شرفات

بعبارة أخرى: المثقفون وتحولات العالم العربي «3- 3»

22 مايو 2017
22 مايو 2017

د. حسن مدن -

بعد أن عرضنا في الحلقتين السابقتين لمواقف المثقفين والمبدعين العرب مما صار يعرف، مع الكثير من التحفظ، بـ«الربيع العربي»، نود الوقوف أمام الأمور التالية:

1-هناك قاعدة منهجية في العلوم الاجتماعية فحواها أنه كلما نأت المسافة الزمنية عن الحدث، فإنه بوسع الباحث أن يرى هذا الحدث في صورة أتمَّ وأوضح، وأكثر كمالاً، لأن دائرة البحث لا تقف عند حدود هذا الحدث، وما سبقه فحسب، وإنما في ما تلاه أيضاً من تحولات ومتغيرات، قد تجعل من هذا الحدث، حتى لو كبر شأنه مجرد تفصيل ضمن مجموعة تفاصيل تشكل لوحة أشمل وأعم. بل لعل في اللاحق ما يجب السابق، وتغدو الاستنتاجات التي تم بلوغها على ضوء القراءة الأولية، العجلى، خاطئة، أو أقلها غير دقيقة، لأنها لم تحسب مفاعيله اللاحقة، والتي لا يمكن أن تظهر إلا بعد حين، قد يطول.

إذا كان هذا يصح في العلوم الاجتماعية، فإنه من باب أولى، يصح على الإبداع، خاصة حين يتعلق الأمر بالسرد خصوصاً، والرواية على وجه أخص، فالذاكرة الممتدة، يلزمها وقتاً لا لكي تتشكل فحسب وتتراكم، وإنما لتختمر أيضاً، وتفصح عن نفسها في شكل ذاكرة إبداعية. الكتابة الآتية من قبل الحدث أو تحت تأثير وهجه الآني، هي الأخرى تحمل، غالباً صفة الآنية، فهي قد تؤدي وظيفة تحريضية، أو تحمل شحنة عاطفية فيها حرارة الحدث، ولكنها تلك الحرارة القابلة للبرود السريع.

2- حدث بحجم «الربيع العربي»، لا بد أن يستدعي التعارض المعروف بين السياسة والثقافة، وهي على كل حال سمة عامة لدى المثقفين، لا العرب وحدهم، وإنما هي ظاهرة في تاريخ الثقافة العالمية، وحسبنا هنا تذكر مواقف مثقفين كبار تحمسوا للثورة البلشفية، لكنهم سرعان ما راجعوا موقفهم هذا، وعادوا للحديث عن ما حسبوه وجها استبدادياً لها، بعد انتصارها. وفي هذا تعبير عن التناقض الأزلي بين نظرة السياسي ونظرة المثقف.

يمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بموقف إثنين من أبرز الأدباء الروس وثيقي الصلة بالثورة البلشفية، هما الشاعر مايكوفسكي الذي إنحاز بعد الثورة لما عرف بالمستقبليين الذين يدعون لقطع أي صلة بالماضي في مجال الأدب والثقافة، وتسببت قصائده في خصومته مع أجهزة الدولة والحزب البلشفي، التي رأت في ما يدعو إليه «نزعات تدميرية». (1)

وسيبدو الأمر أكثر دقة في حالة مكسيم جوركي الذي كان لينين قد امتدح روايته «الأم» قبل الثورة، ولكنه سرعان ما دخل في خلاف معه بعد انتصارها، حين ضاق ذرعاً بطلبات جوركي في الدفاع عن المثقفين، الذين كان لينين يعدهم بورجوازيين، مما حمله، وبضغط من لينين نفسه، على مغادرة روسيا عام 1921 إلى أوروبا، ولم يعد إلا بعد محاولات ستالين استدراجه مجدداً. ( 2)

3- الأحداث الكبرى التي جرت في مطالع 2011 باغتت الجميع، لا المثقفين والمبدعين وحدهم، وإنما حتى السياسيين وقادة الأحزاب، كما الحكام التي استهدفتهم الثورات أنفسهم. فلم يكن محمد البوعزيزي إخوانياً ولا سلفياً ولا يسارياً، ولا شأن له بالسياسة أساساً. كان مجرد مواطن كادح وبسيط، طفح به الكيل إثر صفعة تلقاها من مجندة أو شرطية مرور رأت أن مكان عربة الخضار التي يقودها يعيق حركة المرور، فتجاوزت ما يمنح لها القانون من سلطة وصفعت الشاب الشغيل، وكانت تلك الصفعة هي ما أدى إلى نفاد صبره، حين شعر بعبثية حياته كلها وانسداد الأفق أمام وجهه، فقرر أن يحرق نفسه، هروباً من حياة بائسة مهدورة الكرامة، لتهبّ تونس من أقصاها إلى أقصاها.

المجتمع كله طفح به الكيل، كما البوعزيزي ذاته، لم يكن المجتمع ينتصر لبوعزيزي فقط، إنما كان يثأر لنفسه. الذين هبّوا كانوا هم المواطنين التوانسة العاديين، رجالاً ونساءً، خرجوا عفوياً من دون توجيهات حزب أو جماعة. فيما بعد سيتكرر هذا المشهد في مصر وفي بلدان عربية أخرى.

لم تكن تلك مؤامرة حيكت في واشنطن أو لندن أو أنقرة أو طهران. كان القديم قد فقد مشروعيته، ولكن الجديد لا يستطيع أن يولد بعد، إذا ما تذكرنا عبارة غرامشي الشهيرة، ولأنها حركة عفوية، في أغلبها الأعم، كان من الطبيعي أن يعتلي موجتها الأكثر جاهزية والأفضل تنظيماً، حتى لو كان الأكثر رجعية والأبعد عن أهدافها الحقيقية التي هبّت من أجلها، وأن تتداعى العواصم، بعيدها وقريبها، إما لتخريبها وحرفها عن أهدافها، أو لتوجيهها في الوجهة «الآمنة» بحيث لا تطول مصالح هذه العواصم، وكان ما كان.

4- يظهر مكر التاريخ أكثر ما يظهر في سرعة التحولات في عالمنا العربي، فالتصورات الأولى انعقدت على أن الأمور استوت أو في طريقها للاستواء لصالح الإسلام السياسي، وخاصة منه تنظيم الإخوان المسلمين، الذي أظهر أنه الأكثر تنظيماً وإمكانيات، فضلاً عما أظهره من براغماتية سياسية جعلت منه فصيلاً مقبولاً لأن يحكم بلدان عربية مفصلية بوزن مصر، ولكن سرعة تلاحق الأحداث أظهرت أن هذا الرهان لم يعد نهائياً، بعد ما جرى في مصر في الثلاثين من يونيو، وهو تحول أربك حسابات عتاة السياسيين وصناع القرار في الدول الكبرى، فما بالنا بتجلياته على المشهد الثقافي. وفي كلمات فإننا أمام احتمالات مفتوحة في مسارها ونهاياتها، وفي وضع كهذا يصعب، إن لم يستحل، توقع صدور أعمال لافتة، من وجهة نظر إبداعية، على أرضية رجراجة لم تستقر على حال بعد.

يذهب الكاتب أمين تاج السر إلى أن «الأجيال الجديدة، التي حملت على عاتقها مهمة إيقاظ صمت آبائها من رقاد طويل واستعادة حقوقهم الضائعة، قادرة أيضا على إنتاج أدب جديد، ربما اتسم بالحماسة والنزعة التغيرية الجادة، وكتابة الأشياء كما هي. أيضا أتوقع ذلك في السينما والدراما التلفزيونية، سنقرأ روايات واقعية صرفة بعيدا عن خيال الكتابة، سنشاهد أفلاما تتحدث بصوت جهوري. وقد بدأت بالفعل تخرج روايات تؤرخ للثورة التونسية والمصرية، والثورات الأخرى التي ما زالت تشتعل، وثمة مشاريع تكتب وتنتج يوميا في السينما والدراما، وسمعنا شعرا جميلا، لا يشبه الشعر القديم، شعر يتحدث بصدق وطلاقة، ويسمي الأشياء بمسمياتها».

وإن كنا نتفق مع الكاتب في الشطر الأول من قوله عن حجم ما جرى من تحولات، من حيث العمق والحجم، لا بد وأن يفرز تعبيراته الابداعية بعد حين، قد يطول أو يقصر، ولكنه آت لا ريب فيه، إلا أننا أقرب إلى التحفظ تجاه تقييمه لما صدر حتى الآن حول هذه التحولات، لأن هذا الأمر بحاجة للبرهنة عليه عبر عرض أعمال لافتة فعلاَ.

ولعل هذا ما لاحظه الكاتب مستدركاً، حين عبر عن خشيته، من «أن يحدث انفلات كتابي، بمعنى أن تعم الفوضى المرتكزة على الحماس فنا جميلا اسمه الإبداع، أن يتخيل حامل راية كتب عليها عبارة: ارحل، في ميدان التحرير، أنه امتلك موهبة الكتابة، ويكتب ما لا يمكن أن يسمى كتابة، (...) وبالتالي لا يصبح الخيال وقوداً ضرورياً للكتابة الإبداعية، ونعرف أن الخيال هو وقود الكتابة الجيدة، ولطالما استمتعنا بذلك الخيال في قراءتنا للروايات والقصص وقصائد الشعر». (3)

من جديد، نجد أنفسنا أمام الإشكالية المعروفة حول علاقة السياسي بالإبداعي، وبالثقافي عامة. ولا حاجة بنا، في الخلاصة، إلى تكرار بديهة أن للإبداع مساره المستقل، أياً كانت نسبية هذه الاستقلالية، عن التحولات الاجتماعية والسياسية. قد تكون السياسة قاطرة للتاريخ، ولكن الثقافة ليست مقطورة عمياء لهذه القاطرة، فلها عالمها الخاص الذي يشترط توفر قوانينه، وعوامل اختماره التي تتطلب وقتاً، لا تحتاجه السياسة حين تهب على شكل عاصفة لا تبقي ولا تذر على نحو ما رأينا، وعلى نحو ما نعرف من دروس التاريخ نفسه.

الهوامش

(1) عبدالقادر الجنابي في: «فلاديمير مايكوفسكي: المستقبلية بلشفياً» في موقع www.alghawoon

(2) عبدالله حبه: مأساة مكسيم جوركي- موقع الحوار المتمدن

(3) أمين تاج السر: «ما قبل وبعد الربيع العربي – نظرة على الإبداع»- موقع الجزيرة