المنوعات

الـثـورة الثقافـيّـة لعـلـي الـوردي

20 أبريل 2017
20 أبريل 2017

ماجـد صالح الســـامرّائي -

لو كنتَ صباح يوم جمعة في «شارع المتنبّي» في بغداد - حيث الاحتفاء الشعبي بالثقافة والكِتاب- للفتَ انتباهكَ، من بين ظواهر عديدة تلفت الانتباه في مثل هذا اليوم، سؤال الشباب وبحثهم عن كُتب عالِم الاجتماع العراقي علي الوردي، وعزوفهم عمّا يعدّونه «كُتباً تقليدية»، بما فيها تلك الكُتب التي تبحث في «تأصيل الفرق» وإشاعة «فكر الطوائف»، مُدركين أنّ مثل هذه الكُتب لا تحمل إلّا «فكراً» يصفونه بـ«الزائف».

علي الوردي: عالِم اجتماع، ورجل فكر، يوم دخل الجامعة أستاذاً لعِلم الاجتماع فيها، كان أن «هَدَم أسوارها» الضاغطة على الفكر والتفكير بما تضع لهما من «شروط أكاديمية» ينبغي عدم الخروج عليها.. فخرج إلى الشارع ليقول للناس عبر فسحته المفتوحة على مسار طويل: ما دامت الحياة تبدأ منّا/‏‏ وبنا، فإنّ علينا النهوض بهذه الحياة من خلال النهوض بأنفسنا عقلاً وتوجّهات.. فكانت أولى الخطوات التي اتّخذ، ودعا إلى الأخذ بها، هي التحرّر من «مفاسد الانغلاق». ومن هناك كان له أن حمل الأفكار الجديدة، فعرضها، وناقشها، مُشرِكاً «رجل الشارع» في ما أدار من نقاش، بحكم كونه قد توجّه إليه بما حمل، وهدفه من هذا: التحوّل بالعقل المجتمعي من حالة الأسر لمنطق الوعّاظ.. والانتقال بالإنسان في مجتمعه هذا من الارتهان لحالة الترديد لما يسمع إلى الحال التي يكون فيها «صوتاً».

وإذا كان طه حسين (وكلاهما قرأ ابن خلدون، وكَتب رسالته الجامعية في فكره) قد عمد إلى إعلان ثورته الثقافية في الجامعة، ومن داخل الجامعة، فإنّ علي الوردي توجَّه بثورته الثقافية إلى المجتمع، وخرج إليه مُعتمِداً على ما للعقل المجتمعي من حقّ التفكير بما يعني حياته ومستقبل هذه الحياة الذي لا تصنعه إلّا إرادة حرّة.. فتحدّث إليه، وكَتب له بروح التغيير، وبإرادة هدم الأسوار القائمة بين «العقل المجتمعي» و«حياة الأنوار» (وهي أسوار الخرافة والتفكير المهزوم واقعاً وتاريخاً).. وكان منطلقه، في هذا، ما حمل من رؤية جديدة لتجذير أنساق جديدة من التفكير المجتمعي، وأخذ الثقافة بميزان العقل، فتبنّى ما هو عقلي، ورفض كلّ ما يخرج على هذا العقل من «قيَم» و«مفهومات».

التوجّه الجديد نحو فكر الوردي

يوم ظَهَر الوردي لأجداد هؤلاء الشباب بأفكاره هذه رفضه بعضٌ منهم، وثاروا عليه، واتّهموه بـ«المروق». إلّا أنّه لم يأبه، على الرّغم من خطورة الموقف. ولكنّه وجد مبتغاه عند بعض آخر وجدوا في فكره، لو أخذ مجتمعهم به، عمليّة إنقاذ له من حالة التدهور الحضاري والثقافي التي يعيشها.

ويأتي توجّه هؤلاء الشباب اليوم نحو فكر الوردي في وقتٍ يشهد انفراط كثير من القيَم الثقافية والمجتمعية بانفراط القيَم الفكرية التي كانت «قيَماً ضابطة»، فشاعت حالات الضعف الإنساني، وأضحى التداخل بين «مفردات التراجع» و«رؤية الغازي»، المحتلّ لبلدهم، رائجة!.. حيث يتمّ توظيف «قيَم التبعية»، على نحو آخر، في المجالات كافّة.

وفي مستوىً ثقافي، وبدل التأكيد على الخصوصيّات الحضارية ذات البُعد التاريخي، شاعت عمليات التفتيت الإثني والطائفي، ما شلّ الحراك المجتمعي نحو الأخذ بمنطق المدنية في ما لها من أُسس ثقافية ذات عمق حضاري.. كما يجري تفتيت التراث بنزوعات فرقية، ما أشاع حالات من الضعف الثقافي الواضح، فضلاً عن إضعاف الوعي التاريخي، وتبديد الرؤية التاريخية (التي من شأنها أن تحقِّق للوجود ماهيّته).

هذا الواقع/‏‏ المآل هو ما يستدعي حضور علي الوردي بفكره الذي كان أن ثار به على مثل هذه «الدواعي» و«المواضعات» المجتمعية. فعالِم الاجتماع التنويري الذي بدأ اهتمامه الفكري- الاجتماعي انطلاقاً من «ابن خلدون»، عمل على إيجاد واقعٍ لأفكاره هو، التي كان يريد لها أن تنفتح بمجتمعه، واقعاً وحياة، على واقع آخر غير ما كان عليه عصره الأوّل (في أربعينيّات القرن العشرين وخمسينيّاته). وسنجده يأخذ بالمرامي الفكرية الإيجابية لدى ابن خلدون، ليفتح حواراً إيجابياً بينه وبين مجتمعه، مضيفاً إلى هذا ما كان يحمل من تصوّرات تجديدية غايتها التحديث، بما من شأنه إحداث تحوّل جذري في «عقل المجتمع» أوّلاً، لتكون لرؤيته مسارات واضحة. وبذلك كان أن نظر إلى الثقافة نظرة ليس لنا إلّا أن نعدّها جديدة بالنسبة إلى ما كان سائداً. ولم يكن يهمّه «البحث الفكري» بقدر ما كانت تهمّه «طريقة التفكير» بالحياة ومستقبلها الإنساني، مركّزاً على المجتمع، لأنّ الشخصية -بحسب رؤيته هذه- يصنعها المجتمع الذي يعيش الفرد فيه.

وهو إذ أخذ نفسه بالكتابة فلأنّه وجد فيها-كما يقول- محاولة لقراءة جديدة في مجتمع يعيش بعقلية الماضي.. بينما يتطلّب عصر التطوّر رؤية ومفهومات تتماشى والواقع المعيش فيه.

الوردي وتصوّرات المستقبل

ولكن، هل وضع الوردي في ما كتب ما تعارفنا عليه، اصطلاحاً، فنّ تصوّر المستقبل؟ فإن كان، فإلى أيّ غايات كان يندفع بذلك؟

إنّ سؤالاً كهذا يُعيدنا إلى كلٍّ من «التاريخ» و«الواقع» في ما وضع من حدود لهما بحسب منظوره...

تاريخياً، انطلق من الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية.. ولذلك لم يعتمد «ترديد الماضي»، ولا أخذ نفسه، فكراً وتفكيراً، بـ«محاكاة الآخر»- كما فعل طه حسين - وإنّما درس واقع مجتمعه، وعمد إلى استنباط الحلول الناجعة لمشكلاته من أساسيّات التكوين التاريخي - الحضاري له، مستمدّاً إياها ممّا للواقع من خصائص التكوين الحديث - أي تلك التي قامت، أو أقامها- على مُغالَبة التأخّر والتخلّف، وتوفير الأسباب الموضوعية للتقدّم. فما كان يهمّه هو تحريك الحاضر باتّجاه مستقبل أفضل، بثقافته وبرؤيته الحضارية. فهو إذ يقف على مفهوم الحركة والتطوّر (كما جاء في كتابه: «مهزلة العقل البشري»)، يذهب إلى أنّ كلّ شيء في هذا الكون الذي نحن فيه يتطوّر من حالٍ إلى حال، ولا رادَّ للتطوّر، داعياً إلى دراسة نواميس هذا التطوّر، ومُديناً موقف من يتصدّى للإصلاح.

وأمّا واقعاً، فأراد لنوافذ العقل أن تظلّ مفتوحة على المستقبل، وليس على الماضي (كما كان السائد).. وكان حلمه أن يُسهم في تغيير الحاضر بما يحقِّق للمستقبل صياغاته الحضارية. ومن هنا كان عمله على تفعيل منهجيات عِلم الاجتماع للربط بين انعطافات الواقع في راهنيّته وأنماط التحوّلات التي قال بها الفكر المستقبلي. وقد أدرك من خلال «ابن خلدون»، وعلماء مجتمع، ومفكّرين تواصَل معهم دارساً ومتأملاً في أطروحاتهم، أنّ المستقبل ليس أمراً مُستجِدّاً في التاريخ الإنساني، وإنّما هو «سيرورة زمانية». وقدَّم في كتابه الموسوعي «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» (الذي أصدر منه سبعة أجزاء ولم يُتمّه لأسباب رقابية) ما يؤكِّد فيه استحالة فَهْم المجتمع في وضعه الراهن من دون الرجوع إلى الأحداث التي مرّت به في عهوده الماضية، والتي يجد أنّ لكلٍّ منها تأثيره، القليل أو الكثير، في السلوك الحالي لناس المجتمع، وفي تفكيرهم.

والوردي، كما طه حسين، كلاهما أخذ عن «أفلاطون» فكرته في أنّ الاتّجاه نحو المستقبل يبدأ «مع التعلّم» الذي «من شأنه أن يُحدِّد حياة المرء في المستقبل». أمّا التأرجح بين «الرؤية السلبيّة» للتاريخ (كما يجري اليوم، وبشكلٍ مُتصاعِد، من خلال ما يمكن تسميته بـ«التنكيل بالتاريخ» باسم الدّين) فهو ما يجرّ الإنسان، فرداً وجمعاً، إلى حياة السلبية والاستلاب.

غير أنّ الوردي لم يكن شأن طه حسين - الذي رأى أنّ المصير الذي يرجوه لمجتمعه هو الحضارة الغربية وثقافتها- وإنّما اعتمد القراءة العقلية لواقعه الإنساني ثقافياً، واتّخذ من نتائج هذه القراءة النقدية منهجاً للتغيير- ولكن المثقّف في منظورَيْهما هو مَن يتحمّل مسؤولية المستقبل، الذي ينبغي أن يكون من صناعته.

الوُعّاظ والطُّغاة

نحن اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، في حاجة إلى إثارة الأسئلة التي كان عالِم الاجتماع علي الوردي قد أثارها في خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته، وقبل ذلك في أطروحته الجامعية عن «ابن خلدون»، ولنتوقّف عند كتابَيْن من كتبه، وهُما: «أسطورة الأدب الرفيع» و«وعّاظ السلاطين»، لكونهما يمثّلان مواجَهة صريحة لعديد الإشكالات التي أثارها الواقع العراقي، على وجه الخصوص، على ذلك العهد، وطبيعة مواجهتها من قبل عالِم اجتماع شغله التفكير بمسألة العلاقة الضديّة بين الحضارة والبداوة، لكوننا نمرّ اليوم بحالة تراجع حضاري وتخلّف مجتمعي تفتح الآفاق، إذا ما تواصلت، لعصرِ انحطاطٍ مقبل. وفي هذا السياق يرى أنّ «الوعّاظ» و«الطُّغاة» من نوعٍ واحد: «هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأُولئك يظلمونهم بأقوالهم».. ويجد أنّهم لو كرّسوا مواعظهم في مكافَحة الطُّغاة لصار البشر على غير ما هُم عليه الآن.

ومع أنّنا نُدرك أنّ تلك الأعمال لا تُشكِّل «مقاربة جديدة» في مستوى تفاعلات الحياة اليومية الحاضرة للمدينة العراقية، إلّا أنّها يُمكن أن تسلِّط الضوء على واقع التخلّف الذي ننسحب إليه اليوم، والذي أضحى يشكّل بنية اجتماعية قائمة في حاضر المدينة، حاملاً النتائج السلبية على مستقبل الحياة والثقافة فيها، الذي ستُلغى منه، كما أُلغيت من الحاضر الذي نعيش، أفكار عصرية أساس مثل: التجديد، والحداثة، والتطوّر، والتقدّم، لتحلّ محلّها حالة واحدة، وشاملة، هي: التراجع المديني في مستوى حياة المدينة وتفكيرها، وتراجع الرؤية التاريخية للمستقبل التي تؤكّدها عناصر ثلاثة، هي: السياسة، والثقافة، والعمران.

*كاتب وناقد عراقي

بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي