أفكار وآراء

بريطانيا .. عواقب البريكسيت تظهر تدريجيا

26 مايو 2017
26 مايو 2017

سمير عواد -

بدأت الحياة في لندن تتغير منذ الآن، فالكثير من الأطباء والممرضات انتقلوا منذ سنوات إلى بريطانيا للحصول على أذون الإقامة الدائمة، يرون أنهم مضطرين للبحث عن فرص عمل في بلاد أخرى لأن المستقبل لم يعد مضمونا لهم، كما كان من قبل، في بريطانيا بسبب البريكسيت.  

يبدو أن «صديق خان» عمدة مدينة لندن، أصبح مضطرا للدفاع عن مدينته، وشبكة العلاقات التي يملكها أصبح لها أهمية قصوى في هذه المرحلة. ففي مارس الماضي، سافر إلى مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل، وإلى باريس، وإلى برلين، ومدريد، ووارسو، لهدف محدد هو الترويج لمدينته، وللتأكيد على أنها ستظل مفتوحة أمام قطاع الأعمال الأوروبي في كل الظروف. وقال لمحدثيه أن مدينة لندن ترحب بالشركات والاستثمارات وبمواهب الابتكار وصنع الأفكار، وستظل مدينة يلتقي فيها العالم كله، ويتم فيها عقد الصفقات. وقام «خان» بهذه الخطوة، ليجنب مدينته، عواقب سلبية بسبب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث تتصدر لندن المدن البريطانية التي ستتأثر بهذه الخطوة، على الرغم من أن 27.9 بالمائة من مواطني لندن صوتوا لصالح الانسحاب.

حتى الآن، استطاعت مدينة لندن أن تتصدر المدن الأوروبية كعاصمة للمال والتجارة علاوة على كونها العاصمة السياسية لبريطانيا. والآن، أصبحت مهددة بفقدان دورها المالي والاقتصادي الذي تجاوز حدود بريطانيا وأوروبا، وأصبح قطاع المال بالذات، يشعر بعواقب إمكان فقدان بريطانيا نفوذها في الاتحاد الأوروبي كما أصبحت دول الاتحاد الأوروبي تتحاشى بريطانيا بشكل ما، وفي القرب قد تفقد مدينة لندن مركزها كباب للسوق البينية الأوروبية حسب توقعات بعض المراقبين على الأقل. وما ينتج عن ذلك من خسارة مئات الآلاف من وظائف العمل، ورحيل الشركات والمصارف إلى مدن أوروبية أخرى. أضف إلى ذلك أن تكاليف الانسحاب ستكون عالية جدا، وحسب صحيفة «هاندلسبلات» الألمانية، المختصة بالاقتصاد، قد تصل إلى مائة مليار يورو.

حتى اليوم ما زالت ردود الفعل متحفظة، ويتوقع السياسيون في عواصم الاتحاد الأوروبي ولندن، أن تكون المفاوضات الطويلة حول الانسحاب، صعبة ومضنية وسيحاول كل طرف تحقيق مكاسب وضمانات. وبدأت الدول الـ27 المتبقية في الاتحاد الأوروبي تتعامل مع بريطانيا كبلد أجنبي رغم القرب الجغرافي ، فهناك بعد سياسي واقتصادي كبير بين الطرفين. فبريطانيا لم تتصرف وكأنها دولة أوروبية في أحيان مختلفة، من وجهة نظر بعض الأوروبيين على الأقل، وأنها كانت دائما أقرب سياسيا للولايات المتحدة الأمريكية، منها إلى باريس أو برلين أو بروكسل.

وينعكس هذا الترقب الحذر على قطاع العقارات، حيث إن المقاولين بانتظار الزبائن، في الوقت نفسه ينتظر الزبائن انخفاض الأسعار. ففي العام الماضي، انخفضت نسبة بيع العقارات في قلب مدينة لندن بـ40 في المائة مقارنة مع العام الذي سبقه. لكن قيمة الإيجارات انخفضت خلال العامين الماضيين بحوالي 10 بالمائة مقابل ازدياد الطلب على العقارات في ضواحي المدينة.

وهكذا تستمر مدينة لندن بالتطور الذي بدأ في عقد التسعينات من القرن الماضي، واستنادا إلى دراسات، يغادر المدينة حوالي 50 ألف مواطن كل عام وينتقلون للإقامة في ضواحيها أو في مناطق أخرى في بريطانيا. في المقابل، يأتي حوالي 50 ألف شخص من الخارج للإقامة والعمل في مدينة لندن.

وهكذا بدأ وجه «عاصمة الضباب» يتغير ويصبح «دوليا» اكثر من السابق، وهذا التحول لا يعجب الكثير من البريطانيين. فالقوى العاملة الإنجليزية تهاجر من المدينة وتبيع منازلها لأنها لم تعد تتحمل تكاليف العيش العالية في لندن. ويحل مكانها مهاجرون من الهند وباكستان وبنجلاديش وجامايكا ونيجيريا وبولندا والتي أصبحت تهيمن على وظائف العمل في المتاجر الصغيرة ومراكز الرعاية الصحية وفي الدوائر الحكومية وفي محطات الوقود ومحلات السوبر ماركت.

وقالت مينا تيزكان، ألمانية من أصل تركي، تعمل في شركة «كي بي أم جي» الدولية للخدمات المهنية، وكانت قد جاءت إلى المدينة قبل بضعة أعوام: وجدت لندن في البداية مدينة دولية، بوسعي التنقل بحرية دون أن يسألني أحد عن موطني الأصلي. أما الآن، فإنه أصبح يترتب علي وعلى الكثيرين من الأوروبيين الذي يعيشون في لندن وبريطانيا، الشعور بأن بريطانيا، بعد البريكسيت، لم تعد موطنا مناسبا لنا، يضمن لنا العيش بسلام ويوفر لنا الاستمتاع بالثقافة، وإنما بريطانيا كانت تحتاج للاتحاد الأوروبي لتحقيق الفائدة الاقتصادية ليس أكثر. وتشعر مينا تيزكان، مثل الكثيرين من زملائها الأوروبيين، بتباعد بعض المواطنين الإنجليز بعد البريكسيت حيال الأجانب، بوجه عام، بمن فيهم مواطني الاتحاد الأوروبي.

وقالت الإيطالية فرانشيسكا فلبيني بينتو، التي تعمل في مؤسسة «كريستيز» للمزادات في لندن: كل شيء كان هادئا إلى أن وقف ذات يوم رجل أمام المؤسسة وراح يصرخ «ارحلوا عن بلدنا..

لقد أصبح كل شيء إنجليزيا». وأضافت أنها بدأت تفكر بمغادرة المدينة. وأكدت أن زملائها الأجانب لا يعرفون ماذا سيفعلون إذا زادت معاداة الأجانب في بريطانيا بفعل تأثير البريكسيت وعودة مشاعر القومية إلى كثير من المواطنين البريطانيين. وتعتمد مؤسسة «كريستيز» إلى حد كبير على موظفيها الأجانب، وأكدت فرانشيسكا أن أصدقاءها أصبحوا يسألونها لماذا لا تهاجر إلى بلد آخر، خاصة وأن الكثير من زبائن «كريستيز» أصبحوا يشترون القطع الفنية من مزادات في نيويورك وسويسرا. كما يُعتبر انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني سببا في هجرة الأجانب من بريطانيا.

ومن جانب آخر أسفرت أجواء القلق بسبب البريكسيت من حصول حقائق على الأرض قبل بدء المفاوضات بين لندن والاتحاد الأوروبي. فقد بدأت بعض المصارف وشركات التأمين تنقل مقارها وما يتصل بها من وظائف العمل إلى دول في الاتحاد الأوروبي. وافتتحت شركة التأمين البريطانية «لويدس» مقرا لها في مدينة بروكسل وستبدأ ممارسة نشاطاتها من هناك في عام 2019. وأعلن مصرف «دويتشه بنك» الألماني، عزمه نقل 4 آلاف وظيفة عمل من لندن إلى الاتحاد الأوروبي، وتفكر شركات كثيرة أخرى بالانتقال أيضا.

لكن ليس معنى ذلك أن لندن ستفقد هذه المؤسسات للأبد، فشركة «لويدس» على سبيل المثال، ستحافظ على نشاطاتها في بريطانيا كما ستستمر المصارف في نشاطها ومكاتب المحاماة كذلك. لكن مواطني الاتحاد الأوروبي يشعرون بقلق من سياسات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، التي أبلغت جان كلود جونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، أن مواطني الاتحاد سيفقدون حقوقهم في بريطانيا بعد البريكسيت، مما سيؤدي إلى فقدان مئات الآلاف من وظائف العمل، التي يقوم بها مواطنون ينتمون للاتحاد الأوروبي في فنادق لندن والمطاعم والمتاجر والمستشفيات ومؤسسات البحوث والشركات والجامعات.

وقد بدأت الحياة في لندن تتغير منذ الآن، فالكثير من الأطباء والممرضات انتقلوا منذ سنوات إلى بريطانيا للحصول على أذون الإقامة الدائمة، يرون أنهم مضطرين للبحث عن فرص عمل في بلاد أخرى لأن المستقبل لم يعد مضمونا لهم ، كما كان من قبل، في بريطانيا بسبب البريكسيت.

فقد ولى زمن مجيء مواطني الاتحاد الأوروبي للعمل والإقامة في بريطانيا دون قلق أو التعرض إلى مساءلة السلطات المختصة.