Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

الصنعة المعجمية من الخليل بن أحمد إلى أبي عمرو الشيباني

19 مايو 2017
19 مايو 2017

كتب د.هادي حسن حمودي -

أما الخليل بن أحمد (تـ175 هـ) فهو مؤلف كتاب العين بلا أدنى شك ولا ريب. وأما أبو عمرو الشيباني (تـ213هـ تقريبا) فقد نسب إليه كتاب الجيم الذي نشر سنة 1974. وبرغم تحقيقه السليم ظلت تسمية الكتاب وتحديد مؤلفه بحاجة إلى فضل قول. وبما أن أبا عمرو الشيباني كان معمرا قد تجاوز المائة من عمره، أفليس من المحتمل أن يكون قد التقى بالخليل، وأفاد منه فكرة تأليف معجم يجمع شتات معاني الألفاظ العربية؟

فمما يلفت النظر أن الذين ترجموا لأبي عمرو تجنبوا ذكر شيوخه في اللغة باستثناء أبي عمرو بن العلاء، وذكروا من معاصريه سيبويه وأبا معاذ الهراء والكسائي والفراء وآخرين، ومن المؤكد أن من هؤلاء من تلامذة الخليل. فهل كان إغفال ذكر الخليل عن عمد أم عن سهو؟ أم أريد من وراء ذلك نفي أثر الخليل في نشأة المعجم العربي وتطوره؟ كل ذلك محتمل.

عاش الرجلان في فترة واحدة، وإن كان أولهما عربيا عمانيا اتخذ البصرة منزلا، والثاني قيل عنه إنه فارسي الأصل واللسان، دخل الكوفة ملتحقا ببني شيبان. ولكننا نعتقد أنه عربي شيباني أصالة لا ولاءً، لهذه الأسباب:

الأول: إن اسمه وسلسلة نسبه المعروفة تخلو من أي اسم غير عربي.

الثاني: إنه كان مؤدبا لأولاد بني شيبان في الكوفة، ثم لأولاد الرشيد. ومن المعلوم أن القبائل العربية آنذاك كانت تختار لتعليم أطفالها عربا فصحاء، حتى كان منهم من يرسل أولاده إلى البادية لاكتساب الفصاحة، فمن المستبعد أن يكون أبو عمرو مؤدبا لأولادهم ثم لأولاد الرشيد ما لم يكن من أرومة عربية فصيحة. خاصة أنهم قالوا بتأثره بالألفاظ النبطية.

الثالثة: إن العرب كانوا قد استوطنوا بلاد فارس منذ أزمان طويلة قبل عصر الفتوحات، إذ هاجر الأزديون من ديار عمان، وعلى فترات تاريخية قديمة إلى جزيرة هرمز وكرمان وشيراز صعدا إلى خراسان وما وراءها. من قبل عصر الفتوحات، إضافة إلى استقرار بعضهم في أرجاء بلاد فارس في فترة الفتوحات وما بعدها. فليس من المستبعد أن يعود بعضهم إلى البصرة أو الكوفة أو بغداد أو غيرها.

والذي أعتقده أن أبا عمرو إسحاق بن مرار عربي شيباني، وربما دخل الكوفة مع الضحاك بن قيس الذهلي الشيباني الذي ملك الكوفة في العقد الثاني من القرن الثاني للهجرة.

وكيفما يكن الأمر، فإن القدماء ذكروا أبا عمرو عديدا من المرات، ونقل اللغويون عنه وإن كان ذلك النقل أقل مما نقلوه عن الخليل وابن دريد والأصمعي. وعلى سبيل المثال فإن الشيخ أحمد بن فارس (تـ395 هـ)، قد أشار إلى أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني في مقدمة حرف الألف من كتاب مجمل اللغة، لكنه لم يعتده من مصادره في مقاييس اللغة، حيث قال: (وبناء الأمر في سائر ما ذكرناه على كتب مشهورة عالية، تحوي أكثر اللغة. فأعلاها وأشرفها كتاب أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، المسمى كتاب العين، .... ومنها كتابا أبي عبيد – القاسم بن سلام – في غريب الحديث ومصنف الغريب. ومنها كتاب المنطق لابن السكيت ... ومنها كتاب أبي بكر بن دريد المسمى الجمهرة).

ثم قرر حقيقة بالغة الأهمية، وذلك في قوله: (فهذه الكتب الخمسة معتمدنا فيما استنبطناه من مقاييس اللغة. وما بعد هذه الكتب فمحمول عليها، وراجع إليها).

ولقد روى المعجميون عن الشيباني، ولكننا لا ندري هل تلك الروايات عن كتاب الجيم أم عن غيره من الكتب. فعلام تدل هذه الظاهرة؟ هل تدل على أن كتاب الجيم مختل؟ أم كان ضائعا فاكتفى اللاحقون بأن يرووا عنه بالواسطة لا بطريق مباشر؟ بل هل كان ثمة شك في مؤلفه الحقيقي كالشك الذي خامر ضعاف الباحثين بشأن نسبة كتاب العين للخليل؟

فلنمعن النظر فيما ذكره أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي (تـ370 هـ) في كتابه تهذيب اللغة وهو يعدد شيوخه ومصادره التي رآها، حيث أثنى كثيرا على شمر بن حمدويه الهروي (تـ255 هـ) وأكد أنه ألف كتابا في اللغة ابتدأه بحرف الجيم. ثم قال: (فأشبعه وجوده ، إلا أنه طوله بالشواهد والشعر والروايات الجمة عن أئمة اللغة وغيرهم من المحدثين، وأودعه من تفسير القرآن بالروايات عن المفسرين، ومن تفسير غريب الحديث أشياء لم يسبقه إلى مثله أحد تقدمه، ولا أدرك شأوه فيه من بعده. ولما أكمل الكتاب ضن به في حياته ولم ينسخه طلابه، فلم يبارك له فيما فعله حتى مضى لسبيله، فاختزل بعض أقاربه ذلك الكتاب من تركته، واتصل بيعقوب بن الليث السجزي، فقلده بعض أعماله واستصحبه إلى فارس ونواحيها، وكان لا يفارقه ذلك الكتاب في سفر ولا حضر. ولما أناخ يعقوب بن الليث بسيب بني ماوان من أرض السواد وحط بها سواده، وركب في جماعة المقاتلة من عسكره مقدراً لقاء الموفق وأصحاب السلطان، فجر الماء من النهروان إلى معسكره، فغرق ذلك الكتاب في جملة ما غرق من سواد العسكر).

ويبدو لنا أن الأزهري هذا هو أول من ذكر كتاب الجيم، ولكنه نسبه لأبي عمرو شمر بن حمدويه الهروي، غير أن وصفه للكتاب ومادته يختلف عن كتاب الجيم المنشور باسم أبي عمرو الشيباني.

وقد بذل محقق الجزء الأول من كتاب الجيم جهدا مضنيا لمحاولة بيان سبب تسمية الكتاب بكتاب الجيم، ذلك أن الكتاب لم يبدأ بحرف الجيم فلماذا سمي بهذا الاسم؟

وافترض المحقق أن المؤلف اضطر إلى اتخاذ الجيم عنوانا لأنه لم يستطع أن يبدأ بالباء أو التاء أو الثاء. إضافة إلى طبيعة صوت الجيم، كما كانت طبيعة صوت العين سبب اختيار الخليل هذا الحرف عنوانا لكتابه.

فلجأ المحقق إلى طريقة كتابة الحروف وإلى علم أصوات الحروف جوابا على تساؤل: لم اختير الجيم عنوانا للكتاب، وهو ليس أول حروف المعجم، بل يسبقه الباء والتاء والثاء؟ ويجيب: لأن اتخاذ أي حرف من هذه الثلاثة، أعني الباء والتاء أو الثاء، عنوانا للكتاب يجر إلى لبس، أي وهم، ولإزالة هذا اللبس لا بد من أن تصحب العنوان كلمة مبينة، فيكون العنوان مثلا: كتاب الباء بموحدة تحتية، أو كتاب التاء بمثناة فوقية، ومع الثاء بمثلثة، يريد بيان موضع التنقيط بناء على طريقة الكتابة القديمة. غير أن هذا التبرير يلحق التسمية بالجيم أيضا لأنه والخاء من الحروف المنقوطة (ـجـ) و(ـخـ) بموحدة تحتية في الجيم وفوقية في الخاء.

ثم تحدث المحقق عن أن الجيم حرف مجهور شديد، ولذلك اختاره المؤلف عنوانا للكتاب في مقابل اختيار الخليل لحرف العين. غير أن الأخذ بالسبب الصوتي يعيد كتاب الجيم لأبي عمرو شمر بن حمدويه الهروي، إذ لم يعرف للشيباني اهتمام وعناية بالأصوات ومخارج الحروف التي رسمها الخليل بن أحمد، وتأثر بها اثنان ممن ألفوا معجما بعنوان الجيم، وكلاهما من تلامذة الخليل بن أحمد في صورة من الصور. أما الأول وهو النضر بن شميل الذي عاصر الخليل وأخذ عنه. وأما الثاني فشمر بن حمدويه المذكور وهو من تلاميذ مدرسة الخليل والنضر.

وكتاب الجيم، بعد هذا منظم على حروف ألف، باء، تاء.. إلى الياء. اعتمادا على الحرف الأول للكلمة وإهمال تام لترتيب الحرف الثاني والثالث، ومن غير تنظيم على أساس الجذور اللغوية، لذلك ترى الجحفة قبل الجثلة، بل قبل الأدم الذي ورد في حرف الجيم من الكتاب وحقه أن يكون في حرف الهمزة. هذا إضافة إلى استطرادات مربكة للقارئ. وهو ما التفت إلى بعضه محقق الجزء الأول من الكتاب حيث قال: (فالكتاب في جملته يحمل هذه الصورة الغامضة المضللة) (1/‏‏47). كما شهد أن الكثير من أصوله مفقود، فلا الشعر تحفظه مراجع، ولا اللغة تفي بها المعاجم، حسب قوله. وقد يكون هذا من عمل النساخ كما كان شأن كتاب العين، حيث يلوح من خط النسخة التي صور المحقق صفحة منها أنها كتبت في القرن الثامن للهجرة أو ما بعده، بملاحظة طريقة التنقيط وكتابة الهمزة. أي إنها نسخت بعد عصر المؤلف بستة قرون، وقد جاء فيها أنها قوبلت على نسختين تعودان إلى ما قبل ذلك. هذا الإطار العام لكتاب الجيم. فما العلاقة بينه وبين الخليل بن أحمد؟

من المعلوم أن الخليل رأس مدرسة البصرة، وعلى الرغم من أن من شيوخ الكوفة من تلمذوا له فقد كانت العلاقة بين المدرستين البصرية والكوفية علاقة تنافس يخرج أحيانا إلى صراع، حتى بعد تمازج المدرستين في مدرسة بغداد اللغوية والنحوية، كالذي حدث بين سيبويه والكسائي في دار الرشيد.

وإذا كان أبو بكر بن دريد (تـ210 هـ) قد حاز على نسخة أو أكثر من كتاب العين، بحيث شهد بفضل الخليل وأفاد من العين فوائد جمة في تأليف جمهرة اللغة، فإن العين، في أول وصوله من خراسان، لم يكن مشهورا لدى الآخرين. ورفض الاعتراف به مجموعة منهم، على ما فصلنا بحثه في (الخليل وكتاب العين).

لذلك فمن المستبعد جدا أن يكون أبو عمرو الشيباني، قد اطلع عليه. فهو قد توفي في الفترة التي ورد فيها كتاب العين من خراسان إلى بغداد. ولا شك أنه قد سمع به، سواء من الضجة التي أثيرت حوله أم مما نقله ابن دريد وغيره.

وعلى الرغم من ذلك نجد في الكتاب عناية بالنقل عن مدرسة الخليل، كالذي جاء في الجيم: (وقال الأزدي: الجمد: القطع. وهو في الثوب: الخرق، قال الأزدي:

لسمعتم من ثم وقع سيوفنا

ضربا بكل مهند جماد)

وهو الشاهد الذي رواه ابن دريد عن النضر عن الخليل.

التنافس هو الذي دفع أبا عمرو لكتابة الجيم فما دام الخليل البصري قد كتب العين، فليكن للكوفيين الجيم، لا على أساس صوتي، ولا على أساس الجذور اللغوية، بل على أساس اللفظ المشتق، وحسب الحرف الأول مبتدئا بالألف ومنتهيا بالياء. ومن المعلوم أن متابعة الحروف من الألف إلى الياء هو المنهج الذي اتخذه معجميون آخرون مثل ابن دريد والجوهري وابن فارس على اختلاف أساليبهم في تنظيم معجماتهم.

وقد بث أبو عمرو في كتاب الجيم مجموعة جيدة من معاني الألفاظ ليكون معجما يحمل عنوانه اسم حرف من حروف اللغة كالذي فعله الخليل، ولكن من غير التزام بالمنهج الصوتي للخليل في تنظيمه لكتاب العين.

ويبقى كتاب الجيم تراثا عربيا شيبانيا ثريا ونافعا، وقابلا للتطوير.