yousef
yousef
أعمدة

لحظة في حياة أم كلثوم

23 يونيو 2017
23 يونيو 2017

يوسف القعيد -

ما زالت أصداء جنازة أم كلثوم أسمعها في أذني. بكاء الناس وإصرارهم علي وداعها حتي مثواها الأخير. يومها قلنا لأنفسنا أنها أضخم جنازة بعد جنازة عبد الناصر سنة 1970. لم تكن في نفس الضخامة. ولكنها كانت جنازة مهيبة. عبرت الجماهير المصرية والعربية عن حبها لها ولفنها وغنائها وصوتها.

بعد رحيلها صدرت عنها كتب ودراسات وحكايات يمكن أن تشكل مكتبة لمن يشاء الاحتفاظ بها. وأتمنى أن تكون موجودة في متحفها بمنيل الروضة بالقاهرة. وأن توجد من كل دراسة أكثر من نسخة. وأن يتم الاحتفاظ حتى بالدراسات المكتوبة باللغات الأجنبية. فأم كلثوم جزء عزيز وغالٍ من تاريخنا الذي يجب أن نحافظ عليه وأن نحتضنه وأن نعلي من شأنه.

من الأعمال التي صدرت عن أم كلثوم رواية أتوقف أمامها اليوم.

التلخيص والعرض قد يكونا خيانة للنص، عندما يكون رواية، ولذلك ما أقوم به الآن هو مجرد استعارة من النص نفسه، وليس تلخيصاً له، كان صرحاً من خيال رواية من تأليف سليم تركية، ومن ترجمة بسام حجار، وصادرة عن دار المسار للنشر والأبحاث والتسويق في بيروت. ولأن معظم دور النشر العربية، تغفل كتابة أي معلومات عن المؤلف، أرسلت لها أطلب أي معلومات عن سليم تركية ردوا عليّ رداً مقتضباً قالوا فيه، سليم نصيب ولد في بيروت عام 1946، عاش في باريس من 1969 ثم عاد إلى بيروت وعمل في بروش أورينت علي فترات مختلفة، وبعد الحرب الأهلية في لبنان قام بنشر بعض قصصه. طبعاً لست في حاجة لإعادة التأكيد أن كل ما سأعرضه خيال في خيال. ربما يستند لوقائع في حياة الأبطال. لكنه يبقى خيالاً محضاً.

الرواية تقع في أربعة أجزاء، مقسمة ومرتبة حسب سنوات وقوع الأحداث، الجزء الأول من 1924 – 1928، والجزء الثاني من 1932 إلى 1938، والجزء الثالث 1950 إلى 1956، والجزء الرابع 1956 إلى 1975. وهي مروية على لسان أحمد رامي، من الكلمة الأولى وحتى الكلمة الأخيرة، لست في حاجة إلى القول أن المؤلف سليم نصيب، قد دخل تحت جلد أحمد رامي، ولعب لعبة القص الروائي مستخدماً ضمير الأنا، وهو أكثر الضمائر راحة ورومانسية سواء بالنسبة للكاتب أو للقارئ معاً، تعال نقرأ ما كتبه الروائي اللبناني على لسان شاعر الشباب في مصر:

- كنت قد فتحت ذراعي لغمرة العناقات الرجولية والضحكات، كانت أمي لا تكف عن سكب الطعام في طبقي وتراقبني، كان عليّ أن ألتهم مسقط رأسي كله في وجبة واحدة. إنه التخاطب بالعربية مجدداً تتناهى، إلى مسمعي رنة هذه اللغة الرائعة. إنها بلادي الحقة.

لقد عرفت باريس – يحكي لنا الصبي المتنكر الذي سيصبح فيما بعد أحمد رامي – ولكن كيف أروي لأمي وأختي سلوى وهما اللتان تعرفان معنى غيابي ثلاث سنوات. إخوتي وأخواتي الخمس الآخرون لا يدركون أنني عدت حاملاً شهادة من السوربون. أصبحت رب الأسرة وأنا لم أجاوز الثالثة والعشرين، محمد عبد الوهاب صديقي الوحيد هو الذي أنقذني مما أنا فيه. إنه محمد ببدلته الغربية وطربوشه. خطفني منهم ورحنا نسير في الشارع.

كنا في نفس العمر تقريباً. وقد انفتحت أمامه أبواب الشهرة. مطربا وملحنا وموسيقارا. لا أعرف لم اختارني صديقاً له؟ الشوارع يتنازعها الطرابيش والعمائم. فاتني يوم الاستقلال، أنا الوحيد الذي أعتمد بيريه أهل الباسك. دخلنا المسرح. وكانت الفرقة هناك. فلاحان يرتديان الجبة الرمادية الطويلة ويعتمران العمامة وسطهما صبي يداه فوق بطنه، تناهي إليّ صوت الفتى فتياً غير واثق. راح الصوت يتلو القرآن الكريم. بعد الاستحسان. عاود الإنشاد.

صعد الدم إلى رأسي، كان ينشد أبياتا من شعري، كنت قد كتبتها قبل رحيلي مباشرة «الصب تفضحه عيونه» قصيدتي تنشدها الشفتان البدويتان. لقد استطاع هذا الفتى الأمرد أن يجسد الألم والرقة التي كنت أحاول التعبير عنهما، كنت أعرف اللحن. الشيخ أبو العلا لحن القصيدة وأنشدها وطبعها على أسطوانة وقد أدى الفتى اللحن بأمانة وها أنذا أسمع البيت الأخير: «وبي الذي بك يا ترى/‏‏ سري وسرك من يصونه».

نهضت هاتفاً مع الهاتفين. كان الفتى يحيي الجماهير، وانحسر طرف عباءته عن نحره. فسارع يجمعها. وفي أقل من ثانية واحدة، استطعت أن ألمح في انحسارهما الخاطف، استدارة نهد تحت زي الفلاحين الخشن. خلعت عمامتها، فبدأ شعرها الأسود الكث. لقد غنيت لك هذا المساء. قالت لي: إنها بدوية، مجرد فلاحة. من بلدة تدعى «طماي الزهايرة» بالدلتا. والآخران هما: والدها وشقيقها. كانت تكسب في ليلة واحدة ما يكسبه والدها في سنة كاملة. جمد الكلام فوق لساني. أمسكت بيدها ورفعتها إلى شفتي ألثمها. تحية صامتة، أصابعها استسلمت لكفي وتراخت. أحسست بتلك الحيوية الجسمانية، وبذلك القبول الخفي. لم لا تكتب لي؟ سألتني بصوت خفيض. سأكتب لك.

هكذا كان اللقاء الأول بين رامي ومن ستصبح فيما بعد أم كلثوم. مع أن اسمها في ذلك اليوم كان: فاطمة إبراهيم البلتاجي. ثم يكمل رامي حكايته:

- وجدت الشيخ أبو العلا جالساً في حديقته المهملة كئيباً. بلغت الشيخوخة منه مبلغاً. أعطيته ما أحضرته له من باريس. لم يستطع الحضور لمقابلتي بسبب مرضه. كان صديقاً لوالدي وساعدني كثيراً في طبع ديواني الأول. قال لي عنها. أنا أعرف قدرتها الدفينة. لم تعط منها إلا القليل. سألته: قل لي كيف قابلتها لأول مرة في الدلتا؟ وكيف جاءت إلى القاهرة؟ قال لي أنها شغيلة. تستعجل كل شيء كأنها ستموت في الغد. لا يوجد من هو مثله سوى محمد عبد الوهاب، وبرغم إغواء النساء والألقاب التي يغدقها عليه البلاط وحلمه الدائم بالغرب. سيكون وريث هذا الغد. ولكنها هي سليلته الشرعية.

ويعود رامي في حكايته إلى باريس:

- كنت قد ذهبت إلى باريس لتعلم الفارسية. لأترجم رباعيات الخيام من الفارسية للعربية. أما ترجمتها الموجودة فكانت عن الإنجليزية. وهناك درست أيضاً علم المكتبات. وفي المساء بعد عودتي. كنت أترجم الرباعيات «فأنعم من الدنيا بلذاتها/‏‏ من قبل أن تسقيك كف القدر» ولكني كنت أفكر في قصيدة لها. رسالة مفهومة كما قالت لي، رسالة لها. وكتبت لها أغنيتي الأولى: «خايف يكون حبك ليَّ شفقة عليَّ». قابلني والدها. كان لا يجيد القراءة ويصر على إعلان ذلك. أحضرت سعدية الشاي لي. كنت في انتظار الآنسة.