yousef
yousef
أعمدة

النوبة: حكايات البحيرات والسدود

26 مايو 2017
26 مايو 2017

يوسف القعيد -

يقولون أن بلاد النوبة هي بلاد الأساطير والحكايات. نسج أهلها العديد من القصص والروايات وربما الأساطير. ليبحثوا عن تاريخ حكائي لهم يميزهم عن غيرهم . ويحفظ لهم هويتهم التي حاولوا الحفاظ عليها، رغم مرور الزمان وتقلبات الأحوال ، وتغير الأمور، تنتقل من الأحسن إلى الأقل حسنا، ربما الأسوأ. ثم تعود سيرتها الأولى إلى كل ما يمكن أن يكون أحسن.

نكمل الحكاية :

وإذا كانت بلاد النوبة قد شهدت، وفقا لعلماء الآثار، تعاقب أربع مجموعات بشرية منذ الأسرة الأولى في العصر التاريخي المبكر حتى نهاية الأسرة العشرين والدولة الحديثة في مصر القديمة ، واستمرت الأخيرة، حتى القرون الميلادية الأولى، فإن النوبيين الحاليين ليسوا امتدادا إثنيا أو قوميا أو لغويا لتلك المجموعة البشرية التي لا يمكن إلا افتراض اختلاف وتباين حضاراتها وثقافاتها ولغاتها فيما بينها من جهة وبينها وبين المجموعة الإثنية النوبية الحالية من جهة أخرى، ولا سبيل إلى اكتشاف التسلسل الزمني للغاتها على وجه الخصوص.

ذلك أن اللغة المصرية القديمة استمرت آلاف السنين على الأقل منذ أن قام ما يسمى بجيش الأسرات بغزو مصر (3400 ق. م)، حية منطوقة لكل سكان مصر، مكتوبة بالهيروغليفية أو بالهيراطيقية أو بالديموطيقية أو بالقبطية ذات الأصل اليوناني مع التعديلات المصرية.

ولم تترك مكانها للغة أخرى (اللغة العربية) إلا بعد الفتح العربي، وبصورة تدريجية للغاية استغرقت قرونا طويلة، من خلال عملية غسيل دم لغوي شامل، ولكن في إطار نفس المجموعة الإثنية المصرية الواحدة المستمرة طوال هذا التاريخ الممتد، مهما كانت بوتقة لانصهار وامتزاج شعوب وثقافات أخرى معها، مع قدوم فاتحين جدد من الجنوب النوبي (الكوشي)، أو الشمال الأوروبي (الإغريقي أو الروماني)، أو الشرق الهكسوسي أو الأشوري أو الفارسي أو العربي أو التركي، أو حتى الغرب الليبي.

وبطبيعة الحال ، فإن فكرة استمرار جماعة إثنية أو قومية واحدة منذ فجر التاريخ إلى الآن، رغم إحلال اللغة العربية محل اللغة المصرية القديمة في مرحلتها القبطية، ورغم إضافة الانتماء الجديد إلى الثقافة العربية، تثير إشكالية حقيقية. وربما وجدت هذه الإشكالية حلا في حقيقة أن هذه التطورات والتبدلات لم تحدث من خلال إبادة أو تهجير شعب وإحلال شعب آخر محله، بل حدثت في إطار استمرارية نفس الجماعة الإثنية التي اكتسبت لغة جديدة وثقافة جديدة؛ مما أدى إلى تراكب طبقات الانتماء الثقافية والقومية داخل الجماعات البشرية الأصلية الواحدة؛ حيث لا يستبعد التكوين الأصلي الانتمائات الجديدة (العربية) التي لا تستبعد بدورها خصائص وخصوصيات إثنية طويلة الأمد.

إننا إزاء حضارة واحدة متفاعلة الأجزاء امتدت على ضفاف النيل طوال عدة آلاف من السنين، وهى حضارة واحدة مهما تعددت مراكزها وقواها المركزية الطاردة، ومهما تعددت الهجرات الكبرى لسكانها شمالاً وجنوباً، ومهما تعددت الفتوحات والتوسعات الإمبراطورية في الاتجاهين، ومهما تعددت إسهامات المجموعات الإثنية التي سيطرت الواحدة منها على الأخرى أو خضعت الواحدة منها للأخرى في هذا العصر التاريخي أو ذاك.

مع التسليم بأن المجموعة الإثنية المصرية الواحدة كانت هي الصانعة الكبرى لحضارة أو حضارات وادي النيل في أغلب مراحلها. ويكفى دليلاً على هذا التفاعل الحضاري الكبير احتمال أن حضارة قسطل النوبية قد تكون نقطة انطلاق حضارات وادي النيل، وكذلك واقع أن حضارات كوش كانت في كثير من مراحلها من صنع مجموعات نوبية متمصرة ثقافة وديناً وأحياناً لغة وكتابة.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالحضارة أو الحضارات النوبية، فإن المقصود بها يتمثل في الحضارات التي تعاقبت على إقليم أو أرض أو بلاد النوبة. والتي أقامها المصريون مباشرة، أو أقامتها مجموعات سكانية ربما كانت لا تختلف إثنياً عن الجماعة الإثنية المصرية، أو بناها سكان يمكن أن نسميهم نوبيين باعتبارهم سكان النوبة رغم أنهم كانوا يتمثلون في مجموعات إثنية أوقومية متباينة إثنياً تعاقبت على تلك الأرض، ولم تكن الحضارة بمعنى أن النوبيين شكلوا امتدادها القومي إلا في النوبة القبطية وما تلاها.

كانت النوبة من أهم مناطق الصراع الرئيسية في العالم القديم؛ حيث كان الصراع مستمراً بين الأجناس المختلفة، البيضاء منها والسوداء، للوصول إلى السيادة في شمال إفريقيا بحثاً عن الذهب والعاج والأبنوس والأخشاب والنحاس والحديد والزمرد ومختلف منتجات كوش، وهو الاسم القديم لشمال السودان وبين سكان كوش، العدو الجنوبي لمصر القديمة، الذين «نزحوا نحو الشمال إلى الأراضي الأكثر خصوبة من وادي النيل حتى شاطئ البحر المتوسط ».

«إن الصلة التي ربطت سكان النوبة بسكان العصر القديم أمر مشكوك فيه»، وعلى ما يبدو أنه وجدت على الأقل فترة واحدة كانت النوبة السفلى فيها غير مسكونة، وأن بعض العادات والفنون والحرف «النوبية» تؤيد الفكرة القائلة بأن النوبيين ينحدرون إلى حد كبير من نسل هؤلاء الذين عاشوا في هذه المنطقة من وادي النيل في عصر فراعنة الدولة الوسطى».

وفي الفصل الثاني من المقدمة تتناول الدراسة مشروع بناء السد العالي الذي اتخذت التنقيبات الأثرية في المنطقة النوبية، المصرية والسودانية ، ذلك الحجم الضخم الهائل بسبب تهديده بإغراق الآثار التي كان من الضروري إنقاذها والكشف عن المزيد منها قبل الطوفان . ونشير إلى مفارقة حقيقية تتمثل في أننا ندين لبناء خزان أسوان (1899 – 1902)، وتعليته الأولى (1907 – 1912)، وتعليته الثانية (1929 – 1934)، وأخيرا بناء السد العالي الذي توَّج هذه الإنشاءات التي هددت آثار النوبة وحياتها، بمعرفتنا ومعلوماتنا عن آثار وتاريخ النوبة. فلولا التهديد المتعاقب بالدمار الذي تعرضت له منطقة النوبة بسبب مشروعات الري هذه لما حدثت تلك التنقيبات والمسوح الأثرية على ذلك النطاق الواسع في سباق مع الزمن «الآن أو أبدا»، كما يقول.

إنه ليس تاريخ النوبة فقط، ولكنه جزء من تاريخ مصر الحديثة، عاصرناه، وكنا جزءا منه. لكن حتى عندما يقرأ الإنسان وقائع مرت عليه. ربما لم ينتبه لدلالاتها وقت وقوعها، فإن القراءة تضيف لتجربتي تجربة ولعمره عمراً ولوجدانه وجداناً.

يخطئ من يتصور أن النوبة شأن يخص أهل مصر وحدهم . فهي جزء من الحضارة العربية القديمة والحديثة. وجزء أيضاً من حضارة الإسلام الكبرى .

ونكمل..