1019237
1019237
شرفات

إضاءات نقدية على تجربة مبارك العامري الأدبية

22 مايو 2017
22 مايو 2017

مبارك العامري -

«العمانية»: تعتبر التجربة الأدبية لمبارك العامري من التجارب الثرية في منزلتها التاريخية، في تاريخ الأدب العماني الحديث والمعاصر، وفي تنوع مظاهرها الخطابية، وفي أولية التأسيس، فلهذه التجربة منزلة لدى الوسط الثقافي العماني، ولها في مواقع التحقق الأدبي والثقافي منازل، فهو مثقف ورعايته للمثقفين بينة، وهو ناشط في ملاحق ثقافية، وناشط مؤثر في أجيال بعده، ومن أعمدة الرواية العمانية، وواضعي حجر أساسها، وهو شاعر في المنتهى والأصل، وحسب المرء أن ينتهي شاعرًا.

ولكل ذلك كانت التجربة الإبداعية لهذا الرجل مختبرا لعدد من الباحثين المهمين الذين تعمقوا في ما كتبه من شعر، وفككوا ما كتبه من رواية.

ويأتي كتاب «تجربة مبارك العامري الأدبية: أعمال ندوة علمية محكمة» ضاما بين دفتيه قراءات نقدية حول تجربة العامري، والكتاب من تحرير الدكتور محمد زروق، والندوة كانت قد عقدت في النادي الثقافي بالتعاون بين النادي وقسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة السلطان قابوس.

ويقع الكتاب في 182 صفحة وقد صدر عن طريق البرنامج الوطني لدعم الكتاب في النادي الثقافي وجامعة السلطان قابوس بالتعاون مع مؤسسة الانتشار العربي ببيروت مطلع هذا العام 2017م.

واشتمل الكتاب على مقدمة المحرر، وكلمة عن الأديب مبارك العامري قدمها وليد النبهاني، أما أوراق العمل الخمس فقد كانت قد تناولت جوانب مختلف من هذه التجربة والأوراق البحثية هي: «سيميائيات العالم الطبيعي في بسالة الغرقى لمبارك العامري: من محمول الوجود إلى محمول التجربة/‏‏‏ للأستاذ الدكتور أحمد يوسف، و«ملامح النص الشعري عند مبارك العامري/‏‏‏ للدكتورة فاطمة الشيدية»، و«الشخصيّات الكُتبِيَّة في أعمال مبارك العامري السرديّة/‏‏‏ للدكتور محمّد زرّوق»، و«الأفعال ووظائفها الأسلوبية في ديوان «بسالة الغرقى» للشاعر مبارك العامري (دراسة أسلوبية إحصائية)/‏‏‏ للباحث حميد بن عامر الحجري»، و«في البنية السَرْدِيَّـة فـي مدارات العزلـة: لمبارك العامـري/‏‏‏ للباحثة شيخة البادية».

ويشير الدكتور أحمد يوسف إلى اختيار مدونة/ ‏‏‏بسالة الغرقى/‏‏‏ للبحث في العالم الموصوف بالمحسوس ليصبح- في نظر غريماس- ((موضوعا في كليته للتحري عن الدلالة؛ لأنه يمثل في مجموعه وتقطيعاته فرضية للمعنى)) ولقد حاول معالجة موضوع العالم الطبيعي من منظور سيميائي؛ ولكنه منح لنفسه بعض الحرية في التعامل مع الإجراءات التي اصطنعتها مدرسة باريس، ولم يتقيد بها تقيدا أعمى، فاتخذت هذه الدراسة مسلكًا للتحري عن الدلالة، والبحث عن أوجه صور العالم الطبيعي وتحققه في الخطاب الشعري من حيث إنه مجال للمكنات الدلالية التي ينتظم فيها الحضور حول جسم خالص يعد بؤرة للتلفظ، وتخترقه إيماءات عديدة وحركات سريعة.

فهي بادية للنظر، ومضمرة للتعقل، وتترتب عليها تحولات تطال أنساق القيم التي تنتجها الكينونة الإنسانية، فتصير برامج سردية تسعى الذات إلى إنجازها بوساطة جهات الفعل: معرفة الفعل وإرادة الفعل ووجوب الفعل والقدرة على الفعل.

ولهذا كانت الدراسة واعية بصعوبات التجريد وإكراهات التركيب المنهجي الحاصل بين السيميائيات والفينومينولوجيا؛ ولعل جوهر الإشكال يُبرز حيرة الدراسة من الناحية المنهجية؛ وكيف يتنزل هذا الزاد السيميائي النظري على نحو محمود في مقاربة /‏‏‏بسالة الغرقى/‏‏‏، وقد أغمضنا عن المهاد النظري الذي كنا سنتحدث فيه عن الأسس الإبستمولوجية لسيميائيات العالم الطبيعي التي تتراحم فيه حقول معرفية مختلفة، علما بأن موضوع العالم الطبيعي ارتبط بسيميائيات الإيماءات (sémiotique des gestes)، والسيميائيات الصُورية (sémiotique figurative) وسيميائيات الثقافة (sémiotique des cultures)، والسبب في التنكّب والعدول عن ذلك ضيق المساحة، والانصراف إلى طلب ذلك في المدونة الشعرية.

أما دراسة الدكتورة فاطمة الشيدية عن /‏‏‏الملامح الشعرية عند مبارك العامري/‏‏‏ فركزت على الثيمات والأغراض الضمنية، والملامح الأسلوبية عبر مستويات اللغة، والأساليب اللغوية، كما لفتت الباحثة إلى الصورة عند مبارك العامري.

وعن الأساليب اللغوية في ديوان «بسالة الغرقى فنجد أن العامري يكتب قصيدته معتمدا على لغة عذبة، سهلة ممتنعة، لينة طيعة، بعيدة كل البعد عن التهويمات المجازية والبلاغية، وبعيدا عن التعقيدات اللفظية، والغموض المفتعل من جهة أخرى، ولذا تنساب قصيدته بخفة للروح والوعي معا، ولا يشكل على القارئ فيها أي معنى، لأنها بريئة من الغموض الفج، أو التصنع المصنوع، إلا أنها ومع كل تلك البساطة، مدهشة بمفرداتها الدقيقة، والمحكمة في مواضعها، وفي امتلائها بالفكرة المتسمة بعمق وشعرية عالية، كما تعتمد عاطفة جياشة صادقة تنبع من القلب، وتصل إلى القلب مباشرة.

والأساليب اللغوية فمتعددة في قصيدة العامري، وتقنياتها الفنية متنوعة ومتجددة مع كل نص، لإحداث أكبر درجة من الإدهاش، حيث تميل للممازجة بين الأساليب الخبرية، والأساليب الإنشائية (الطلبي منها، وغير الطلبي)، فهي تستند بقوة على إثارة الريبة والحيرة والتساؤلات التي تجرح الروح وتحفر مخيلة المتلقي، عبر أسلوبي الاستفهام، والانفعال (التأثر /‏‏‏التعجب)، وتتصاعد الحركة داخل النص بين السؤال والدهشة، كمحركين أسلوبيين «سميولوجيين» لصناعة المعنى، ضمن بناء فني أسلوبي خاص وعميق.

ويشتق العامري صوره البسيطة والمتتابعة من القريب والمتعارف عليه، لتأتي هذه الصور فنية عميقة، ومستنبطة من روح البيئة، والشاعر، والوجود الأكبر، وقريبة من المتلقي المتعدد، والواسع كالقصيدة تماما، وبعيدا كل البعد عن الصور الشعرية المركبة أو الجاهزة أو المصنوعة.

ويستقصي الدكتور محمد زروق حضور الشخصيات الكتبية في رواية مبارك العامري «مدارات العزلة» الصادرة في 1994، ورواية «شارع الفراهيدي» الصادرة في 1997م.

ويخلص زروق في دراسته لهاتين الروايتين إلى أنّ الشخصيّة ليست حصيلة الواقع الإشكالي بهمومه ومآزقه، وليست حمّالة أفكار ورؤى، وليست بعدا ذهنيّا، وإنّما هي خياطة أجزاء من شخصيّات متناثرة في كتب مختلفة، وأصداء لأصوات كتبيّة صوفيّة وحداثيّة وتراثيّة، أدبيّة وفلسفيّة، صيغت بوساطتها الشخصيّات دون أن يتعمّق فعلها أو تتعقّد قضاياها.

وهذا الارتباط بالمقروء تشكيلا للشخصيّة وبناء للأحداث يؤدّي بنا إلى الأرضيّة الثالثة التي بنينا عليها أسس البحث، وهي أنّ العملين السرديين لا يمكن أن يكونا داخلين في جنس الرواية على وجه الإطلاق، وإنّما هما واقعان في منزلة وسط بين التحقّق الأجناسي للرواية، والتحقّق الأجناسي للقصّة القصيرة.

ليشكّلا نوعا اصطلح على تسميته بـ«الرواية القصيرة»، والرواية القصيرة -وفق معجم السرديّات- يتجاذبها الانتماء إلى الأقصوصة والانتماء إلى الرواية في آن واحد. بيد أنّها تجعل من هذا التجاذب ميزتها، فهي تتوسّع في تحليل الموضوعات ونحت معالم الشخصيّات كما تفعل الرواية، ولكن في طول محدود، وتركّز اهتمامها على موضوع بعينه خاتمتُه مفاجئة للمرويّ له القارئ، وأثرها فيه قويّ.

وبذلك تجتمع في الرواية القصيرة خصائص الأقصوصة والرواية كلتيهما» وهو الأمر الذي يحيلنا إلى تبيّن البدايات الحديثة الأولى للكتابة الروائيّة في عمان، ولذلك أثبتّ تاريخي الروايتين القصيرتين في أوّل العمل، فلا غرابة أن يُنبئ الشكل بسيادة الذات الكاتبة واختلاق شخصيّات أدوات تُسخّرها هذه الذات لبيان ثقافتها ومواقفها من الفنّ والموسيقى وقضايا النقد والأدب.

وتصير الشخصيّات أصواتا لقراءات الكاتب حول مسائل خلافية في النقد، تتشكّل وفق مقروء معلَن، فتفقد هويّتها وانتماءها وحضورها.

إنّ كلّ ما ذكرناه من ارتباط الشخصيّة بالمرجعيّة الكتبيّة يجعل عمقها الاجتماعي وإحالتها على واقع محدّد خافت، فلا يحمل صوتها ولا معجمها ولا حركة العين فيها أثرا للواقع العيني أو الذهني، وكذلك بساطة الأحداث في العملين وسلاستها تؤسّس شخصيّات بسيطة غير معقّدة، عابرٌ مرورها، صُوَريّ حضورها، تُحمَّل في تكوينها أعباءً فكريّة، أكثر من اتّصالها بواقعها الذهني أو العملي، هي أصداءٌ لأصداء الكاتب القرائيّة.

واتخذ الباحث حميد الحجري من منحى الدراسات الأسلوبية متخذا من الإحصاء أداة للوقوف عن دور الأفعال ووظائفها الأسلوبية في ديوان بسالة الغرقى، والحجري يشير إلى ذلك قائلا: تُعَدُّ الأفعال مكونًا أساسيًّا (نحويًّا ومعجميًّا) في أيِّ عمل لغوي؛ فهي أحد ثلاثة أقسامٍ تشكِّل في مجموعها مفهوم الكلمة في النحو العربي.

وبالنظر إلى موقعها المركزي هذا، ووظائفها الأسلوبية المترتِّبة عليه، نتَّخذ منها مصباحًا يوجِّه عملنا التحليلي ويقود خطاه في دهاليز ديوان (بسالة الغرقى). ونطمح -في دراستنا هذه- إلى تحقيق هدفيْن اثنيْن: أولهما اكتشاف قوانين التوزيع الإحصائي التي تحكم الأفعال بأنواعها المختلفة في النصوص الشعرية الحديثة، من خلال عمليْن شعريَّيْن: ديوان (بسالة الغرقى) للشاعر مبارك العامري، الذي هو موضوع هذه الدراسة، وديوان (كلَّما ظهر ملاك في القلعة) للشاعر زاهر الغافري، الذي نتَّخِذه معياراً خارجياً للمقارنة.

وثاني الهدفين: إضاءة (بسالة الغرقى) بما يكشف عن جانبٍ أساسيٍّ من رؤيته الشعرية وأدواته التعبيرية.

وفي ضوء الهدفين آنفيْ الذكر، طرحت دراسة الحجري الأسئلة الآتية:

ما المساحة النصيَّة التي تشغلها الأفعال في الديوانيْن المدروسيْن؟ وبعبارة أدق: ما النسبة التي تشكِّلها الأفعال بالقياس إلى عدد الكلمات الإجمالي؟ وهل من فروق إحصائية بين الديوانيْن في هذا الجانب؟ و كيف تتوزَّع الأفعال إحصائيًّا في ضوء التصنيفيْن النحويَّيْن الشهيريْن: (تام/‏‏‏ ناقص)، (ماضٍ/‏‏‏ مضارع/‏‏‏ أمر)؟ و هل من فروق دالة إحصائيًّا بين الديوانيْن المدروسيْن من حيث أشكال التوزُّع الإحصائي للأفعال؟ وما درجة التنوُّع والثراء اللفظي في استخدام الأفعال في العمليْن المذكوريْن؟ وبعبارة أدق: ما معدَّل تكرار الجذر المعجمي الواحد في كلٍّ منهما؟ و أيُّ الجذور المعجمية تحظى بنسبة الورود العُلْيا في ديوان (بسالة الغرقى)؟ وما علاقتها بالرؤية الشعرية التي يتكشَّف عنها؟ و بما أنَّ الأفعال -على مستويَيْ الصيغ النحوية والجذور المعجميَّة- تتَّسم بالتكرار والمعاودة، فما طبيعة الوظيفة الإيقاعية التي يمكن نسبتها إليه، على اعتبار أنَّ الإيقاع في جوهره تكرارٌ منتظمٌ أو شبهُ منتظم؟.

واتجهت الباحثة شيخة البادية إلى قراءة البنية السردية في «مدارات العزلة» حيث إنها حاولت، بصورة جوهرية، الكشف عن بنية المضمون، وعن علاقة هذه البنية بما هو خارج النص، وذلك من خلال استنطاق العنوان وما يكتنف مفردتيه من تضاد، ودراسة كل من الشخصيات، والزمان، والمكان، والحوار، وغير ذلك مما يسهم في تشكيل هذا العمل القصصي.

وقد خلصت البادية في دراستها إلى أن «مدارات العزلة» تومئ، من خلال عمومية زمانها ومكانها، وتعدد أوطان الشخصيات (عُمان/‏‏‏نبراس وعروب وفاطمة، العراق/‏‏‏كريم، المغرب/‏‏‏ إبراهيم ومصطفى، فرنسا/ ‏‏‏سوزان...) إلى عموميّة الفكرة في الإشارة إلى قضايا أجيال غير محددة، من أبرزها قضايا: الاغتراب، وتفكك الحلم، وضياع الحقوق الإنسانيّة، وتحولات الواقع التي فرضت بدورها مزيدًا من القلق، واستمرار انغماس المجتمع في أفكار شكلت عائقًا أمام تطلعات الأجيال الجديدة.

وقد أقام النصُّ حكايته من خلال التركيز على شخصيّة نبراس، الذي مثل كتلة مشلولة أمام خراب الواقع، فبدا زائدًا، نشازًا، وانتهى مجنونًا، وقبل هذا كان لزامًا عليه أنْ يلوذ بالصمت، وأنْ يركن إلى الهامش، وأنْ يرقب هذا المجتمع وواقعه من بعيد، ليكون هذا الواقع مؤتلفًا ومتسقًا مع ذاته، دون أن يحفل بالإِنسان.