991644
991644
شرفات

الكاتب الذي اهتم بقضايا الأمة وتحولاتها «3»

24 أبريل 2017
24 أبريل 2017

عبد الله العليان -

قصة هذا الكتاب (تزييف الوعي) له حادثة فكرية جرت في قاهرة المعز، حيث ناقش الأستاذ/‏ فهمي هويدي بعض الكتاب والباحثين المصريين، في قضايا إسلامية وفكرية،رآها تجاوزت مجال النقاش المنطقي والعقلاني، من خلال إحدى الندوات التي عقدت في القاهرة، ودار حولها الكثير من النقاش والجدل، كان الحضور ـ كما يقول فهمي هويدي ـ أغلبهم من ذوي الرؤية العلمانية المتطرفة، وهو ما دعاه إلى الرد عليهم، ومناقشتهم بالدليل الذي يخالف رؤيتهم الفكرية، فقد شهد صيف عام1986 في القاهرة حواراً بين الإسلاميين والعلمانيين نظمته إحدى النقابات المهنية كان أبرز ما فيه فكرته وحضوره.لأن حواراً حقيقياً لم يجر في الواقع ولكنه كان أقرب إلى العرض المتبادل لوجهات النظر والتعقيب عليها من جانب كل طرف.إنما مبدأ الحوار ذاته وإدراك الحاجة إليه كان يعد خطوة للأمام بكل المعايير.ليس فقط لأن الطرفين لابد وأن يجدا حقيقة للتفاهم والتعايش، إذا كانا جادين في محاولة إقامة مستقبل هذه الأمة على دعائم ثابتة ومستقرة، ولكن أيضاً لأن قيمة الحوار-أي حوار- باتت غائبة في واقعنا العربي المعاصر.من ناحية أخرى,فقد كان الإقبال على حضور تلك الندوة يفوق كل التوقعات.وبغير مبالغة فقد امتلأت قاعة الاجتماع قبل موعده المقرر بساعتين على الأقل، وسدت الطريق المؤدية إليها، وازدحمت الحجرات المجاورة لها.وعندما حان الموعد، لم يكن هناك موضع لقدم في مدخل المبنى، ولأعلى الرصيف الملاصق له.وكان هناك آخرون تجمعوا على الرصيف المقابل، ليتابعوا الحوار من خلال مكبرات الصوت التي نصبت فوق المبنى.

كان المشهد يعكس شدة التعطش والترقب، ويعبر بصورة لا تنقصها البلاغة، عن الاهتمام الفائق بمثل هذا الحوار.على الأقل، فقد كان هذا الانطباع الذي خطر لي،عندما طالعت الجمع، ونجحت -بمعاونة آخرين- في اختراق كتل اللحم البشري المتراصة، والوصول إلى مكان أستطيع أن التقط فيه أنفاسا بغير عناء، وأن أرى بوضوح القاعة و الحضور.حدث بعد ذلك أنني كتبت مقالاً في جريدة ((الأهرام))، رحبت فيه بالحوار وأهميته، وسجلت ملاحظات عنه حول ما جرى، كانت بينها إشارة إلى مسألة ضيق صدر الشباب الذي ينتمي إلى دين لا يعرف إلى الحوار وسيلة للتبليغ والدعوة.

حرك المقال فيما يبدو بعض المهتمين بقضية الحوار، الذين أدركوا أن وصل الجسور مع الإسلاميين في هذه المرحلة بالذات، أمر له أهميته، وهو تقرير صحيح على أي حال، فكانت هناك اتصالات هاتفية، وأحاديث تقترح توسيع ذلك الحوار، بحيث يشترك فيه عدد اكبر من الإسلاميين والعلمانيين، وعلى أن يتم بعيداً عن المنابر العامة، أي في لقاءات تقتصر على المتحاورين دون غيرهم».(9 ـ 11).

ولا شك أن التعدد والتنوع وهي قيمة عظيمة في الفكر الإسلامي، وحتى في النصوص القطعية كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ـ فيرى فهمي هويدي، إن هذه القيمة الرائعة «لم تنل حظها من القبول والتفهم، حتى بين التيارات الإسلامية ذاتها، فقد تصورت أن إحياء الحوار واستمراره يمكن أن يسهم في إجلاء هذا المعنى وتثبيته في مختلف الأذهان، فضلاً عما سبقت الإشارة إليه من حاجة الطرفين، ومختلف القوى والتيارات السياسية والفكرية، إلى الاتفاق على صيغة التعايش بينهما، باعتبار أن الجميع يعيش تحت سقف واحد، وفي سفينة واحدة، وينتظرهم مصير واحد، في هذه الدنيا على الأقل!...نبهتني قراءة تلك الندوة إلى أن هناك تياراً يرفض الحوار، ويرفض الظاهرة الإسلامية من أساسها، ويعنى فقط بهدم هذه الظاهرة ونقضها. وإن هذا التيار يمارس نشاطاته ويبث أفكاره، بينما نحن في وادٍ آخر نتحدث عن الحوار، ونبحث عن نقاط اللقاء، لنستخلص منها ضوءاً نهتدي به في محاولة صياغة الحاضر والمستقبل. وكان ذلك حافزاً لي على محاولة تجميع مختلف الأدبيات التي تناولت الظاهرة الإسلامية أو الموضوع الإسلامي، من وجهة نظر الناقدة، التي تقف على أرضية علمانية بالدرجة الأولى. تجمعت لدي أربعة كتب ـ ثلاثة من مؤلفيها اشتركوا في الندوة ـ وجدت فيها الكثير الذي يحتاج إلى رد. وتصورت أن نشر هذا الرد على الملأ ضرورة واجبة، على الأقل لأن الكتب موجودة بالفعل بين أيدي الناس، وبعض فصولها نشرتها الصحف والمجلات على فترات متقطعة. وليس من المنطقي أن يوجه النقد إلى الشريعة أو الإسلاميين في كتب تباع على الأرصفة، بينما يرد على هؤلاء في جلسات مغلقة».(13،12).

و لاشك أن الحوار مطلب مهم، لإزالة الكثير من التوترات والاختلافات، ويجب إتاحة الفرصة للحوار بين المختلفين، شريطة ـ كما يرى فهمي هويدي ـ «أن يكون مؤهلاً للحوار، عارفاً بالذي يتحدث عنه، وليس ناقلاً بعض الذي سمعه أو قرأه في كتابات الآخرين.وقد قلت في موضع سابق أن أكثر هؤلاء الناقدين للإسلام من كبار مثقفينا قرأوا عن الإسلام،بأكثر مما قرأوا فيه. ومراجعهم الأساسية في كل ما يدعونه أو ينتقدونه غربية استشراقية بالدرجة الأولى. أما معارفهم الإسلامية، فهي أن تجاوزت العناوين والنبذ، فهي في أحسن الفروض لا تتجاوز مطالعة بعض الصفحات من مؤلفات آحاد السلف والخلف. وهو ما دللت عليه وأثبته في الكتاب أيضاً».(16).

في الفصل السادس ( النصوص الثابتة في الزمن المتغير)، يذكر الأستاذ فهمي هويدي،بعض ما طرحه أحدهم في تلك الندوة الشهيرة التي عقدت في القاهرة، وكانت من طرف فكري واحد فيقول:» إن أحدهم ـ ويقصد د/‏ محمد نور فرحات ـ ذكر في الندوة التي أشرنا إليها من قبل، ما نصه:» إن المداخل الرئيسية للتأثير في هذه الأغلبية (المتدينة) الصامتة، هو ضرب المرتكزات الأساسية التي تنطلق منها هذه الاتجاهات الدينية، وأهم هذه المرتكزات هو قولهم أن هناك نصوصاً ثابتة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان». وفي نقده «الفكرة الصلاحية» قال كبيرهم ـ ويقصد د/‏ فؤاد زكريا ـ أنه ينقصها أمران: الأول أن الإنسان كائن متغير ومن ثم ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيرة ـ والثاني أن الالتزام بالمبدأ يعني الحجر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي. في موضع آخر قال: يجب أن نكتب للناس صراحة ونقول: ليس هناك في أمور البشر ما يسمى قاعدة تصلح لكل زمان ومكان.وتلك قضية علمية، لأن البشر متغيرون وظروفهم متغيرة. وحول الثوابت والمتغيرات في الشريعة عقد أحدهم فصلاً في كتاب له، تساءل فيه: هل يطبق النص الشرعي ولو كان فيه إضرار بمصالح المسلمين؟ (يعني بذلك تطبيق حد السرقة وتحريم الربا كما يشير السياق) ـ ثم وضعنا في النهاية أمام السؤال التالي: هل يعني التسليم بالتدريج في اكتمال الحكم (الشرعي)، التسليم أيضاً بالتدريج في الإبدال بالحكم، حكماً آخر،أكثر مناسبة لمصالح المسلمين ؟ في موضع آخر سأل : ما الذي يدفعنا إلى عقد الولاية لماضينا على حساب حاضرنا، وما الذي يلزمنا بالخضوع (لاحظ الكلمة) لأسلافنا. هذه الأفكار ـ كما يرى عرضها وعلّق عليها الأستاذ فهمي هويدي، وكشف عن الرؤية الاختزالية لقيم الإسلام تناقض ما هو نصي، وما هو قطعي ـ ليست جديدة ، ولكنها تتردد على ألسنة غلاة العلمانيين منذ زمن، فهذا عبد العزيز فهمي باشا ـ وهو من روادهم وصاحب الدعوة إلى استخدام العامية المصرية في الكتابة بديلاً عن العربية ـ كتب في سنة 1944 يقول: إن الدين لله . أما سياسة الإنسان فللإنسان. وما لله ثابت لا يتغير، لأن الله حي قيّوم أبدي، يستحيل عليه التغّير، أما ما وما لله ثابت للإنسان، فكل إنسان يتغير ويتبدل، ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث».(70،69).

وفي فصل الحادي عشر من الكتاب، ويحمل عنوان(شهادات من أزمنة الخلاص)، يشير فهمي هويدي، إلى أحد المواقف في سفره إلى بنجلاديش وتركيا، وهما دولتان علمانيتان، وكيف تتعامل تركيا العلمانية على وجه الخصوص، مع المختلفين معها (وهذا كما يبدو في الثمانينات منذ القرن الماضي، وهو وقت صدور هذا الكتاب، فيقول: إن التجربة الكمالية في هذا القطر الإسلامي الكبير «وصلت إلى حد الحكم بالسجن لمدة 12 سنة على كل من يتعرض بالنقد لمصطفى كمال ـ أتاتورك ـ وتجربته، فإن التي بين أيدينا، التركية والغربية، تكفي لإلقاء الضوء على كل ما جرى.في اسطنبول سعيت إلى لقاء بعض المخضرمين، الذين عايشوا التجربة الكمالية، وقلت لهم أنني أريد أن اسمع منهم حقيقة ما جرى. جميعا تحفظوا على الفور، وقالوا إن القانون التركي يسمح بالتعرض بالنقد والتقييم والتجريح للذات العلية، وللرسل وللكتب السماوية، ولأي شيء مقدس، باستثناء رمز واحد هو: كمال أتاتورك. ليس هذا فقط ، كما يشير هويدي، بل إنه ذكر الإسلام أو الشريعة يعد من المحظورات التي يعاقب عليها القانون بالسجن 12 عاماً. والمشتغلون بالعمل الإسلامي يتحايلون على ذلك النص القانوني، فلا يذكرون أمثال تلك الكلمات « المشبوهة»، ولكنهم يشيرون إلى الإسلام والشريعة، أحياناً بكلمات «الحق» أو «وجدان الأمة»( ملي شعور). وعندما ألححت في الأسئلة، اشترطوا عليّ قبل أي حديث ألا يشار إلى أسمائهم».(128، 127)، هذه هي العلمانية كما طبقّت في تركيا الكمالية،ويراها البعض خشية الخلاص لأمتنا، قد يقول البعض إن التطبيق العلماني في تركيا لا يمثل علمانية الغرب، كما هي محايدة، لكن لماذا بارك الغرب الليبرالي هذه العلمانية الكمالية القمعية وبعض البلدان؟ فالمسألة مسألة تطبيق،وعندما تخلت تركيا عن هويتها أرتاح لذلك الغرب، وسكت عن كل عيوب هذا التطبيق السيئ للعلمانية،وهناك أيضا علمانيات في شرق أوروبا والمعسكر الشرقي، كانت علمانية قمعية أيضاً.. وللحديث بقية،،،