hamda
hamda
أعمدة

الشانزلزيه

28 مايو 2017
28 مايو 2017

حمدة بنت سعيد الشامسية -

[email protected] -

صادف أن كنت في باريس ليلة أحداث الشانزلزيه الأخيرة، أتناول وجبة العشاء في أحد المطاعم في إحدى حاراته، وأنا أهم بالخروج إذ بالنادل يقترب مني هامسا: أي طريق ستسلكين للفندق، أشرت له إلى الفندق الذي كان على بعد خطوات من حيث كنت أجلس، ثم أخبرني بأن الجهة الأخرى ستكون مغلقة بسبب حادث لا يجب أن اقلق بشأنه، عند وصولنا للفندق بدأنا بتصفح هواتفنا عندما تركت صغيرتي الهاتف وركضت إلى النافذة المطلة على الشانزلزيه، ثم نظرت إلي برعب وطلبت مني فتح الهاتف الذي كان ممتلئا بالرسائل من المعارف والأصدقاء يطمئن فيها أصحابها على سلامتنا، منها فقط عرفت بالأحداث، دعاني فضولي إلى تصفح وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت تمتلئ بأخبار وتحليلات لما حدث، كنت أتبادل النظرات بين هاتفي والشارع الذي كان الناس فيه يمارسون حياتهم بشكل يبدو لي طبيعيا رغم أفراد الشرطة الذين بدأوا يتوافدون على الشارع ولكن بالكاد يستطيع المرء ملاحظة الموضوع، تركت هاتفي وغططت في نوم عميق حتى الصباح، تاركة شبكات التواصل الاجتماعي تشتعل بالإشاعات والتحاليل، في الصباح مدفوعة بالهدوء الذي يسود المكان، توجهت إلى الشانزلزيه كالمعتاد لتناول الإفطار في أحد المقاهي، كان الشارع يبدوا كما كنت أراه كل يوم هادئا، انيقا، مليئا بالحيوية والحياة، ولا يمت أبدا بصلة للصور التي كنت أشاهدها على شبكات التواصل الاجتماعي وشاشات التلفاز.

أدركت حقيقية أننا نعيش زمن الإشاعات الكاذبة، وفبركة الأخبار بشكل مخيف ولأهداف أبعد ما تكون عن السمو وتصوير الواقع، الأخبار انتشرت بشكل سريع، وشوهت بشكل مرعب ومقزز في آن معا، ويعلم الله وحده لصالح من يتم تشويه الحقيقة بهذا الشكل المقزز.

قبل مغادرتي المدينة أردت أن أمشي للمرة الأخيرة على الشارع الأنيق، الذي يمثل باريس بكل جمالها وأناقتها وتنوعها، وحيويتها وأنا مذهولة بإرادة الحياة لهذه المدينة الساحرة التي ذكرتني ببيروت، التي زرتها في أعقاب حادثة اغتيال الحريري ومشاهد الحياة وسط الأنقاض، كان سكان بيروت يمارسون الأنشطة الحياتية ببهجة استثنائية رغم مشاهد الدمار التي تبدو جلية لزائريها، وكأن سكان بيروت لا يرونها أوانهم تعودوا عليها للدرجة التي جعلت عيونهم تتآلف معها.

هناك شعوب تجيد صناعة الموت، وهناك شعوب تتقن فن صناعة الحياة بكل تجلياتها، هناك أناس لا يرون سوى الشوك غير الظاهر للعيان من الوردة، وهناك من يستطيع تمييز عبيرها من مسافات طويلة..

في اللحظة التي كان العالم يتناقل أحداث الشانزلزيه المأساوية كما وصفوها، كانت باريس تمارس فن الحياة، في أبهى صورها، تماما كما شاهدت بيروت مرارا وتكرارا تنهض بكل كبرياء وأناقة، لكنها عجزت أن تسلبها حيويتها وجمالها وأناقتها، كذلك هي حياة كل منا ما يظهر منها للعيان نادرا ما يصور الواقع، وتماما كالمدن يتم تشويه صورنا من المحيطين بنا، افتراء وظلما وحسن نية أحيانا، فالاتهامات المجانية أصبحت من أسرع الأخبار انتشارا، والإشاعات الكاذبة أصبحت من أكثر الأخبار طلبا ومتابعة.