Untitled-1
Untitled-1
إشراقات

الإباضية التونسيون وأثرهم في الثقافة الوطنية

20 أبريل 2017
20 أبريل 2017

رفض التمذهب الذي يُنذر بالخطر -

د. هادي حسن حمودي -

(قراءة أولى)

أول عهدي بالباحث (فتحي بو عجيلة) اهتمامه بعائلة ابن عاشور، تلك الأسرة الشريفة التي هاجرت في محنة المورسكيين، إثر سقوط الحكم العربي في الأندلس، حيث عانى العرب المسلمون واليهود مرارة التعذيب والتنكيل بشتى صنوفه وألوانه. وبالرغم من ذلك تمكنت تلك الأسرة من استنقاذ آلاف المخطوطات، حملتها معها إلى مستقراتها في الجزائر وتونس والمغرب. وكان أبرز رجالاتها في الجزائر في القرن العشرين الشيخ عبد القادر الذي كان آخر من تملك كتاب (الماء) للصحاري. وفي تونس الشيخ الطاهر بن عاشور الذي كتب عنه فتحي بو عجيلة كتابه (قضايا الحديث النبوي في فكر محمد الطاهر بن عاشور).

حين طالعت عنوان الكتاب (الإباضية التونسيون وأثرهم في الثقافة الوطنية) اعتبرته متساوقًا مع كتاب سابق للمؤلف بعنوان (المذهبي والتاريخي والنقدي في تيسير التفسير الإباضي) ولكن العنوان الثاني للكتاب صدمني في بادئ الأمر، فهو (مدخل إلى دراسة الآخر المحلّيّ).

ذلك أني لا أستطيع قبول وصف أية طائفة بأنها (الآخر) بل أعتبر جميع المسلمين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، يمكن أن تضمهم خيمة الإسلام الواسعة، إن تركوا خارجها التكفير والتنفير، والأسلحة التي يحرم على أية طائفة منهم أن توجهها لطائفة أخرى، وإلا غرقوا في مستنقع آسن لا قعر له. وقد حذرهم التنزيل العزيز من ذلك مرارًا وتكرارًا. لتكون تلك الخيمة ملاذًا لهم من عذاب يحل بهم وعليهم بأيديهم قبل أيدي غيرهم، مما جاء في الآية الكريمة (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (سورة الأنعام 65).

ولكني حين انتهيت من قراءة الكتاب احتملت للمؤلف سبيلا يبرر العنوان الثاني. فالكتاب صدر في سنة 2016م، وهذا يعني أنه أُلّف في أعقاب ما عُرف بالربيع العربي. ومن المعلوم المنكشف الآن، أن ذلك الربيع لجأ إلى الجمرات المغطاة برماد التاريخ، فنفخ رمادها، بما يناسب كل دولة من دول العرب. فثمة جمرات مذهبية طائفية، وجمرات قبلية، وجمرات حزبية، فلكل دولة ما يناسبها، تحت أية ذريعة من الذرائع الجاهزة.

فاحتملت أن المؤلف أراد بهذا العنوان إطفاء جمرة خشي من توقدها، فقرب الأفكار التي أراد التعبير عنها إلى عموم العناصر السكانية المكونة للمجتمع التونسي، فاختار عنوان (الآخر المحلي) كي تكون الأفكار الواردة في الكتاب مقبولة ومعقولة وداعية إلى وحدة المجتمع في إطار وحدة الدولة.

وقد رأيت مصداق ذلك في كثير من صفحات الكتاب التي تصل إلى 440 صفحة من القطع المعتاد للكتب، وصدر في صفاقس، تونس، في التاريخ الذي ذكرناه.

ففي ص 200 ينقل عن الطاهر ابن عاشور قوله: (فالمسلم مخيّر في اعتقاد ما شاء منه (أي من الدين) إلا أنه في مراتب الصواب والخطأ. فللمسلم أن يكون سلفيًا أو أشعريًا أو ماتريديًا، أو أن يكون معتزليًا، أو خارجيًا، أو إباضيًا، أو زيديًا، أو إماميًا. وقواعد العلوم وصحة المناظرة تميز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ، أو الحق والباطل. ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة) (نقلا عن أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور).

ويعقب عليه المؤلف بنصوص عن كتاب المسلك المحمود في معرفة الردود لسعيد بن تعاريت، وهو من علماء الإباضية في تونس، بقوله: (إن التمذهب الذي يُنذر بالخطر هو الذي يؤدي إلى التنازع، وهو الذي ينشأ بالتعصب الشديد للرأي، واعتباره مطلق الحقيقة، والعمل على إلزام المخالف بالرجوع إليه، مع نفي الآخر، واعتباره مطلق الضلال، وإلزام صاحبه بالعدول عنه. وقد رافق هذا المنهج غير السويّ في الاعتقاد، عبر التاريخ، العنف والدمار والهرج، وحسب قول ابن تعاريت: متى تفرّق أبناء الدين الواحد تعس حالهم، وخاب مآلهم، وتحكم عليهم شيطان الشقاق، وانحلت بينهم عرى الوفاق). (ص201).

****

الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه، يضع أمامه مجموعة أسئلة يمكن تلخيصها في سؤال واحد: هل استطاعت الروح الوطنية احتواء الصنمية الطائفية؟ ويجب أسئلته باستعراض ثلاثة كتب إباضية، هي:

1- تاريخ جزيرة جربة ومدارسها العلمية لسالم بن يعقوب، باعتباره عنوانًا بارزًا في تصانيف التاريخ المحلي التونسي، بقراءة ومادة إباضيتين.

2- المسلك المحمود في معرفة الردود لسعيد بن تعاريت الذي يعتبر رمزًا إباضيًا ممتلئًا بالقيم الفكرية الجديدة والمتجهة لسعة الأفق المعرفي. وتبرز أهمية هذا الكتاب، عند المؤلف، من نواحٍ متعددة منها:

أ- إنه من المؤلفات الأكثر قدرة على توضيح تنوع الهوية الدينية في تونس.

ب- يؤدي رسالة ترفض صنمية المذاهب والفرق، وترسخ رحابة التفكير وسعة أفق الاعتقاد.

ج- الدفاع عن نسبية الاعتقاد، وحتمية المعرفة والتعارف والاعتراف، وهو ما نادى به إباضيو ليبيا والجزائر أيضًا.

3- القواعد الجمة في منتخبات مرشد الأمّة لسليمان الجادوي.

ويرى فتحي بوعجيلة أن الكتاب ومؤلفه لهما الصورة المثلى (على الإطلاق) في تلاشي الفوارق العقدية في المسألة الوطنية ذات الأبعاد المتعددة والأطوار المختلفة والرؤى المتباينة، حسب تعبير المؤلف الذي يؤكد أن مادة هذا الكتاب هي صميم الثقافة التونسية التي انصهر فيها التراث والعصر الحديث، بما فيها الانفعال بهموم الاستعمار، وهواجس التحرر والحداثة. ثم يقرر أنه الكتاب الذي ألّف ذاكرة لا تزال فاعلة في النخب وعامة الشعب بل لا تزال مخاضاتها، حسب تعبيره، وسجالاتها وصراعاتها وتجاذبها، تضطرم نارها في العقائد والعوائد.

ولقد أضاف الجادوي إلى جهوده التأليفية خوضه غمار العمل الصحفي بضمن منظور خاص لوظيفة الصحافة. ولذلك اعتبره المؤرخون التونسيون علمًا بارزًا في تاريخ الصحافة الوطنية، وقلما جريئًا في المدونة الإصلاحية التونسية، بذكاء وجرأة في مقاومة الفتن التي أثارها المستعمرون من الأسبان والفرنسيين وغيرهم.

****

يبدأ الكتاب بفصل عن جزيرة جربة التي يعتبرها الموطن الأقدم للإباضيين. (تقع في الجنوب الشرقي من تونس، وتعتبر أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط). ويعرض لأكابر علمائها من ذوي الاختصاصات المتنوعة، ومنهم المؤرخ سالم بن يعقوب الذي أفرده الكاتب بمدونة في الغلاف الخلفي للكتاب وأشاد بتميزه في التنقيب والتجميع والتوثيق والنقل والتصويب، بما يراه وفاء لعقيدته ومعتنقيها.

وحفلت جزيرة جربة بكثير من العلماء الإباضيين الذين شاركوا مشاركة فعالة في الدفاع عن تونس، وبنائها. ونلاحظ أن كثيرا من أبنائها قد درسوا في جامع الزيتونة في العاصمة تونس، ومنهم من رحل إلى الأزهر ودرس هناك. ولعل أغرب شخصية منهم هو الشيخ سالم بن يعقوب (ت 1988م) فقد بدأ حياته تاجرًا ما بين جربة في الجنوب وبنزرت في الشمال، وظل أميًا إلى التاسعة عشرة من عمره، ولكنه استطاع أن يتدارك ذلك بسرعة فأقبل على دروس الشيخ بن مرزوق (ت 1961م) وعرف بقوة الذكاء وسرعة الحفظ وجودة الذاكرة. ثم أكمل دراسته في الزيتونة، وفي الوقت نفسه كان يتلقى المعارف الإباضية من محمد بن صالح الثميني (ت 1970م) وانتقل إلى الأزهر وبقي يدرس فيه خمس سنوات. وكان التدريس في الأزهر حينذاك منظما على شكل حلقات درس تختص كل حلقة بمذهب من المذاهب. فتمكن سالم بن يعقوب من المشاركة فيها، وخاصة حلقة الإباضي الجزائري أبي إسحاق إبراهيم أطفيش. وحين عاد إلى جربة اشتغل في الزراعة وقدم دروسا في الوعظ والإرشاد وله عدد من الأعمال المطبوعة والأخرى المخطوطة. وأهم كتبه (تاريخ جزيرة جربة) صدر منه جزءان ولم يصدر الثالث بعد.

وقد مرت جزيرة جربة وسكانها بظروف مريرة في عدة حقب من التاريخ. فقد اعتبرهم العثمانيون من الخوارج، وفرضوا عليهم ضرائب الجزية وما إليها، كما اعتبروا أن الجزيرة هي ملك صرف للخليفة العثماني (ص 203 وفي هوامشها مصادر أخرى).

ولعل من أهم فصول الكتاب تحليل المؤلف للمؤلفات الإباضية واهتمامه الكبير بصحافتهم وسماها بالصحافة الجادوية، نسبة إلى سليمان الجادوي، الذي كان يرى أن (الإصلاح في الأمم كالبذر، لا ينبت في أرض إلا إذا كان مزاجه موافقا لمزاجها، ويتغذى بعناصرها، ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة، وذهب كد الباذر هدرا، وهو حال من يحاول إدخال إصلاح جديد في أمته بدون أن ينظر في ذلك إلى قابليتها واستعدادها وما يلائم فطرتها) (ص 397). واليوم يعتبر المؤرخون التونسيون هذه الصحف الجادوية من أهم المراجع التي أرخت للأحداث التونسية طيلة فترة صدورها، وفيها وثائق تفرد الجادوي بنشرها، مثل نص معاهدة باردو 1881م الخاصة بالانتداب الفرنسي، واتفاق الباي مع الفرنسيين في 1883م، وقد عقب الجادوي على هذه المعاهدات التي وعدت التونسيين بإصلاح أوضاعهم أنها ليست إصلاحات بل انقلابات تمسخ الوجود التونسي، وهي مفروضة بالقوة والجبروت.

****

ولقد أطلعني بعض الأصدقاء من جربة في زيارتي الأخيرة إلى تونس، على مجموعة من تراث الجادوي وكتاباته، فرأيتني أمام بحر زاخر من الأفكار والأخبار والآراء والإحصائيات، فحثثت الأصدقاء على العناية به ومدارسته ونشره. ونظرا لهذا كله وغيره، لا غرو في أن يعتبر قرين ابن عاشور، والخضر حسين، والحداد، والشابي.

وحين اطلعت على تلك الآثار وغيرها، وأنهيت قراءة هذا الكتاب الذي عرضت له هنا، أدركت السر الذي يفسر عدم اشتراك أي إباضي تونسي في أي عمل إرهابي لا في داخل تونس ولا في سوريا والعراق وغيرهما، والسر هو حبهم لوطنهم والتزامهم نهج السلام الذي دعا إليه الإسلام.

* باحث جامعي عراقي - لندن