أفكار وآراء

الانقسامات الشائكة تعرقل المشروع الأوروبي ..

29 أبريل 2017
29 أبريل 2017

جمال إمام -

بعد ستين عاما على مشروع الوحدة الأوروبية التي احتفلت بذكرى تأسيسها مؤخرا في روما لا شك أن الوجوه تغيرت لكن هل بقيت الطموحات كما كانت ؟.

لا أحد ينكر على الإطلاق حجم الإنجاز المذهل الذي حققه الاتحاد الأوروبي بعد توسعيه بانضمام دول أوروبا الشرقية(مع استيفاء معاير الانضمام ) خاصة حلمها البعيد الذي بات واقعا ..

فلم يعد هناك حتى هذا الخط الوهمي للحدود بعد أن طوت التأشيرة الموحدة شنجن الانقسامات والخلافات والعداوات والحروب والمسافات والفروقات الأيدولوجية وتدفقت الاستثمارات والسياحة والتجارة بين الدول الأعضاء فيها على الأقل. وأكثر من ذلك باتت روسيا محاصرة حتى في حديقتها الخلفية ..

لكن فجأة استيقظت أوروبا على واقع مختلف عما كانت عليه قبل ستة عقود فكما حلقت بعيدا بطموحاتها بدأت حاليا تعاني انقسامات حادة ومشكلات شائكة تساهم جميعها في وضع مستقبل المشروع الأوروبي على المحك ..

والواقع أن مياها كثيرة جرت في النهر منذ توقيع المعاهدة التأسيسية للسوق الأوروبية المشتركة - الدول الست - في 25 مارس 1957 وحتى اليوم فرياح التغيير لا تفرق بين ما إذا كانت تهب من داخل الاتحاد أو من محيطه أو من خارجه .. وعلى الرغم من أن قمة روما في مارس الماضي، سعت بكل ما أوتيت من قوة للحيلولة دون انفراط عقد الاتحاد الأوروبي والحفاظ على مكتسباته ومكانته وثقله السياسي والاقتصادي والأمني في النظام العالمي إلا أن قراءة المشهد توحي بأن فصلا جديدا تتم كتابته على نحو يكشف عن التحديات التي تواجه مستقبله وفي مقدمتها ..

• خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي ..بما يشكله من ضربة أخلت بتوازنه السياسي والأمني بدرجة أكبر مما كان يتصوره الأوروبيون الذين تمسكوا في مرحلة ما بعد تصويت البريطانيين على الانسحاب ببصيص من الأمل في إمكانية تراجع بريطانيا عن الفكرة ..

لكن إعلان لندن تفعيل المادة خمسين من معاهدة لشبونة المتعلقة بفك الارتباط بالاتحاد في نهاية مارس الماضي جعل من «بريكست» جزءاً مهماً من الأزمة الحادة التي يعيشها الاتحاد والمتعلقة بمستقبله وتهدد وجوده حيث قررت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي إطلاق عملية انفصال بلادها عن الكتلة الأوروبية.. وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى التحضير لقمة عقدت امس 29 أبريل الجاري، لبحث إدارة ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي خلط كثيرا من الأوراق بشأن دعوات أخرى تقودها الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا لتفكيك الاتحاد الأوروبي لصالح القوميات الأوروبية التي تراها هذه الأحزاب أنها ذابت هويتها وتحللت في مؤسسات الاتحاد المختلفة حيث باتت (بروكسل ) عاصمة الاتحاد برأيهم هي المتحكمة في سياسيات الدول الأعضاء أكثر من حكوماتها .. !!

• أوروبا المنقسمة على نفسها ..هناك أزمة لا تقل تداعياتها على وحدة الاتحاد الأوروبي عن «بريكست» وهي أزمة التباين في العلاقات والذي تشعر معه بعض البلدان بالقلق من أن تصبح أعضاء من الدرجة الثانية في الاتحاد..

فإذا كانت الوثيقة الرسمية التي صدرت عن قمة روما تنص على أن الاتحاد الأوروبي يظل موحداً بعد «بريكست» فإنه لا تزال النقاط التي تثير جدلاً هي تلك المتعلقة بتعزيز ما يسمى «أوروبا بسرعات متفاوتة» كما تطالب كل من ألمانيا وفرنسا بذلك بدعم من إسبانيا وإيطاليا ..

اليونان (نموذجا ) لما يعتبره البعض من الدول الأعضاء في الاتحاد ( دول متقدمة في النمو الاقتصادي ) خللا في منطقة اليورو. تمارس اعتراضات على الفصل الاجتماعي والتي لا تزال تعاني أزمة اقتصادية ولها كذلك خلافا مع ألمانيا أقوى داعمي سياسة التقشف، التي تفرضها عليها مع شركائها في الاتحاد والجهات الدائنة وفي هذه النقطة تطالب اليونان حماية أفضل لحقوق عمالها الذين أنهكتهم سنوات الإصلاحات والتقشف الصارم ..

وبالتالي فإن نقطة الخلاف الجوهرية في فكرة (سرعات أوروبا ) تتمثل في أهمية تعزيز سياسات التقدم الاقتصادي والاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار تنوع الأنظمة الاجتماعية والدور الأساسي للشركاء الاجتماعيين ..

لذلك حاول البيان الختامي لقمة روما طمأنة الدول الأعضاء التي تعاني تراجعا اقتصاديا ومراعاة التباينات الاقتصادية والاجتماعية، حيث تم استخدام صيغة « أوروبا بوتائر- سرعات - مختلفة» حتى بالنسبة لأعضاء جدد قد ينضمون لاحقا ..

والواقع أن هذه الفقرة تم إعدادها بعناية لتهدئة مخاوف بولندا ودول مترددة أخرى تخشى أن يتم استبعادها بسبب معارضتها المتكررة لمشاريع بروكسل في ما يتعلق خصوصا بسياسات الهجرة ..

• ولا تقتصر التحديات فقط على الإطار السياسي الذي تندرج تحته قضايا ترتبط بالتباطؤ الاقتصادي وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية ولكن قضية مثل الهجرة تشكل واحدة من أبرز هذه التحديات..

ضمن سحابة داكنة أمطرت أول ما أمطرت انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي والذي يواجه أسوأ أزمة في تاريخه اليوم وربما تفوقها مخاوف تزايد معدلات الهجرة خاصة القادمين من الشرق الأوسط ..

وهي مشكلة تتفاقم مع استمرار الخلافات الأوروبية التركية وكذلك النازحين والمهاجرين من بلدان أوروبا الشرقية التي مازالت تنظر إلى وضعها الاقتصادي على أنه أقل كثيرا من بلدان أوروبا الغربية ويحاول مهاجروها تعديل الميزان المالي والاجتماعي لهم بالهجرة حيث الدخول ومستويات المعيشة المرتفعة في أوروبا الغربية ..

وفي محاولة من الاتحاد الأوروبي لينجو من العواصف التي تهز كيانه ومؤسساته وحتى شعبيته لدى الأوروبيين أنفسهم، الذين لم يعد يجذبهم بريق الوحدة الأوروبية بعد أن شعر كثيرون أن هويتهم القومية لها الأولوية على اعتبارات الرخاء الذي لم يعد كذلك على نفس القدر من التساوي تنتظر أوروبا إجراء كل من الانتخابات (الفرنسية الألمانية) هذا العام 2017 تحسبا لتغير المشهد السياسي في أوروبا للبدء في ما يعتبره الاتحاد الأوروبي انطلاقة إصلاحية، حيث قدمت المفوضية الأوروبية سيناريوهات مختلفة لمستقبل أوروبا، تعتمد بالدرجة الأولى على «سد الفجوة بين الوعود والواقع»، وتوضيح دور الاتحاد الأوروبي وتشدد على أنه يجب الاختيار بين منح الاتحاد كافة الوسائل لمواجهة التحديات الكبيرة أو القبول بفكرة تدخل أدنى من جانبه ..

وفي هذا الإطار ربما يتبنى الاتحاد الأوروبي واحدا من هذه السيناريوهات التي يرى فيها أن الدول الأوروبية غير قادرة على إيجاد أرضية مشتركة في عدد متزايد من المجالات ليدعو إلى التركيز على تعزيز السوق الموحدة والمضي قدماً على مستوى ثنائي ومتعدد للعمل حول القضايا السياسية ..

وهو ما حاولت القمة الستين - قمة روما مارس الماضي - التأكيد عليه من خلال وجود اتفاق على النقاط الأساسية رغم الخلافات والتحديات فيما يعتبره كثيرون أنها فرصة جيدة لترميم الاتحاد الأوروبي في المرحلة القادمة.