أفكار وآراء

أوروبا والعرب بعد الانتخابات الفرنسية

23 مايو 2017
23 مايو 2017

أميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

فاز المرشح المستقل «إيمانويل ماكرون» برئاسة الجمهورية الفرنسية وقضي الأمر، غير أن التساؤلات العديدة والمهمة تبدأ بعد هذا الفوز ولا شك، وفي المقدمة منها... ما هي دلالات اختيار الفرنسيين، لماكرون رئيسا للسنوات الخمس المقبلة؟

مثير شأن هذا الشعب، المجبول على العلمانية والتنوير، والرافض للأصولية والظلامية، فالفرنسيون هم أحفاد لأجيال التنوير الأوروبي التي نادت قبل ثلاثة قرون بالإخاء والمساواة والعدالة، وجميعها في إطار من الحرية ذات الأبعاد العقلانية الراسخة جذورها في المجتمع المدني.  

«أيمانويل ماكرون» يكاد يضحى ظاهرة اليوم في الحياة السياسية العالمية، فالشاب الذي لم يبلغ الأربعين من العمر لم يقبل على العمل السياسي إلا منذ ثلاث سنوات، ثم انه لم يكن منتميا لأي من الأحزاب الرئيسة في فرنسا في أي وقت من الأوقات، ما يفيد بأن تقييم الفرنسيين له لم يرتبط بحقيقته العمرية، ولا بما يدور حول حياته الأسرية، وارتباطه بسيدة تتجاوزه عمرا، بل ارتبط التقييم بما لديه من أفكار ورؤى تقدمية، تفيد فرنسا والفرنسيين، ولاسيما ما يتصل بالعلاقات مع العالم الخارجي من جهة، وما يهم الجانب الفرنسي الداخلي أي أحوال الاقتصاد والنسيج المجتمعي، وإشكاليات الإرهاب وما عدا ذلك من قضايا حيوية مثيرة من جهة أخرى .

يفيد انتخاب فرنسا والفرنسيين لماكرون الشاب أن الجماهير الغفيرة قد سئمت من الأحزاب التقليدية التاريخية والتي يبدو أن الزمن قد تجاوز أفكارها السياسية، وعليه فإنهم يسعون وراء وجوه جديدة، وأفكار إبداعية لا اتباعية من خارج الصندوق السياسي الكلاسيكي، وهذه ظاهرة نجدها في العديد من دول العالم الغربي في العقدين الأخيرين بنوع خاص.

في مقدمة المشاهد الداعية للتأمل فيما جرى فرنسيا، انتصار ماكرون على مرشحة الجبهة الوطنية الفرنسية ذات الميول اليمينية التي لا تداريها ولا تواريها «مارين لوبان»، لماذا؟

بداية جاءت الانتخابات بعد سلسلة من الاعتداءات الإرهابية على الأراضي الفرنسية، شنتها جماعات أصولية تجاهر بأفكارها، وعليه فقد كان من الطبيعي أن تميل كفة الاختيار جهة السيدة «لوبان» صاحبة الأفكار الرافضة للمهاجرين، والمعادية للإسلام والمسلمين كدين وكمؤمنين، وإن قدمت ذلك بصورة تقدمية في العامين الأخيرين، وهذا يدل على أن الفرنسيين لم يقعوا في فخ إغراءات أفكار اليمين المتطرف، وأنهم اختاروا ما يتصل برحابة الفكر لا ضيقها.

الأمر الآخر هو أن «مارين لوبان» من ورائها تاريخ طويل سواء لوالدها وتوجهاته أو لها هي شخصيا من العمل السياسي والحزبي، غير أن ذلك لم ييسر لها بأي شكل من الأشكال حيازة أصوات الفرنسيين، الذين بدوا واضحين في رفضهم للانسياق نحو التطرف في أي جهة كان، لا لليسار المتطرف ولا لليمين المتطرف، وفوز ماكرون يجسد ذلك، فقد مل الفرنسيون الأحزاب التقليدية، الاشتراكي والجمهوري وأطلقوا رسالة مزدوجة: يريدون تغييرا هاما، ولكن توجد لهم حدود وهم غير مستعدين للتطرف.

أكدت اختيارات الفرنسيين لـ «إيمانويل ماكرون» أن الشعب الفرنسي أمين ومحافظ علي قيم التنوير والعقلانية رغم هجمات الأصولية، بل انه أثبت كذلك حرصه الفائق على فرنسا كدولة حريات في مواجهة الترويج لجمهورية الخوف، ذلك الفخ الذي وقعت فيه دول عظمى من قبل مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بعد ما جرى الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.

الأسئلة لم تتوقف منذ فوز «ماكرون» ولا يظن المتابع المحقق والمدقق للشأن الفرنسي أنها ستتوقف عما قريب ومنها ما مدى تأثير هذا الفوز على أوضاع الاتحاد الأوربي ومستقبله؟.

من المعروف أن «مارين لوبان» كانت ولا تزال من أنصار انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوربي، ولو وجدت طريقها إلى الإليزيه لكان الأمر بالفعل كارثيا على فكرة الوحدة الأوربية، فيما ماكرون على العكس منها يرى أن هناك مستقبلا واعدا لأوروبا الموحدة، وفرنسا في القلب منها، حتى وأن انسحبت بريطانيا، فألمانيا مع فرنسا يشكلان عمودا خيمة قوية تقي الاتحاد الأوروبي من حر الصيف وبرد الشتاء.

هنا فإن المراقبين مشغولون بحالة المد اليميني في أوروبا، وهل ستتأثر سلبا بفوز ماكرون، بمعنى أن يتقلص مدى نفوذها واتساعها بعد أن كاد لهيبها يقضي على الأخضر واليابس؟

إذا أردنا جوابا حقيقيا فإن علينا أن نرفع أبصارنا جهة ألمانيا تحديدا، فبريطانيا خرجت من الاتحاد تحت ضغوط يمينية وأن بنسبة غير كبيرة، وفرنسا ها هي تنتصر على المد اليميني، ولهذا تبقى ألمانيا هي الموقع والموضع لمعركة اليمين الأوروبي بنوع خاص في الأعوام القادمة. في هذا السياق كتبت صحيفة «تاغستاتيونغ» الألمانية تقول: «إن الانتصار الواضح لايمانويل ماكرون، هو انفراج ضخم لفرنسا، فالكارثة المهددة والمتمثلة في الاستيلاء على السلطة من جانب شعبوية عنيفة تم تجاوزها، فالثقة والأمل انتصرا على التشاؤم والاكتراث المنهجي، انها إشارة مشجعة للديمقراطية وقدرة تحكم الناخبين، ونتيجة هذه الانتخابات تشكل أيضا خبرا مفرحا لكافة أوروبا، ففوز الجبهة الوطنية في فرنسا كان سيمنح اليمينيين المتطرفين في كثير من البلدان في القارة الأوروبية زخما، ويوجه ضربة مميتة للاتحاد الأوروبي.

والشاهد أنه إذا كان الاهتمام بفوز ماكرون قد لاقى أصداء كبيرة في أوروبا، فإن الشرق الأوسط والعالم العربي لا يمكنها بحال من الأحوال أن لا يتلفتا إلى تبعات واستحقاقات فوز ماكرون في الحال والاستقبال.

يمكننا بادئ ذي بدء الحديث عن التبعات السلبية التي كان فوز «مارين لوبان» سيخلفها في العالم العربي والإسلامي، ذلك أنه وببساطة كان سيعطي مساحة عريضة للتيارات الأصولية والراديكالية تستطيع أن تدعم وتزخم بها أعمالها المتطرفة، كنوع من الرد أو الردع التقليدي أمام خيارات الناخبين الأوربيين، الذين جاءوا بسيدة لا تؤمن بفكرة الحوار أو الجوار، وما بين الفعل وردة الفعل حكما كانت الخسائر ستحيق بالأوروبيين وبالشرق أوسطيين على حد سواء، ومن هنا فإن ماكرون الذي لا يحمل رؤى سلبية للعالمين العربي والإسلامي، قد وفر مجابهات ومواجهات لا طائل من وراءها وأن كان السؤال الذي طرحه البعض : «ماذا في جعبة ماكرون للعرب وللشرق أوسطيين من سياسات في قادمات الأيام».

الشاهد أنه لا يوجد كثير من الأوراق بين أيدينا يمكن من خلالها الحكم أو قراءة مستقبل سياسات ماكرون في الشرق الأوسط، والوثيقة الوحيدة هي البيان الذي نشره في شهر مارس الماضي عن سياساته الخارجية، وقراءتها توضح لنا أنه يحمل أفكارا مشابهة لكل من جاك شيراك وفرانسوا هولاند، وكلاهما يعدان من أصحاب الرؤى المعتدلة والتوافقية مع العالم العربي والإسلامي، ولم يحملا ضغائن تاريخية في أي وقت من الأوقات للمسلمين بشكل عام.

وعطفا على ما تقدم فإن من أهم أولويات «ماكرون» العمل المنظم والجاد مع الشرق أوسطيين من أجل مكافحة الإرهاب في حوض البحر الأبيض المتوسط، والقضاء المبرم على داعش وأخواتها من القاعدة وبقية الجماعات الأصولية والإرهابية، وقطع الطريق على ترويج أفكارهم بين الشباب العربي والمسلم بداية، ثم الأوروبي في نهاية الأمر.

يمكن القطع كذلك بأن فرنسا الجار الأقرب للعرب شرق أوسطيا لديها رؤى سياسية للمنطقة تتصل بنفوذها وهيمنتها التاريخية حول العالم، فقد كانت قوة مهيمنة في الداخل الأفريقي لعقود طوال، ولهذا فإنها ترى أن دول شمال إفريقيا مفتاح لها للقارة السمراء، ما يعني حتمية وجود علاقات مميزة ومتصلة، مع الجانب العربي على الشاطئ الآخر من المتوسط. ناهيك عن أن فرنسا تدرك جيدا أن هناك لعبة أممية جديدة تجرى بها المقادير حول العالم، والشرق الأوسط في القلب منها بنوع خاص، أنها لعبة الهيمنة والنفوذ التقليديين فالأمريكيون الذين قال البعض من كبار مفكريهم سابقا انهم سيهملون منطقة الشرق الأوسط، وأنها لم تعد منطقة اهتمام استراتيجية بالنسبة لهم، ها هم يعودون من جديد، وزيارة ترامب المقبلة للمنطقة خير دليل على ذلك.

في الوقت عينه ترى فرنسا التي كان لها نفوذ كبير تاريخي بل وانتداب في منطقة الشام التاريخية، حيث سوريا والعراق اليوم، ولبنان تحديدا، أن هناك مدا روسيا سياسيا وعسكريا يملأ فراغات القوة، كما أن أحلام الصين الإمبراطورية تتدحرج في الشرق الأوسط، مستخدمة فلسفة الردع النقدي، لا النووي، بمعنى استخدام الفائض الجبار من الدولارات لديها، كأداة لتوسيع هيمنتها الاقتصادية لاسيما في منطقة غرب أفريقيا وشمالها بشكل خاص، حيث المغرب والجزائر وتونس، الخلفية الجيواستراتيجية التقليدية لفرنسا، ولهذا يبقى على ماكرون دور بالغ الأهمية في استرجاع نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط، إلى واشنطن، وكأن باريس ليست على الخارطة.

الأسئلة كثيرة ومنها هل سيقدر لماكرون بالفعل أحداث حالة المصالحة الوطنية التي تحدث عنها خلال حملته الانتخابية بين عموم الفرنسيين، وهل سيستطيع تنفيذ برنامجه للحكم بسهولة ويسر دون مقاومة؟

دعونا هنا نذكر بأن التيار اليميني لم يختف من فرنسا دفعة واحدة، وأن «مارين لوبن» قد حصدت 35% من أصوات الناخبين في الجولة الثانية من الانتخابات والمعنى هنا أنه بدون نسبة كبيرة في الانتخابات التشريعية في يونيو القادم داخل فرنسا، سيكون من الصعب على ماكرون تحقيق ما وعد به.

هنا ماذا سيفعل الفرنسيون؟

تاريخيا معروف أن الفرنسيين يكرهون مسألة تكدس كافة الصلاحيات في يد الرئيس وحده، حتى لا يبدو وكأنه يحكم في ملكية مطلقة، وهي حالة عرفها الفرنسيون مع معظم رؤساء فرنسا في الجمهورية الخامسة، كما يقول المطالبون بـ «الجمهورية السادسة».

ثم هناك أسئلة عن الوزارة التي سيؤلفها ماكرون وما هي اتجاهاتها، ومن سيختار لرئاستها، وهل ستجمع كافة الأصوات والأطياف التي تمثل الشعب الفرنسي، بحيث تكون مرحلة ماكرون مرحلة وفاق وطني بالفعل؟

هنا يرى العالمون ببواطن الأمور أن سكرة النشوة التي لازمت اختيار ماكرون تكاد أن تكون انتهت بالفعل وها هي مرحلة الوفاق الأصعب قد بدأت من عند تأليف الحكومة المتشارعة بين النساء والرجال، السياسيين ورجالات المجتمع المدني، الإصلاحات المستعجلة والمؤجلة، والانتصار في الانتخابات التشريعية، ما يعني أن الطريق أمام ماكرون طويل وغير معبد، لكن ستبقى فلسفة التنوير وإيمان الفرنسيين لها، الداعم الرئيسي له في مسيرته الجديدة داخل الإليزيه.