الملف السياسي

غياب استراتيجية دولية عادلة.. يشتت جهود المواجهة

17 أبريل 2017
17 أبريل 2017

علاء الدين يوسف -

إن نظرة واحدة على جلسة مجلس الأمن الدولي يوم الأربعاء الماضي بشأن التصويت على مشروع قرار التحقيق في اعتداء «خان شيخون» كفيلة بتفسير الكثير من أسباب فشل المجتمع الدولي في محاربة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» وأتباعه

واقع الأمر أن المدنيين الأبرياء في هذا العالم يدفعون ثمنًا باهظًا لعجز القوى الدولية الكبرى عن التوصل إلى إستراتيجية متكاملة ومواقف موحدة لمحاربة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها بالقطع «داعش» وجماعات أخرى تدور في فلكه، ليس هذا فحسب فقد مارست هذه القوى ما هو أبشع بكثير من الانقسام والاختلاف على برامج المواجهة أو الاستراتيجية المنشودة لحماية الأبرياء، بل إن بعضها، إن لم يكن غالبيتها العظمى، عمدت إلى تسييس القضية حتى تتمكن كل قوة من توظيفها لمصلحتها وتحقيق مكاسب ذاتية ضيقة، حتى ولو كان ذلك على جثث المدنيين الأبرياء، ثم ليس من قبيل المبالغة التأكيد على أن الأرواح البريئة التي أزهقت في سوريا والعراق ولبنان ومصر وتونس والسعودية والكويت وتركيا وبلجيكا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا ونيجيريا ومالي والكاميرون والصومال,جميعها أرواح بريئة وفي الوقت ذاته ضحية لانتهازية القوى الكبرى ونتيجة لعدم تعاملها مع مسألة الإرهاب على أرضية المساواة.

وليس خافيًا المعايير المزدوجة التي تتعامل بها القوى الدولية مع الأحداث الإرهابية وحتى في قراءتها للإرهاب ذاته وتعاملها مع جماعات إرهابية، لا تحمل بالضرورة السلاح لتنفيذ أهدافها ولكنها مع الأسف تحمل فكرا ومبادئ أشد فتكا وخطورة من الأسلحة، وليس أدل على ذلك من أن حجم ردود الفعل الدولية تجاه أي عمل إرهابي يقع في أوروبا مهما كانت محدوديته إلا أنها تأخذ حيزًا ضخمًا جدًا من الاهتمام إلى حد التعبئة الدولية بينما لا يأخذ أي عمل إرهابي على الأراضي العربية والشرق أوسطية اهتمامًا مماثلًا مهما كانت خطورة الحادث وبشاعته، وقد لا يتجاوز الأمر بيان الشجب أو الإدانة،هذا مجرد مظهر من مظاهر المعايير المزدوجة قد يبدو بسيطًا ولكنه في الواقع عميق الدلالة، ولعل من المعروف أيضًا أن هناك فجوةً ضخمةً صنعتها القوى الكبرى بعدم تفرقتها الواضحة بين أعمال المقاومة التي تهدف للحصول على الحقوق المشروعة والأعمال الإرهابية التي تهدف لترويع البشر، أضف إلى ذلك انحراف الرؤية إزاء الأحداث الدولية الكبرى، وعلى سبيل المثال فإن التحالف الدولي الذي تشكل في الأساس لمحاربة «داعش» في بلاد الرافدين يبدو في الفترة الأخيرة أنه سينزع نحو العمل على خلع نظام بشار الأسد من السلطة في حين أنه يعد القوة الأساسية في الصف الأول لمحاربة التنظيمات الإرهابية.

ومن الطبيعي في ضوء هذه الحقائق و الانقسامات الميدانية أن يزداد عدد العمليات الإرهابية بشكل مستمر، ورغم أن تأثيرها يتباين من مكان إلى آخر، إلا أنها تكشف أن الأثر الدموي للإرهاب ارتفع بشكل كبير، ما دفع خبراء متخصصين إلى التأكيد على أن نطاق الإرهاب حاليا يزداد اتساعا ويمتد من جنوب شرق آسيا عبر منطقة الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا وقلب أوروبا باتجاه فرنسا وبلجيكا، وحسب معهد الاقتصاد والسلام في سيدني فقد ارتفع عدد ضحايا الإرهاب بنسبة 80 % خلال عام واحد، ويحدد المعهد من جانبه مفهوم الإرهاب في تهديد وممارسة العنف غير المشروع من خلال أشخاص يسعون للوصول إلى أهداف سياسية واقتصادية ودينية أو اجتماعية من خلال ترويع الناس وإكراههم وتفزيعهم، وبالتأكيد بات تنظيم «داعش» في السنوات الأخيرة أخطر تنظيم إرهابي في العالم، وهو يشبه تنظيم القاعدة في العديد من الأشياء، غير أن التنظيم يتبع استراتيجية مختلفة، فأعضاؤه يقتلون بلا شفقة ولا رحمة كل من يعترض طريقهم، حتى المسلمين، وحيثما يحل التنظيم لا يترك خلفه سوى الخراب والدمار ويرتكب أفراده المجازر الجماعية بحق السكان ويستعبدون النساء ويقتلون الأطفال ويقومون بتصوير أعمالهم الوحشية من أجل الترويج للتنظيم واستقطاب الجهاديين من كل أرجاء العالم للالتحاق به في سوريا والعراق، ولهذا التنظيم المتطرف شبكة عالمية واسعة مكنته من شن هجمات خارج مناطق نفوذه بشكل منظم أو من خلال الذئاب المنفردة.

ووفقًا لرؤى مطروحة منذ سنوات عدة، يرى خبراء أنه ليس هناك من حل ناجع للقضاء على الإرهاب العالمي كاملا ولكن هناك إمكانيات ومبادرات ينبغي إطلاقها من داخل المجتمعات لمواجهة ذلك الخطر من خلال وضع برامج تشجيعية تعمل على إبعاد المستقطبين عن التطرف على سبيل المثال، أما فيما يتعلق بموضوع محاربة التنظيم فهم يؤيدون فكرة المواجهة العسكرية على الأرض من خلال الجمع بين القصف الجوي والقوات البرية حتى يمكن مواجهة التنظيم وانتشاره بشكل فعال، علاوة على البحث عن حلول سياسية للنزاعات الكبرى وخاصة الأزمة السورية ومن شأن ذلك أن يساهم في إضعاف هذا التنظيم المتطرف.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه برغم أن هناك تحركات أمنية وعسكرية دولية قد بدأت تؤتى ثمارها خلال الآونة الأخيرة على نحو ما ظهر في محاصرة التنظيم الإرهابي «داعش» اقتصاديًا جراءً تجفيف منابع الدعم المالي له، ولوجستيا من خلال تجميد قنوات جلب الأسلحة والمعدات، وكذلك تجنيد المقاتلين الملتحقين به وإلكترونيا بعد كسر شوكة أذرعه الإعلامية والإلكترونية، ثم تقويضه ميدانيا عبر تحرير غالبية الأراضي التي كان يبسط سيطرته عليها ويقيم في رحابها «دولته الإسلامية» المزعومة خاصة في العراق وسوريا، إلا أن تلك الانتصارات والإنجازات لم تكن لتتم من دون كلفة لا يمكن تجاهلها إذ يبدو أن هزيمة التنظيم الإرهابي قد دفعته إلى الانتقام من خلال زيادة وتيرة جرائم الحرب المتنوعة التي دأب على ارتكابها في المناطق التي يسيطر عليها، وفي القلب منها جريمة استهداف المدنيين وخاصة من خلال الخلايا النائمة والذئاب المنفردة التي تتطلب جهدًا دوليًا مشتركًا في قواعد البيانات وتبادلها وقطع طرق التمويل والتوقف عن استغلال تلك الجماعات لأهداف سياسية خاصة.

ولا شك في أنه يمكن بشكل أو بآخر الاستفادة بالقوانين والمواثيق الدولية، ومن أبرزها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والمعنية بحماية الأشخاص غير المشاركين في الحرب وخاصة المدنيين وكذلك المنشآت المدنية، بالإضافة إلى البرتوكولين الملحقين بهما الذي تم عقدها عام 1977 واللذين تم بموجبهما تقييد أطراف الحروب بقيود إنسانية يستوجب على الجميع عدم تجاوزها، وفي مقدمتها حظر وتجريم استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، فعملية استهداف المدنيين كجريمة حرب حددتها في ممارسات عدة، أهمها الاستهداف المباشر للمدنيين بالقتل أو التعذيب أو الترحيل القسري أو أي معاملة تحط بالكرامة الإنسانية، ثم الاستهداف غير المباشر عن طريق الحصار الاقتصادي بمنع وصول احتياجات المدنيين من غذاء ودواء وكهرباء وماء ومشتقات نفطية وجميع احتياجات المدنيين أو استهدافها أو استهداف المنشآت المدنية وكذلك منع الإغاثة الإنسانية للمدنيين واستهدافها يعتبر جريمة حرب، وبدوره اعتبر القانون الدولي الإنساني الذي أضحى التزامًا قانونيًا دوليًا ومبادئ إنسانية للمجتمع الدولي والتزامًا وطنيًا لجميع الدول، استهداف المدنيين جريمة حرب ضد الإنسانية يستوجب إيقاف مرتكبيها ومحاسبتهم، ما يجعل التنظيمات الإرهابية عرضة لمساءلات قانونية دولية تحتاج إلى إرادة سياسية ومساواة في تطبيق المعايير.

فقد برع تنظيم «داعش» في تنويع الجرائم التي اقترفها بحق المدنيين العزل خاصة في المناطق التي تمركز فيها، سواء في سوريا أو العراق أو خارجهما، ما بين الاستخدام المفرط للقوة بغير ضرورة عسكرية، وارتكاب أفعال تمثلت بالقتل العمد والتعذيب والإخفاء القسري، وأخذ الرهائن والإعدام خارج نطاق القانون والاغتصاب والعنف الجنسي وتجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال القتالية والهجوم على الأعيان المحمية وتدمير التراث الإنساني، فضلاً عن استهداف العاملين في المجالين الطبي والديني، إضافة إلى بث الرعب في صفوف المدنيين بتفجير السيارات المفخخة في المناطق المأهولة بالسكان الآمنين ومحاصرة الأحياء المدنية وقصفها عشوائيًا، ومنع لجان التحقيق والمراقبين الدوليين ووسائل الإعلام المختلفة من الوصول إلى مسرح الأحداث.

ليس هناك إذن ما يحول دون السعي لإنشاء محكمة جنائية خاصة بهذه الجرائم، فبموجب ميثاق الأمم المتحدة يحق لمجلس الأمن الدولي إنشاء محكمة جنائية خاصة مؤقتة للنظر في الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها أطراف النزاع ومحاكمة مرتكبيها ،وذلك على غرار محكمة رواندا الخاصة ومحكمة يوغسلافيا الخاصة، ولإصدار قرار بهذا الشأن يتعين توافر الإرادة الدولية في مساءلة مرتكبي الجرائم على المدنيين وإجماع أعضاء مجلس الأمن الدائمين على هذا الأمر،علاوة على امتلاك رؤية مشتركة واستراتيجية متكاملة للتعامل مع التنظيمات الإرهابية بقواعد ثابتة وموحدة بعيدًا عن الهوى السياسي والمعايير المزدوجة، التي بات المدنيون الأبرياء في مناطق عديدة من العالم ضحايا لها، ولن يمكن حمايتهم من هجمات الإرهابيين بدون علاجها بوسائل واستراتيجيات دولية ناجعة.