يمكن أن يكون محل خلاف بالفعل.

قال كثيرون وعن حق: إن رفع الفائدة قليل التأثير على التضخم خاصة في حالة مصر حيث اقتصاد “الكاش” هو السائد وحيث إن 15% فقط من البالغين يمتلكون حسابات مصرفية، لكن المركزي لم يلتفت إلى ذلك ولم يوضح اثر رفع الفائدة من قبل (وان كان تقييم اثر الرفع يتطلب بحق مدى زمني أطول) ولم يوضح أيضا سبب ثقته في ان الرفع سيؤتي الثمار التي ينتظرها. أخشى أنه يراهن على أن التضخم سينزل بقوة في نوفمبر المقبل دون أي جهد وقد يصل إلى 20% نظرا لتغيير سنة الأساس فبعد أن قسنا إلى عام منخفض التضخم (قسنا نوفمبر2016 إلى نوفمبر 2015) ما جعل نسبة الارتفاع كبيرة، سنقيس إلى عام مرتفع أصلا ما سيجعل التضخم يبدو اقل بكثير.

قال القائلون بأن الرفع سيؤثر على الاستثمار وردي عليهم: نعم! لكن القول أيضا ليس دقيقا، فهناك ضعف في الاستثمار الخاص، وفي معدل الاستثمار عموما ولكن لأسباب أخرى، كما ان اثر الفائدة محدود على ائتمان القطاع الخاص، ولكي نقيس ذلك بدقة علينا ببساطة أن ندرس علاقة سعر الفائدة بالطلب على الائتمان لسنوات طويلة وندرس أيضا طبيعة المقترضين، ونسبة ما يحصل عليه الكبار من الائتمان الخاص، ومدى تحمل كل قطاع للرفع، ونسبة الديون إلى أصول الشركات والفرق بين مرونة الطلب الحكومي على الائتمان ومرونة الخاص عند الرفع الخ ، لكن من حق المستثمرين أن يخشوا انخفاض الطلب فعلا مع الفائدة العالية التي تغري المواطنين بالادخار بدلا عن الاستهلاك، لكن لو ان المستثمرين سلموا بذلك لكان معناه ان رفع الفائدة سيكبح التضخم فعلام يلومون المركزي ساعتها؟ وهو الذي يقول لهم -دون أن ينفوا هم- إن التضخم الأقل افضل للاستثمار حتى ولو مع فائدة مرتفعة؟

الاتجاهات الحديثة في العالم تنحى باتجاه أن يعلن المركزي التضخم المستهدف ويعلن معه سعر الفائدة أيضا، ولعل مركزينا يأخذ بهذا التوجه وهو تحد يجب خوضه. واثق في أن محافظ المركزي سيفعلها فلديه تصميم على التحديث لا يبارى فيه.