أفكار وآراء

المدن الكبرى.. تقصي الهويات وتبرز الفردية

21 مايو 2017
21 مايو 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تأتي المدن الكبرى اليوم، بنماذجها الكثيرة في عديد من بلدان العالم، كواحدة من الصور المعبرة عن الرأسمالية الحقيقية التي تستحوذ اليوم في مختلف بقاع العالم على كل التفاعلات الإنسانية، وتذهب بها إلى تبني صور وممارسات معبرة عن ذلك، حتى على مستوى الفرد الواحد في قرية نائية، وليس فقط على مستوى الطبقات البرجوازية في المجتمع، أو في شكل الشركات متعددة الجنسيات التي تمارس هذا الفعل الرأسمالي، الممارسة الحقيقية لهذا المفهوم الاقتصادي، السياسي، الذي ينازع المفهوم الاجتماعي ويضربه في خاصرته.

حيث لا عودة إلى الحياة الاجتماعية وفق مقاييسها المعهودة؛ وهي المقاييس التي تنتصر إلى المجموعات الإنسانية التي ترتبط بالقيم الاجتماعية التي تؤمن بالتعاون، وبالتضحيات، وبإعلاء صوت اللحمة الاجتماعية، ذلك أن تأسيس هذه المدن، يأتي تأسيسا معمارية صلفا كإحدى الصور المعبرة عن ذلك، حيث تكتسح هذه الصورة المعمارية كل المساحات المتاحة، ولا تدع أي فرصة يتنفس من خلالها أولئك الذين لا يزالون يراهنون على أن اللحمة الاجتماعية هي السبيل للبقاء والحفاظ على ما تبقى من القيم الإنسانية، وهذه الصورة المعمارية الصلدة والمهيبة والمخيفة تصدمك أنت القادم من أطراف القرى النائية، تصدمك بارتفاعاتها الشاهقة؛ حيث لا رؤية أفقية ممتدة، وتصدمك بهيبة ضخامتها؛ حيث لا سبيل إلى تجاوزها إلى الطرف الآخر من الضفة، وتصدمك بتعقد تركيبتها؛ حيث لا منفذ لمعرفة ما يدور بداخلها، تسير أنت المتأمل في هذه الكتل الإسمنتية المتوازية، وتقتحم هول هذا التعقيد من كتلة إلى أخرى، حيث يخالجك الشعور بالخوف والرهبة من الضياع وسط هذا التعقيد، وترى أمثالك من البشر تستحوذ عليهم هذه الدهشة، فيمارسون عليها الغباء حتى لا تقنعهم برهبتها، ولذلك هم يقاومون يومهم، ترويضًا لغدهم المماثل لهذا الشعور، حتى تتروض أنفسهم فيجدونها وقد استهلكت مجسات الخوف المؤقتة، فيغدون بعدها أسوياء، ولا مفر من ذلك، حيث لا خيارات كثيرة متاحة في المدن الكبرى، ويبقى الخيار الوحيد هو المادة، فمتى ملكت رقمًا حسابيًا مدخرًا عاليًا، شعرت بقيمتك الحقيقية، ومتى تضاءل هذا الرقم غالبك الخوف من جديد، وتظل على حالتك هذه، إلى أن تنفذ بجلدك إلى حيث تجد الأرض التي تتسع فيها الرؤية الأفقية، وهي قليلة اليوم.

نقرأ بين الفينة والأخرى تقارير صحفية عن سكان مدن -كانت في يوم من الأيام- صغيرة تقتات على ما تبقى من مادتها الاجتماعية، تحولت بفعل هذا العنفوان المادي المتمثل في الكتل الإسمنتية من البنايات الشاهقة، فإذا بها تصبح عامل طرد لسكانها البسطاء، فالمدن الكبرى تصبح عناصر جذب للكبار، وهؤلاء الكبار ليس شرطًا أن يكونوا ضمن قائمة سكان الدول نفسها التي تكبر فيها مدنها الصغيرة، وإنما هي جاذبة لكل البشر من أصقاع الأرض، وبغض النظر عن مجمل التحولات الديموغرافية التي تحدث من أثر ذلك، فإن هناك تغريبا آخر يحل في هذه المدن، وهذا التغريب يتمثل في اللغات، وفي العادات، وفي الفكر، فهنا يحتل الفكر الاستثماري نصيب الأسد، ولا يضع اعتبارًا لمفهوم القيم الاجتماعية التي تنتصر عادة للتعاون؛ والتآزر، والألفة. المدن الكبرى لا تعرف الا لغة واحدة فقط، وهي لغة السوق القائمة على الربح والخسارة، ولا تؤمن بالخسارة في الظروف العادية، ومفهوم الربح؛ عندما يتوغل في النفوس يفقدها توازنها الإنساني الـ«رشيد» ويذهب بها؛ غالبًا؛ إلى الدخول في كل الطرق، واستخدام كل الوسائل؛ الشرعية وغير الشرعية، الإنسانية؛ وغير الإنسانية، المتاحة؛ وغير المتاحة، ويظل التفكير الـ«مادي» هو المستحوذ على كل الممارسات، وهذا في مجمله سلوك ليس من اليسير تقبله بعلاته، وخاصة عند من لا يزالون يستحضرون المثل والقيم الإنسانية، ويرون فيها أهمية البقاء لاستمرار الحياة.

يقول الكاتب ديفد هارفي صاحب كتاب (ما بعد الحداثة) و(الإمبريالية الجديدة)، وهو أستاذ علم الإناسة المتميز في مركز خريجي جامعة مدينة نيويورك؛ حسب التعريف؛ في كتابه الليبرالية الجديدة - (موجز تاريخي) ما نصه: «أصبحت مدن التمويل والتحكم في العالم، كما تسمى اليوم، جزرا مذهلة للثروة والامتيازات بناطحات سحاب شاهقة، وملايين ملايين الأقدام المربعة من المساحات المكتبية لإيواء هذه العمليات، وكميات هائلة من الثروات الوهمية تنتجها العمليات التجارية بين طوابق تلك البروج المشيدة، كذلك أصبحت أسواق المضاربة بالأراضي والعقارات في المدن محركات رئيسية لتراكم رأس المال، ولا يملك المرء إلا أن يتعجب لرؤية تلك الأبنية المتصاعدة بسرعة جنونية على خطوط الأفق في مانهاتن وطوكيو ولندن وباريس وفرانكفورت وهونكونغ ومؤخرًا شانغهاي» - انتهى النص -، ويمكن أن أضيف هنا مدينة دبي، التي هي الأخرى تزحف بقوة نحو هذه العالمية من التعقيد المادي والبنيوي في حياة من تبقى من أبنائها؛ التي يتحدث عنها هارفي، حيث تتضمن هذه المدن بضخامتها هذه، حسب المصدر السابق: «تسليعا وخصخصة الأرض وطرد سكانها الفلاحين بالقوة ، وتحويل مختلف أشكال حقوق الملكية (العامة والتعاونية وأملاك الدولة) إلى حقوق ملكية خاصة وحصرية وإلغاء حقوق العامة بالأراضي المشاع».

هذه الصورة التي وصلت إليها مدن كثيرة في العالم اليوم، مرشحة للتناسخ في ظل العولمة المتقدة بقوة المادة، وفي ظل توغل مفهوم الرأسمالية الذي تتبناه «الليبرالية الجديدة» التي شهدت فترة الثمانينات من القرن المنصرم لحظة ميلادها الأول، ولا تزال تترعرع ويشتد عودها، حيث تتخذها أجيال اليوم، على وجه الخصوص، السبيل للخروج من مأزق القيم الإنسانية التي يرون فيها تكبيلا وتحديدا لطموحاتهم المادية، حيث لم تعد القيم الاجتماعية حسب هذه النظرة لها القدرة على تحقيق الذوات الطامحة إلى بناء مراكز متقدمة من الرفاه المادي المقاوم لمتطلبات الحياة اليومية، وهذه الصورة، حسب هذا الفهم الذي يتبناه جيل اليوم، هي الصورة الذاهبة إلى إعلاء الفردية، وهي لا تتيح خيارات عديدة لتبنيها من عدمه، لأن الواقع بحالته المادية الصرفة يذهب إلى تبني الخيار المادي الوحيد لمواجهة الحياة بظروفها القاسية، وهذا الفهم يتفق مع ما يشير إليه الكاتب والباحث هيرفي كيمف؛ في كتابه (كفى للطغمة ولتحيا الديمقراطية» الذي تم عرضه في جريدة عمان بتاريخ 25/‏‏4/‏‏2015م، والذي يقول فيه: «في العقود الثلاثة الأخيرة نجحت الرأسمالية بشكل كامل في فرض نموذجها الفردي في التصور وفي السلوك، مهمشة المنطق الاجتماعي، الذي كان يكبح حتى ذلك الوقت تقدمها، وتكمن الصعوبة الخاصة بالجيل الذي نما تحت هذه السيطرة في واجب إعادة اختراع التضامن، بينما تكرر له الشروط الاجتماعية بلا توقف أن الفرد هو الكل للخروج من الآلية المدمرة للرأسمالية ...».

هذا النجاح، الذي يتحدث عنه كيمف، وهو نجاح مستمر، ولا عودة إلى الوراء، وهو الذي يزيد المسالة تعقيدا، والواقع يعبر عن ذلك بوضوح شديد، فكل مدن العالم الصغيرة تتجه نحو اللحاق بالمدن الكبيرة المتحققة، والكبيرة تزداد تعقيدا فوق تعقيداتها المعاشة، فاليوم، على سبيل المثال، ليس يسيرا أن تزور المدن الكبرى - كما جاء في النص السابق - دون أن تكون عندك لغة السوق قوية، فعليك ان تحجز تذاكر سفرك، وحجوزات الفنادق، وتذاكر الأماكن التي تود زيارتها، وحتى حجوزات المواصلات الداخلية عن طريق الـ «نترنت» عبر الـ«online» وإلا ستضيع في الطوفان، كما يقال، لأنك لن تجد أحدا يمكن أن تستعين به حتى في السؤال البسيط، أن تحجز كل ذلك وانت في منزلك الدائم، أن تحجز كل ذلك قبل عدة شهور، وإلا لن تجد حجوزات، فضلا عن ارتفاع أسعارها كلما قربت فترة السفر إليها، هذا جانب، أما الجانب الآخر، فإن كنت أحد الذين يقيمون في مدينة ما، وإن كانت صغيرة اليوم، فإنك لن تستمر طويلا ألفة المكونات المحيطة بك على حالها، فقريبًا جدًا أن تجد بناية هنا أو هناك تنمو بجانبك تتكون من عدة طوابق، وقريبا جدا أن تشهد تعقد حالة المواصلات الداخلية، وقريبًا جدًا ألا تجد حجزًا فندقيًا في مدينتك بالطرق المباشرة، وقريبًا جدًا أن لا تجد جارك الذي عايشته زمنا، حيث سيحل جارك الجديد من أي قارة في العالم، حيث تشكل المدن الكونية الصورة الحقيقية لمفهوم الرأسمالية، ومع ذلك فلا يزال هناك حلم يطمئن إليه البعض في أن هذه التعقيدات التراكمية لا بد أن تتخللها الجوانب الاجتماعية، ولو من زوايا ضيقة، وهناك اليوم نداءات كثيرة، حسب ما نقرأ أحيانا، تذهب إلى ضرورة العودة إلى القيم الاجتماعية؛ لأنها السبيل الوحيد لبقاء المفهوم الإنساني بين البشر.