1053294
1053294
تقارير

علماء الهند والعرب.. كيف طوّروا العلوم التطبيقيّة؟

06 يوليو 2017
06 يوليو 2017

د. صاحب عالِم الأعظميّ الندويّ -

لقد بدأ اتّصال العرب المُسلمين بالثقافات الأجنبيّة منذ العصر الأمويّ، ولم يكُن ذلك الاتّصال في حدود ضيّقة أو ضئيلة، لأنّ الفتوحات الإسلاميّة في المناطق الشرقيّة والغربيّة قدّمت لهم أرضيّة خصبة للتعرّف إلى هذه الثقافات عن كثب، وهذا يدلّ على أنّ العقل العربيّ بدأ يستعين بالثقافات الأخرى في مرحلة مبكّرة من الصعود الحضاريّ، ونستطيع القول إنّ الدولة الأمويّة، وبمثل هذه المُبادرات، مهَّدت أرضيّة مُناسِبة للدولة العبّاسية لتطوير عمليّة نقل ثقافات أخرى من المناطق الشرقيّة والغربيّة على حدّ سواء وتطويرها، ومن هنا أخذ ذلك الاتّصال يتّسع ويتعمّق ويأخذ مجراه البعيد في العقليّة العربيّة والفكر الإسلاميّ منذ بداية تأسيس الدولة العبّاسية، ولاسيّما في عصرَيْ كلٍّ من الخليفة هارون الرشيد والمأمون.

السؤال المطروح هنا هو عمّا إذا كانت الدولة العبّاسية ورموزها قد أقبلت على الثقافات الأخرى عشوائيّاً، أي من دون التفكّر في ما تريده لبنائها الجديد ولمواكَبة الحضارة؟ فلو كان الأمر كذلك لكانت الدولة والعلماء قد اكتفوا بنقل كُتب العلوم نقلاً حرفيّاً، لكنّ الترجمات العربية للعلوم الفارسية والهندية واليونانية، تؤكّد على أنّ حركة الترجمة التي بدأت منذ العصر الأموي وبلغت ذروتها في عصر الدولة العبّاسية، لم تكُن استيراداً لهذه العلوم الأدبية والتطبيقية، وزرعاً لها في البيئة العربية الإسلامية، بل كانت استجابةً طبيعية لمتطلّبات نشاطٍ علميّ وبحثيّ واسع المدى، كان قائماً على قدم وساق في نطاق الحضارة العربية الإسلامية، وهو نشاط تفرضه شروط التقدّم والتنافس على كلّ أمّة تريد المكانة اللّائقة بها بين الأُمم، وفي الوقت نفسه تلبّي احتياجاتها الخاصّة في مجال العلوم التطبيقية.

نظام «أيورويد» الطبّي

وعلى أيّ حال، شهد العصر العبّاسي حركة علميّة واسعة الأطراف قوامها الترجمة والتأليف والتدوين معاً، وقد أسهمت في هذه الحركة ثلاث ثقافات أجنبية رئيسة، شكَّلت الدعامات الأساسيّة التي قام عليها صرح الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن الثاني الهجري، وهي: الثقافة الهندية، والفارسية، واليونانية، وكانت الهند من روّاد الروافد العلمية في العصور القديمة، بحيث كان لها باع طويل في الحكمة والفلسفة، فضلاً عن المعرفة الواسعة بالحساب والرياضة والفلك والتنجيم والطبّ...إلخ. وحقيقة الأمر أنّ هذه العلوم لدى الهنود القدماء كانت مقتبَسة في الأساس من الكُتب الهندية القديمة المتمثّلة في الملاحق الضخمة لكِتاب «الويداس» المقدَّس وهو مقسَّم إلى أربعة ويداس يُطلق عليه «رويد، وسام ويد، ويجر ويد، واتهرويد». وثمّة لكلٍّ من هذه الويداس الأربعة أربعة ملاحق يُطلق عليها «أُپ ويداس»، وتعني حرفيّاً موضوعات إضافية تتعلّق بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية...إلخ، وتمّ إلحاقها بـ«الويداس» في العصور المتأخّرة ما قبل الميلاد بقليل، وذلك بعدما تطوّرت هذه العلوم، ومن بين هذه الملاحق، ثمّة ملحق خاصّ بالعلوم التطبيقية يتعلّق بالحساب والجبر والفلك والتنجيم...إلخ، فضلاً عن ملحق خاصّ بعنوان «أيورويد» أي «عِلم الحياة» (علوم الطبّ والصيدلة). ويشرح هذا الملحق علوم الطبّ والصيدلة وفروعها مثل عِلم الكيمياء، والتشريح، والجراحة، والبَيطرة، والصيدلة...إلخ، فضلاً عن تفاصيل عن أنواع الأمراض والوصفات الطبّية وطُرق المداواة والعلاج بالأعشاب والعقاقير والأحجار الكريمة والمعادن الطبّية وما إلى ذلك من الموضوعات الطبّية المهمّة، ومن هنا، فإنّ النظرية أو القواعد الأساسية للعلوم التطبيقية ولنظام «أيورويد» الطبي أو الطبّ الهندي محفوظة في هذا الملحق الخاصّ بأتهر ويد.

ونستطيع القول، وذلك في ضوء المصادر الهندية، إنّ أفضل الأعمال التطبيقية والطبّية التي دوّنها علماء الهند في العصور الهندوسية تتمثّل في ثلاث موسوعات كبيرة أحدها «السند هند»، وهو اسم محرَّف عن «برهمبت سدهانت» السنسكريتية، وقد أخذ علماء العرب القدماء الجزء الأخير من هذا الاسم أي «سدهانت» و جعلوه سند هندا أو سندهاند وجعله المتأخّرون «السند هند». وكلمة «سدهانت» معناها «المعرفة والاستقامة»، وهذا الكِتاب عبارة عن خمسة مجاميع تجمع في طيّاتها علوم النجوم والحساب والفلك وغيرها، وذلك تحت عناوين مستقلّة: «سوريا أو سورج سدهانت، بسشت سدهانت، پلس سدهانت، رومك سدهانت، براهم سدهانت»، أمّا العلوم الطبّية الهندية فتتمثّل في موسوعتَين كبيرتَين إحداهما «سسروتا سامهيتا» في عِلم الجراحة والأدوات الجراحية، دوَّنها عالِمٌ وطبيب «سسروتا»، أمّا الموسوعة الثانية الطبّية فدوّنها چراكا أو چرك بعنوان «چراكا سامهيتا»، وقد تمّ تدوينهما عام 600 قبل الميلاد، وهي الفترة التي يطلق عليها في الهند «الفترة الويديّة».

وقد اعتمد العلماء والأطبّاء الهنود من الهندوس والبوذيّين في ما بعد على هذه الموسوعات في إعداد كُتبهم وأعمالهم الخاصّة بالعلوم التطبيقية والطبّية، وتمّت كذلك ترجمتها من ضمن الكُتب الطبّية والتطبيقية في عصر الدولة العبّاسية.

وكانت هذه العلوم الطبّية والتطبيقية تحت سيطرة العُلماء الهندوس والبراهمة المتعصّبين وبعض المؤسّسات العلمية الواقعة في بنارس في شمال الهند إلى أن نشأت الديانة البوذية وانتشرت في داخل الهند وخارجها في الصين واليابان، فقام البوذيّون الهنود بإنشاء بعض المؤسّسات العلميّة الكبرى مثل جامعة تكشلا مها ويهارا قرب بنجاب والسند، ونالندا مها ويهارا في منطقة بهار في شمال الهند في القرن الخامس الميلادي، واستمرّت فيهما النشاطات التعليمية منذ ذلك الوقت إلى القرن الثالث عشر الميلادي أي القرن السابع الهجري، وكانت هذه المؤسّسات العلمية جامعة متكاملة، وكانت لها شهرة واسعة، وفي ذروة نشاطها العلمي والمعرفي كانت تضمّ أكثر من عشرة آلاف طالب من الوافدين والمحليّين، وكانت تدرَّس فيها موضوعات مختلفة بما في ذلك الدراسات البوذية والهندوسية، والتاريخ، والفلسفة والأديان، والقانون، وجميع العلوم التطبيقية من طبّ وهندسة وفلك..إلخ، وقد تطوّرت العلوم الطبّية والتطبيقية في تلك الفترة، وظهرت مؤلّفات كثيرة في مجال العلوم والفنون، أمّا الذين تخرّجوا في هذه المؤسّسات التعليمية من الهنود والوافدين فقاموا بنقل العلوم الطبّية والتطبيقية إلى كلٍّ من فارس والصين واليابان وغيرها، وتفيد المصادر الهندية والعربية والفارسية عن وجود الأساتذة الهنود في جامعة جنديسا بور في إيران. ولدى وصول الإسكندر إلى الهند استفاد العلماء اليونانيّون من العلوم الهندية بشكلٍ مباشر، ونقلوها إلى اليونان والغرب، وعلينا أن نذكر في هذا المقام أنّ تعصّبات البراهمة العلمية والمعرفية، ولئن أدّت إلى عدم نشر العلوم والفنون بشكلٍ واسع في تلك المرحلة التاريخية، إلّا أنّها قامت بصيانة العلوم الهندية من التأثيرات الخارجية، وهذا يعني أنّ المدرسة الهندية للعلوم الطبّية والتطبيقية كانت مدرسة مستقلّة تمام الاستقلال؛ ولذلك لا يُعرف في أيّ كِتاب طبّي وعلمي هندي يعود إلى تلك الحقبة أثرٌ يوناني أو فارسي أو صيني، في حين كان التأثير حاصلاً في الاتّجاهات الأخرى؛ فكان العلماء والأطبّاء اليونانيّون والصينيّون المتأخّرون على معرفة بكثير من الآثار الطبّية والعلمية الهندية، وتمّ إثبات ذلك في كثير من الدراسات الهندية والغربية، ولم يُعثَر في الوقت نفسه على دليلٍ يؤكّد التأثير اليوناني في العلوم التطبيقية والطبّية، وهذا هو الأمر الذي دفع بعض المُستشرقين إلى التشكيك في صحّة الكلام على التأثيرات اليونانية في العلوم التطبيقية والطبّية الهندية، أو على المؤثّرات الهندية في الطبّ اليوناني- اللّاتيني المتأخّر، إلّا بوساطة الترجمات العربية.

وعلى أيّ حال أدّى قيام الدولة العربية في السند في نهاية القرن الأوّل الهجري إلى تقوية العلاقات العربية الهندية بشكل كبير، وقد استمرّت مِنطقة السند والبنجاب والملتان في تبعيّة الدولة العبّاسية إلى القرن الرابع الهجري، وحينما أولت الدولة العبّاسية اهتماماً بنقل العلوم الهندية إلى العربية وتفسيرها ثمّ تطويرها ونقلها إلى الحضارات المُعاصرة لها، استفادت منها بوساطة ثلاثة روافد رئيسة، أوّلها: الرافد الفارسي غير المباشر، وثانيها: الرافد اليوناني غير المباشر، وثالثها: الرافد الهندي المُباشر، وممّا هو جدير بالذكر أنّ معظم العلماء الهنود الذين وصلوا إلى بغداد من خلال مدرسة جنديسابور أو من المؤسّسات التعليمية الهندية بشكلٍ مباشر تحت رعاية البرامكة، كانوا من البوذيّين وليسوا من البراهمة.

وعندما نبحث عن المصادر الهندية التطبيقية والطبّية في المصادر العربية نجد أنها لا توفِّر لنا معلومات كافية عن تلك المصادر ومصنّفيها، بل تمّ تحريف أسمائهم وأسماء كُتبهم بشكل كبير. وهناك فهرس طويل لهذه الكُتب التطبيقية والطبّية في المصادر العربية مثل «الفهرست» لابن النديم، و«عيون الأنباء» لابن أصيبعة، و«أخبار الحكماء» لجمال الدّين القفطي وغيرهم، الذين اكتفوا بذكر أسماء الأطبّاء والعلماء الهنود ومؤلّفاتهم فحسب، من دون ذكر مضامينها وتخصّصاتها في معظم الأحيان.

إنّ ما حدث هو في الواقع أمرٌ طبيعيّ، لأنّ الترجمات الأوّلية للكُتب الفارسية واليونانية والهندية تؤكّد لنا أنّ حركة الترجمة في عصر الدولة العبّاسية لم تكُن نقلاً خالصاً، بل كانت حركة تفاعليّة بين الناقل والمنقول عنه، وبالتالي صار النصّ الأصليّ خاضعاً للتدقيق والتمحيص والتصحيح والتطوير، وذابت شخصيّة الأصل تماماً، وذابت هويّة مؤلّفه أيضاً، ولم يبقَ سوى المُنتَج النهائي الذي تعاقبت عليه أيدي المؤلّفين والمُترجمين والمفسّرين والنّاسخين.

ولا شكّ أنّهم انتهجوا المنهج الدقيق والشامل في حركة الترجمة، ولولا ذلك لكان من المستحيل أن يتمكّنوا من تطوير العلوم التطبيقية بعد نقلها إلى اللّغة العربية وتوظيفها في أعمالهم العلمية في ما بعد، بحيث جعلوا منها فنوناً صالحة ومفيدة للأجيال القادمة، بعد أن وسّعوا فيها ونظّموها تنظيماً دقيقاً وشاملاً، ولم يكُن بإمكانهم كذلك النجاح في عملية نقل العلوم التطبيقية والطبّية المتطوّرة إلى الشعوب غير العربية في عصر ذروة الحضارة الإسلامية.

نستطيع القول إنّ العرب استفادوا من العلوم التطبيقية والطبّية الهندية بشكلٍ مباشر، وإنّ العلماء الهنود قاموا بدَور رياديّ في بناء هذه العلوم وتطويرها، وعند النَّظر في الأعمال العلمية المُترجَمة عن الهندية يتّضح جليّاً حجم العلاقات الثقافية والتبادُل الثقافي بين الطرفَين، ما أدّى إلى توطيد العلاقات في العصور الإسلامية، كما يمكننا تصوّر البيئة العلمية الصالحة التي وفّرتها الدولة العبّاسية للعلماء والأطباء والمفكّرين.

وفي نهاية المطاف نستطيع القول إنّ الخدمة الجليلة التي قدّمها العرب والمسلمون إلى الثقافة والعِلم والحضارة العالمية، هي الحفاظ على علوم الشعوب الأخرى، من هنود وفرس ويونانيين، ونقلها إلى العربية وتطويرها، ولولا هذا الدَّور لكانت تلك الأعمال الثقافية والحضارية قد اندثرت، وهذا يمثّل خدمةً لا تقدَّر بثمن.

*باحث أكاديميّ من الهند

بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي