إشراقات

التوازن.. ليس سهلا

04 مايو 2017
04 مايو 2017

د. ناصر بن علي الندابي -

تحقيق التوازن في مجتمع كثرت فيه تعقيدات الحياة لم يعد سهلا ومتيسرا، ومن هنا تأتي أهمية السعي إلى الموازنة بين متطلبات العمل والأسرة، فلا ينبغي أن يأتي الفرد بهموم عمله ومشاكله إلى منزله، بل عليه أن يضع حدا لذلك، فخروجه من بوابة عمله يعني خروجه من هذه البيئة تماما بكل هموما وظروفها ومشاكلها وصراعاتها، فيهئ نفسه لبيئة الهدوء واليسر والسكنى، بيئة الأسرة والمنزل، فيدخل على أهله منشرح الصدر منطلق الأسارير، ليزرع فيهم الحب والوئام والراحة والاطمئنان، ليكون ذلك دافعا له ولهم على الإبداع، وييسر له التعامل معهم وإعطائهم حقوقهم.

فالإنسان مأمور في هذه الحياة بأن يكدح من أجل أن يوفر لقمة العيش له ولمن يعول، وهذا هو أساس الاستخلاف في هذه الأرض، وهو سبب بقائها وأس تقدمها وتطورها، كما أنه في المقابل متعبّد أيضا بتربية جيل يرثه في نسبه وفي مهمته هذه، ومطلوب منه أن يجعل منه جيل صالحا لهذا الإرث العظيم.

التوزان غاية تشرأب إليها الأعناق وتنشدها جميع الأعراق، نادت بها كل الحضارات السابقة منذ خلقت البسيطة، والتوازن هو هدف يطمح إليه الطامحون، ويسعى لأجله المغامرون والضاربون في هذه الأرض، فالموازنة والمواءمة بين متطلبات الجسد ورغبات الروح همّ حمله السلف وناء بكاهله ثم ورّثه للخلف وسيورثه هؤلاء لمن سيأتي، فنجح من سار على نهجه والتمس طريقه، وخسر وخاب من انحرف عن الجادة والصواب من زاغ عنه وتركه.

ومما لا شك في أن الكل يسعى إلى السعادة، ولا يسعد ولا يجد لذتها إلا من تمكن من الموازنة بين جوانب الحياة المختلفة، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) هكذا أرشد الله عزوجل نبيه عليه الصلاة والسلام، في التعامل مع هذه الحياة ومع كل جوانبها ومتطلباتها، وهكذا أراد الله عزوجل لعباده أن يعيشوا في كونه الواسع.

إن هذا الكون الشاسع المترامي الأطراف، وتلك المجرات الكبيرة في السموات، خلقها باريها فأحسن خلقها، فوازن رب العلا في كل شيء خلقه، «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ »، « صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ»، إن تلك الدقة المتناهية التي خلق الله بها عزوجل بها هذا الكون العظيم ليعطينا درسا في حياتنا لنعي أن التوازن في هذه الحياة هو الأساس الذي يسير عليه ناموس هذه الكون، وأن الميل إلى جانب على حساب جانب آخر هو انحراف عن تلك المنظومة الربانية الدقيقة .

من هذه الآيات البينات ومن خلال تلك الكلمات، نبدأ دخول غمار مقالنا لهذا اليوم، فنحن نحث الخطى ونسابق الزمن لنضع صورة متكاملة للقارئ ليصنع من حياته نموذجا رائعا متناغما مع هذا الكون المتناسق -الذي هو جزء لا يتجزء منه -، فالكل يسبح في فلك واحد، وينشد غاية واحده ويعبد ربا واحدا ويخضع لنظام واحد، وتديره يد واحدة، ويسيّره مسيّر واحد.

إن هذه الحياة المتشعبة والشبيهة ببحر متلاطم، لا ينجو منها سوى ذلكم البحّار الماهر الذي أخذ بالأسباب فسلك طريق الصواب، ممتطيا راحلة تهديه الطريق، وتسلك به سبل الرشاد، فوازن بين كل شيء إذ يعلم علم اليقين أن الميل إلى جانب واحد على حساب الجانب الآخر معناه الغرق والهلاك، في خضم هذا العالم الكبير المتسارع.

ونحن في مقالنا هذه سنركز على جانب واحد من هذه الجوانب الكثيرة وهو الموازنة بين متطلبات الأسرة والتزامات العمل، فالإنسان مأمور في هذه الحياة بأن يكدح من أجل أن يوفر لقمة العيش له ولمن يعول، وهذا هو أساس الاستخلاف في هذه الأرض، وهو سبب بقائها وأس تقدمها وتطورها، إذ يقول رب العزة والجلال : « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور» كما أنه في المقابل متعبّد أيضا بتربية جيل يرثه في نسبه وفي مهمته هذه، ومطلوب منه أن يجعل منه جيل صالحا لهذا الإرث العظيم، فكيف يوفق الإنسان بين هذين المتطلبين، وكيف يوائم بينهما.

جميل أن يكون للإنسان طموحات في هذه الحياة يسعى إلى تحقيقها ولكنه لا بد أن يستشعر أن هناك مسؤوليات ملقاة على عاتقه لا يمكنه أن يتنصّل أو يتخلّى عنها، وقدوته وأسوته في ذلك حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي وازن بين أعماله ومتطلبات أهله، فلم يتوان عن مشاركة أصحابه - رضوان الله عليهم- في كل الأعمال التي كانوا يقومون بها من أجل إعزاز هذا الدين وتمكينه، فقد شارك في المعارك التي خاضعها المسلمون ضد الشرك، وساهم في حفر الخندق لمنع المشركين من دخول مدينته الطاهرة، وغيرها من الأعمال الدنيوية والدينية، ولكنه في المقابل لم ينس زوجاته وأهل بيته، فقد كان لهم عونا وناصحا ومربيا، فكان يحب بناته وأبنائه وزوجاته وعائلته كلها حبا كبيرا ويكن لهم تقديرا وافرا، ويتودد إليهم، فيسمع لكبيرهم ويتودد لصغيرهم، فلم تشغله أعمال دولته ودعوته عن أهله، وقال بأبي هو أمي معلما لأصحابه ومرشدا لأمته « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».

إننا نعيش عالما مختلفا تماما عن تلكم العوالم التي عاشت على هذه البسيطة، هذا العالم المليء بالكثير من المتناقضات والاختلافات، ويضج بالكثير من التطورات التي جعلت من الإنسان - إلا من رحم الله - آلة لا تتوقف، تسعى لمجارات التسارع، فلا هي أدركته ولا هي وزانت بينه، لتحصد خيراته وتجني ثماره.

إن تحقيق التوازن في مجتمع كثرت فيه تعقيدات الحياة لم يعد سهلا ومتيسرا، ومن هنا تأتي أهمية السعي إلى الموازنة بين متطلبات العمل والأسرة، فتحقيق التوازن يلقي بظلاله على الأسرة والعمل وجميع من حول الفرد، فلا ينبغي أن يأتي الفرد بهموم عمله ومشاكله إلى منزله، بل عليه أن يضع حدا لذلك، إذ ينبغي له أن يترك كل ذلك في محيط عمله، فخروجه من بوابة عمله يعني خروجه من هذه البيئة تماما بكل همومها وظروفها ومشاكلها وصراعاتها، فيهيء نفسه لبيئة الهدوء واليسر والسكنى، بيئة الأسرة والمنزل، فيدخل على أهله منشرح الصدر منطلق الأسارير، ليزرع فيهم الحب والوئام والراحة والاطمئنان، ليكون ذلك دافعا له ولهم على الإبداع، وييسر له التعامل معهم و إعطائهم حقوقهم.

لقد قيل في قديم الزمان «خلف كل رجل عظيم أمرأة عظيمة»، وإن كان من شيء نأخذه من هذا الأثر ، ونحن تحدث عن الموازنة بين الأسرة والعمل ، هو أن ذلكم الناجح في حياته العملية هو في الحقيقة ناجح في حياته الاجتماعية، فيكمن أن تكون هذه قاعدة نسير عليها، فذلكم الناجح بين أسرته هو مظن أن يكون ناجح في شؤونه الأخرى.

إن الحالات النفسية المضطربة والضغوطات والمشاكل الصحية التي يعاني منها الكثير من الناس اليوم مردها إلى عدم مقدرتهم على الموازنة بين صروف الحياة وجوانبها ومتطلبات المنزل والتزاماته، فتجده يقضي الساعات الطوال في عمله، ولا يتبقى من يومه سوى سويعات لا يكاد ينعم أولاده منها سوى دقائق أو لحظات، فذلكم الجسد المنهك من كثرة الأعمال والضغوطات التي تلقّاها طوال يومه أنّى له أن يجد طاقة في استيعاب ما تحتاجه أسرته وأبناءه.

إن التزامات تنوء بثقلها على الإنسان وتشغل كل يومه تفقده الشعور بالأنس والراحة مع أهله وذويه، وهي التي ستكون يوما من الأيام قاصمة له، والسبب يعود إلى عدم تمكنه من الموازنة بين العمل والأسرة.

أن الأولاد في هذا الزمان يحتاجون أكثر من ذي قبل إلى وجود الأب معهم وبينهم، إذ أن العالم يموج بالكثير من الفتن، وإذا لم يجد الطفل من يوجهه إلى سواء السبيل فإنه سينحرف وتنحرف معه أسرته ومجتمعه، ويكون وبالا على الأمة، وسببا في ضياعها وانحرافها، فعليك أن تولي بأهلك اهتمام شبيه بذلك الاهتمام الذي تعطيه لعمل ووظيفتك.

إن المجتمع اليوم اختلف عن المجتمع السابق، فالمجتمع السابق كان يربي أبناءه تربية مشتركة ومتكاملة ومتوافقة، فالأب مرب والجار ناصح وإمام المسجد معلم، وأي فرد عاقل في المجتمع مؤدب، فما أن يقع الطفل في خطأ حتى يثور كل هؤلاء عليه، فالكل في المجتمع لا يرضى لأي طفل فيه أن يزيغ، فالجهود متكاملة والسواعد متكاتفة، فهم يعلمون علم اليقين أن ضياع فرد في المجتمع سيكون سببا في ضياع جيل خلفه.

أخيرا وليس آخرا أخي ولي الأمر والمربي إني أحب أن أهمس في أذنك كلمات، أريدها أن تسري إلى القلب لتلامس الوجدان، فتريح الأبدان وتسعد الألباب، إن السعادة في هذه الحياة هي في الصلاة، فقد كان الحبيب المصطفى والهادي المجتبى ينادي على بلال حين تكدره الحياة وصروفها فيقول له «أرحنا بها يا بلال»، وهي التي أوصى بها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو خارج من هذه الدنيا الفانية ليلحق بالحياة الأبدية الخالدة، فليكن لجوؤك -أخي ولي الأمر- إلى الله عزوجل أساس تجعله نصب عينيك وتحض به من تعول، فتجعل لأسرتك نصيب من وقتك لتهديهم إلى طريق الرشاد، وتحثهم حثا حثيثا على التمسك بأهداب الدين وعلى رأسه الصلاة الصلاة.