أفكار وآراء

الهدنة بين الأرض والماء .. أم بين الإنسان والطبيعة ؟

23 أبريل 2017
23 أبريل 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تعود العلاقة بين اليابسة والماء الى عصور منشأ الحياة الأولى ؛ وتطورها المتلاحق، وهو التطور الذي يعلي من وتيرته هذا الإنسان الذي يعزز هذه العلاقة بين الطرفين، او يعين على تراجعها، فهو، أي الإنسان، بفعله الطامح أبدا الى وجود حياة آمنة توفر له كل معطيات الحياة التي يعيشها في زمنه هو المسؤول عن كل ما يحدث في هذه العلاقة من تشابكات مفضية الى خير، او العكس، ولذلك كما تروي كتب التاريخ أنه يعود منشأ كل الحيوات البدائية الأولى على ضفاف الأنهار، وعلى امتداد سواحل البحار والمحيطات، ذلك أن علاقة اليابسة بالماء علاقة تاريخية لا ينفك أحدهما عن الآخر، على الرغم من قسوة الماء في كثير من الأحيان على اليابسة في ظروف استثنائية مستمرة، حيث تلتهم اليابسة في كثير من غزوات المياه وتترك كما كانت في نشأتها الأولى أقرب الى الصحراء منها الى الأرض الخصبة، ويعود الإنسان - من بقي منه - الى مجاورة الماء الى حين غزوة أخرى؛ ربما تزيد او تنقص؛ عن سابقتها، وهكذا استمرت العلاقة على الرغم من فوضويتها بهذه الصورة، إلا أنها وجدت علاقات تشابكية شديدة التعقيد، لا اليابسة يمكن أن تكون في معزل عن البحر، او النهر، ولا هما يكونان في معزل عن اليابسة، حيث يرى كل منهما امتدادا له، ويفعل هذه العلاقة أو يؤخر تفاعلاتها بين فترة وأخرى هو هذا الإنسان الباحث أبدا عن حياة فضلى، وعيشة رغداء، بوسائله المتاحة في كل عصر من العصور.

وفي ظل هذه التجاذبات المستمرة بين اليابسة والماء - بفعل الإنسان الطامح بلا حدود - يعاني كلاهما من قسوة الآخر، وهذه القسوة يوجدها هذا الإنسان في مختلف مناخات الحياة اليومية، فمشاريعه مستمرة، أما انطلاقا من اليابسة في اتجاه المياه، حيث تكوين الجزر وشبه الجزر الصناعية، للسكنى والاستثمار الاقتصادي المتعدد الأنواع والمقاصد، وإما انطلاقا من البحر او النهر؛ حيث شق الترع والممرات المائية لتتوغل هي الأخرى الى داخل اليابسة لذات المقاصد، فتحدث في تركيبتها الجيولوجية الكثير من التغيير، وقد تربك الكائنات الأخرى من هذا التطاول على اليابسة، وقد تأتي بمصائب كارثية في حالات فيضانات المياه على امتداد أسطح اليابسة، والمهم في كل هذا هو تحقيق طموحات هذا الإنسان غير المتناهية، ليظل سيدا على كل شيء والمتحكم في الطبيعة بلا منازع. تشكل نسبة المياه (71%) من اليابسة، بينما تتبقى نسبة اليابسة (29%) وفق ما تشير إليه المصادر، ولعل ذلك ما يدعو الإنسان للبحث أكثر عن اتساع أفقي مستمر لاستيعاب مجمل مشاريعه الإنمائية، ومن هنا تستحوذ نسبة المياه على هذا الاهتمام اليوم لارتفاع نسبتها عن اليابسة، وينظر إليها بالكثير من التفاؤل لاستيعاب تمدد اليابسة أكثر وأكثر خاصة لمراحل التنمية القادمة في مختلف التجارب الدولية، ومن هنا يرى أن لا هدنة بين الطرفين، فكلاهما يبحث عن امتداد له على حساب الآخر، وإذا كانت الأزمان القديمة من عمر الإنسانية قائمة على المصادفة، وعلى طغيان الطبيعة، كما يقال، حيث تمارس الطبيعة غوايات القوة والبطش وهي القوة المتمثلة في (الكوارث الطبيعية) كالأعاصير، والانهيارات الطينية، وفيضانات المياه التي تجرف الأخضر واليابس، وتذر الأرض قاعا صفصفا، فإنه في الوقت الحاضر فإن الإنسان يساهم مساهمة كبيرة في هذا التطاول، وذلك من خلال تقليص الامتداد الأفقي لليابسة، فقد استعمر جل مساحات اليابسة على قلتها (29%) من المساحة الكلية للأرض، في ظل نموه العمراني، سواء للسكنى، او للمشاريع الاقتصادية المختلفة، غير مستحضر لفداحة ما يرتكب من أخطاء في حق نفسه، وفي حق الطبيعة من حوله، مما حدا بالحكومات في كل دول العالم، ومجموعات الضغط المناصرة للطبيعة الى التدخل المباشر في هذه العلاقة، وذلك من خلال سن التشريعات والقوانين، والأنظمة؛ والتي في مجملها لعل لها أن تشكل حاجزا رادعا بين الإنسان والطبيعة، وما تبني تخصيص أماكن المحميات الطبيعية إلا مثال واضح للحفاظ على الطبيعة البكر لمختلف المجموعات البيئية سواء تلك التي على اليابسة، او الأخرى التي على الماء، وحيث لا يطغى أحدهما على الآخر بفعل الإنسان الذي لا يعير اهتماما لأي ضرر قد يحدثه في الطرف الآخر، بقدر ما يسعى الى تحقيق طموحاته الخاصة فقط، وما يحقق له غروره، ويلبي له رغباته الزائلة.

يوصف الإنسان على انه جائر على نفسه، وجائر على بيئته، وهو جور لم يأت مصادفة، بقدر ما يخطط له، وينظم له «مع سبق الإصرار والترصد» حتى أن ذلك يصل اليوم الى طبقات الفضاء العليا في مسألة طبقة الأوزون واتساعها المستمر وأثر هذا الاتساع على ركني الطبيعة في الأرض (اليابسة والماء) كما تشير التقارير البحثية بين كل فترة وأخرى، يحدث كل هذا لأن هذا الإنسان أربك هذه العلاقات القائمة بين مختلف البيئات، سواء تلك الموجودة على اليابسة، او تلك الموجودة على الماء، وهي العلاقات المتوازنة فيما مضى، والمضطربة اليوم بقوة التدخل والتوغل غير المتوازن بين الطرفين، والمسألة مرشحة للنمو السلبي، أكثر منه للبناء، على الرغم من حداثة المادة او الوسيلة المستخدمة في حياتنا المعاصرة، إلا أن كل ذلك لم يقلل من مستوى الضرر المستمر لمختلف أركان هذه البيئة التي يجب أن تبقى عند مستوياتها الطبيعية يوم أن خلق الله الأرض ومن عليها، ولكن هيهات هيهات لهذا الإنسان أن يستكين في ظل طموحات مغرية، وآمال متطاولة. تُقيَم تصرفات الإنسان في بعض الأحيان على أنها وليدة ظروف واقعية فزيادة عدد السكان المستمرة، على الرغم من تدفق البرامج الإنجابية الداعية الى التقليل من الإنجاب؛ كبرامج تحديد النسل، او تنظيمه، واحدة من أكبر القضايا الدولية التي تطرح باستمرار، ولها الدور الأكبر في هذا التدفق الإنساني، وبدوره البحث عن مخارج لاستيعابه، سواء الاستيعاب المفضي الى معالجة الجوع والتشرد، او المفضي الى إيجاد المكان الآمن للمحافظة على وجوده واستمراره، بدلا من مواجهة الطبيعة به، وهي مواجهة لا شك أنها ستكون خاسرة لو فتح المجال أمامها، فالطبيعة قاسية، ولا يمكن لهذا الإنسان بإمكانياته المادية المتواضعة أن يجابه تدفقات الطبيعة المباشرة، والمسألة هنا لها بعدان مهمان؛ الأول: هو حاجة الإنسان لإيجاد معززات بقائه ونموه، والثاني: هو إسرافه الشديد في تحقيق هذه المعززات، وبالتالي الجور على البيئة من حوله، والبيئة هنا هي تلك العلاقة القائمة بين اليابسة والماء، وإن أشرك فيها اليوم الفضاء الرحب، وحتى تداعيات الفضاء التي يتحدث عنها اليوم هي انعكاس لما يدور على الأرض من تضاد، وحوار غير متكافئ بين الإنسان والبيئة.

تغير وجه الطبيعة في قريتي الصغيرة، فبعد أن كانت تظللها أشجار النخيل الباسقة، وأشجار الليمون والمانجو والموز، وغيرها من الأشجار التي استوطنتها زمنا مقدرا، هي تتسلل اليها العمارة من كل حدب وصوب، بغية البحث عن سكن ومأوى بمواصفات حديثة، بعد أن ضاقت الأرض الفضاء عن استيعاب الأجيال المتلاحقة التي تولد وهي قابضة على مفتاح بيتها الذي تحلم، ملغية بذلك «خط الرجعة» لما يمكن أن يسمى بـ «حق الأجيال» من كل كنوز الطبيعية البكر، فكل جيل، على ما يبدو، يريد ان يعيش بالكيفية التي يريدها، ولا يقبل أية إملاءات تحت ذريعة «حق للأجيال»، وبالتالي فهذا يدعوه دائما الى التفكير في تحقيق ذاته، وفقط، وطبعا المرتع المفتوح لتحقيق ذلك هي تلك المساحة الممتدة التي تشكل نقطتها الأولى اليابسة، وتشكل نقطتها الثانية والأخيرة هي الماء بما فيه من بحار وأنهار، وبهذا ستظل العلاقة بين الطرفين علاقة تضاد ومشاكسة، مبدؤها ومنتهاها الإنسان ليس إلا.