إشراقات

الاتزان.. سرور وسكينة

04 مايو 2017
04 مايو 2017

خميس بن سليمان المكدمي -

السعي حثيثا للتوفيق بين ما تطلب الأسرة وما يطلب العمل؛ أمر مهم في الحياة، فالأسرة تحتاج إلى من يقود دفة سفينتها، وخبير يحسن المضي بها، ولا سيما في هذا الزمان المكلل بالخطر، والمحاط بكثير من العواصف الهوجاء، لأنه لو تركها تبحر من دونه ؛ أوشكت أن تعانق التيه، وقاربت أن يطالها الضياع، فالأبناء مثلا ستحيط بهم فئة ماردة مارقة وقراصنة، لا يعرفون الرحمة لتحيلهم إلى متمردين على كل شيء، ليس أولها علاقتهم بربهم، وليس آخرها علاقتهم بأسرتهم، فينشأ جيلا ممسوخا من قيمه، وتعاليمه، عمي عن دربه، وأعمى عن طريقه، حياته حياة بائسة، وتفكيره أفكار محبطة ويائسة،

وفي الوقت ذاته، لا ينبغي أن يضيع المرء أمانته في عمله بحجج واهية، فيفسد أكثر من إصلاحه، ويهدم أكثر من بنائه، فيفرط في العمل الموكول إليه، ويقصر في أدائه على الوجه المطلوب، ويقتطع من أوقات عمله لخدمة مصالحه وأغراضه فالله دعانا لرعاية العمل وحفظ الأمانة.. فالوسطية في الإسلام مطلوبة، والاتزان يثمر حياة ملؤها السرور والسكينة والبشر والانشراح.

كثيرة هي الأعباء الملقاة على عاتقنا في الحياة، وفي كل يوم من أيام الإنسان وحياته تتضاعف وتزداد، فهناك مسؤوليات مرتبطة بعلاقته مع ربه، وهناك مسؤوليات مرتبطة بمن حوله من أهله، كما أن هنالك مسؤوليات تتصل بجوانب المجتمع بناء وحفظا ورعاية، وهذه الأمور كلها لابد أن تسير وتمضي وفق أطر محددة، وضوابط معينة، بحيث لا تتعارض أو تتصادم فيما بينها، كما أنه ينبغي ويجب ألا يطغى ويغلب فيها جانب على حساب الآخر، فلو أخذنا على سبيل المثال: المسؤولية الأسرية والمسؤولية الوظيفية، فالدين الإسلامي جاء كي يخرج مجتمعا قويا متماسك اللبنات متلاحم العلاقات، قويا في تركيبته، صلبا في قوته، ووضع لتحقيق ذلك الكثير من الاحتياطات، التي يجب أن يؤخذ بها وتراعى، بدءا من اختيار الإنسان لزوجته مثلا، الذي لابد أن يكون مرتكزا على الدين، فالدين مهم جدا في اختيارها ليكتب للأسرة الثبات؛ ثبات يستقر المجتمع عليه، لأنها إن كانت هشة آيلة للسقوط فقل على الدنيا السلام، ولكم جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حاثة على ذلك وداعية إليه، ومرشدة بالسبل الخيرة القيمة التي لا تتصادم مع الفطرة، فقد دعا الدين الإسلامي الحنيف إلى تزويج الأيامى والصالحين من العباد والإماء كي لا يكون تركهم ذريعة للتوصل إلى ما يسخطه سبحانه، ويتعارض مع أوامره عز شأنه يقول الحق: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) سورة النور الآية 32 وجاء في اختيار الشريكة ورفيقة الدرب ما رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك». وفي مقام العيشة والعشرة بين الزوج وزوجته؛ رتب للزوج حقوقا عليها ورتب لها حقوقا عليه، في صورة جلية لا تتجاوز أو يضيع أو يفرط فيها، بل لابد من صونها، والحرص كل الحرص على رعايتها، ورتب الخطوات الوقائية التي تحول بين قداسة الحياة وانفصام عراها وانقطاع روابطها، وفق طرق سامية جاءت من دين شامل وكامل لا يعرف إلا موازين العدل في إنصاف لا يعرف لا يعرف الحيف والإجحاف، إذ بذلك تنطلق سفينة الحياة ومركب السلامة إلى تحقيق الهدف وبلوغ المقصود.

وحينما تضطرب السفينة ولم يكن من مجال إلا أن تكون التضحية؛ فإن العلاقة بين الزوجين لا ينبغي أن تبت بالكلية بل لابد أن يبقى على الفضل الذي كان بينهم فلا ينسى، فليس من شأن المسلم أن يتنكر لأفضال الآخرين، مهما تصادمت أفكارهم وتباينت وجهات نظرهم، بل لابد من الإبقاء على شيء من المعروف والجميل الذي يشكل ذكرا حسنا، وذكريات عاطرة لطيفة، وهذا ما جلاه الخالق العظيم وبينه بقوله: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة /‏‏ 237).

هذا في ميدان الأعباء الأسرية وأما في مجال الأعباء الوظيفية؛ فالأمر كذلك فالمرء لا يستغني عن عمل يقيه لأواء الأيام، والعيش في الزمان الصعب، فالحياة قاسية إذا لم تجابهها بصرامة ومراس وشدة ؛ أتعبتك وأعيتك ظروفها وأحوالها، فالعمل يقي الإنسان الذل والمهانة، والحاجة إلى الناس، والسعي على العيال مما يؤجر عليه الإنسان، ويحفظ عليه ماء وجهه، ويرقى بحياته إلى ما فيه الراحة والطمأنينة والاستقرار، قال - تعالى -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك: 15]، وقال - تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الجمعة: 10 «جاءت أحاديث كثيرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحث على طلب الرزق عن طريق التجارة، كقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)، وقال أيضًا في الحث على الغرس والزراعة: (ما من مسلم يزرع زرعًا، أو يغرس غرسًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)، وقال أيضًا في الحث على الصناعات والحِرَف: (ما أكل أحد طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده)، وقال أيضًا: (مَن بات كالاًّ من طلب الحلال، بات مغفورًا له). وقد ضرب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثلاً بنفسه وبالرُّسل الكرام من قبله في هذا المجال، فقال: (ما بعثَ الله نبيًّا إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنتَ يا رسول الله؟ قال: (نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ما من حال يأتيني عليها الموت - بعد الجهاد في سبيل الله - أحب إليَّ من أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله، ثم تلا قوله - تعالى -: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) «المزمل: 20.»

وعلى ذلك فليس من مصلحة الإنسان أن يضيع هذا العمل أو يفرط فيه، وهو بهذه المكانة والقدر من حياته، إذ يجب عليه أن يحافظ عليه، وأن يحرص كل الحرص على تقديمه تاما لرب العمل، وأن يؤدي الأمانة الملقاة على عاتقه في هذا الجانب، ولا ينبغي له أن يتسبب في ذهابه، فذهاب هذا العمل والصنعة من بين يديه تجلب عليه الأعباء والتبعات، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يتحتم عليه أن يكون متزنا يسلك أمرا وسطا في الحفاظ عليه أيضا، فلا ينبغي أن يستحوذ على كافة حياته، حتى يحدو به ذلك إلى التخلي عن باقي مسؤولياته وواجباته، التي هو مطالب بها، فعن جابر الخيواني، قال: كنت عند عبد الله بن عمرو فقدم عليه قهرمان من الشام، وقد بقيت ليلتان من رمضان، فقال له عبد الله: هل تركت عند أهلي ما يكفيهم؟ قال: قد تركت عندهم نفقة، فقال عبدالله: عزمت عليك لما رجعت فتركت لهم ما يكفيهم، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يقول: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول».

إن السعي حثيثا للتوفيق بين ما تطلب الأسرة وما يطلب العمل؛ أمر مهم في الحياة، فالأسرة تحتاج إلى من يقود دفة سفينتها، وخبير يحسن المضي بها، ولا سيما في هذا الزمان المكلل بالخطر، والمحاط بكثير من العواصف الهوجاء، والمغلف بأغلفة من زيغ وزيف وضلال، لأنه لو تركها تبحر من دونه؛ أوشكت أن تعانق التيه، وقاربت أن يطالها الضياع، فالأبناء مثلا ستحيط به بهم فئة ماردة مارقة وقراصنة، لا يعرفون الرحمة لتحيلهم إلى متمردين على كل شيء، ليس أولها علاقتهم بربهم، وليس آخرها علاقتهم بأسرتهم، فينشأ جيلا ممسوخا من قيمه، وتعاليمه، عمي عن دربه، وأعمى عن طريقه، حياته حياة بائسة، وتفكيره تفكيرات محبطة ويائسة، وفي الوقت ذاته، لا ينبغي أن يضيع المرء أمانته في عمله بحجج واهية، فيفسد أكثر من إصلاحه، ويهدم أكثر من بنائه، فيفرط في العمل الموكول إليه، ويقصر في أدائه على الوجه المطلوب، ويقتطع من أوقات عمله لخدمة مصالحه وأغراضه فالله دعانا لرعاية العمل وحفظ الأمانة فيه قال - تعالى -: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) «الأحزاب: 72»، ووَرَد في القرآن الكريم ما يؤكِّد أهميَّة هذا الخُلُق الكريم في العامل في أكثر من موضع، من ذلك على سبيل المثال قولُه - تعالى -: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) «القصص: 26»، وقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) «الأنفال: 27» فالوسطية في الإسلام مطلوبة، والاتزان يثمر حياة ملؤها السرور والسكينة والبشر والانشراح، قال تعالى: (مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ). «النحل: ٩٧».

هي دعوة إذن إلى تحكيم الاتزان في تعاطي المسؤوليات أيا كانت هذه المسؤوليات، أسرية أو عمل أو غيره، فالوسطية والاعتدال في ذلك مما يمنح المجتمع شيئا من الاستقرار، وحالة من الارتياح، وومضة تنير الأمة، وشعلة يحفظ الدين بها وتهدي إلى خيري الدنيا والآخرة والله من وراء القصد.