شرفات

فهمي هويدي: الكاتب الذي اهتم بقضايا الأمة وتحولاتها «2»

17 أبريل 2017
17 أبريل 2017

عبدالله العليان -

عاد الأستاذ فهمي هويدي إلى بلده مصر عام 1985، بعد انقطاع دام ما يقرب من عشرة أعوام، وعاد إلى صحيفة الأهرام التي احتضنته منذ الخمسينات من القرن الماضي، ونشر مقالاً أسبوعياً كل ثلاثاء استمر دون انقطاع حتى عام 2008، حيث استقال من العمل بالأهرام رسميا، بعد المضايقات التي تعرض لها (مقاله الأسبوعي) بالوقف والحذف، وأصبح كاتباً في جريدة الشروق الجديد المصرية. أصدر الأستاذ/‏‏ هويدي العديد من المؤلفات الفكرية والسياسية، ومن هذه المؤلفات: إيران من الداخل، والقرآن والسلطان، وحتى لا تكون فتنة، والتدين المنقوص، وتزييف الوعي، ومواطنون لا ذميون، والإسلام والديمقراطية، وإحقاق الحق، وطالبان جند الله في المعركة الغلط، والمفترون- خطاب التطرف العلماني في الميزان، وغيرها من البحوث والدراسات مع آخرين، وبحسب الذين كتبه عن حياته الصحفية، أن الأستاذ هويدي» كرس معظم مجهوداته لمعالجة إشكاليات الفكر الإسلامي والعربي في واقعنا المعاصر، داعياً إلى ترشيد الخطاب الديني، ومواكبة أبجديات العصر، كما تناول كثيراً مسألة الصدام الإسلامي - العلماني، وتميزت تلك الكتابات بمحاولات جادة لتحرير الخلاف والدعوة لنبذ الغلو في الأفكار والأحكام المسبقة على الجانبين، هذا بالإضافة إلى امتلاكه مهارة لغوية قوية، وإنشاء فخيم، مما أهله بامتياز أن يكون واحداً من أبرز الكتاب العرب والمفكرين الإسلاميين المعاصرين. ولم تمنعه غلبة الهموم الفكرية من الاهتمام بالقضايا المصرية الداخلية، حيث اعتنى كثيرا في مقالاته بقضايا الإصلاح السياسي والاجتماعي داخل مصر، بل وخصص لها عددا من كتبه، كما أولى عناية خاصة بالقضية الفلسطينية شأنه شأن معظم الكتاب العرب، وتقوم «دار الشروق» على طباعة ونشر معظم كتبه الحديثة.ومن القضايا التي أهتم لها المفكر والكاتب، فهمي هويدي، مسألة الدور الاجتماعي للإسلام، قبل السياسي،وفي كتابه (حتى لا تكون فتنة) الذي صدر في الثمانينات من القرن الماضي، طرح موضوعاً مهماً في هذا الكتاب وعنونه (ماذا عن الإسلام الاجتماعي؟)، ويقول: ثمة علاقة وثيقة بين التدين والترقي، وأن القرآن يهدي للتي هي «أقوم»- بنص الآية 9 من سورة الإسراء- إذ نفاجأ بما هو نقيض ذلك تماماً، الأمر الذي يوحي بأن ثمة خطأ ما في مكان ما، يحتاج إلى اكتشاف وتصحيح. وربما جاز لنا أن نقول إن الأمر لا يخرج أحد ثلاثة احتمالات: عجز التعاليم، أو عجز الناس أنفسهم، أو عقم التوجيه والتلقي.

أين الخطأ ؟- كما يقول هويدي في هذه الرؤية تجاه نظرة البعض للإسلام- ولماذا وقعنا فيه؟ وما العمل؟ سنحاول الإجابة على تلك الأسئلة، لكننا نتعجل تسجيل ملاحظتين ابتدائيتين.

الملاحظة الأولى: تنصب على مبدأ قسمة الإسلام إلى عبادي وسياسي واجتماعي. ذلك أني واحد ممن يتمنون أن يتعاملوا مع هذا النهج بحذر بالغ وبتحفظ شديد. فنحن نعرف أن هناك إسلاماً واحداً، لا يقبل القسمة أو التجزئة، وإن احتمل التدرج والتقسيط. إسلام ينظم حياة المجتمع، ويشكل مشروعاً حضارياً متكاملاً، له سماته وخصائصه المتميزة. ويمسحه الترقيع، ويثيره التفاعل مع أمثاله، في تعاون على «البر» وسعي دائب وراء « الحكمة»، يدخلان ضمن التعاليم والتكاليف الشرعية التي يربي عليها المسلمون. وربما، كما يرى الأستاذ هويدي، كنت واحداَ ممن يدركون أيضاً بعض الذين يروجّون لأمثال تلك التقسيمات لا يضمرون وداً للإسلام. فيتحدثون عن الإسلام المستنير، للإيحاء بإن هناك إسلاماً مظلماً ومعتماً. ويلمحون حيناً إلى الإسلام السلفي، ليعطوا انطباعاً بإن التدين هو بالضرورة عودة إلى الوراء. وأقران هؤلاء وهؤلاء يتداولون القسمة التي نحن بصددها، لتمزيق ثوب الإسلام وتقطيع أوصاله، إيماناً ببعض الكتاب وإعراضاً عن بعضه، أو للاحتيال على تفريغ الإسلام من مضمونه ووظيفته.

الملاحظة الثانية- كما يراها فهمي هويدي- تنصب على نفهمه من هدف للإسلام، بحسبانه رسالة سماوية تؤسس صلاح المجتمع على صلاح الفرد، وتقيم الحكومة الإسلامية في قلب كل مسلم، قبل أن تقيمها في أرض الواقع، وإن هداية الناس والارتقاء بهم، خلقاً وسلوكاً وعملاً، هدف يحتل المقام الأول في الرسالة. والنصوص الشرعية التي لا حصر لها في القرآن والسنة تدل المؤمنين كافة على أن التعبد والتدين إذا لم ينعكسا على خلق المرء ومسلكه فأبواب السماء مغلقة دونهما ص(66،65).

ويناقش الأستاذ/‏‏ فهمي هويدي في هذا الكتاب، قضية التقدم والتراجع الذي حصل للمسلمين وللحضارة الإسلامية، ويشير إلى مسالة أن الإسلام، متقدم في رؤيته للإنسان والحياة، والمسلمون ليسوا كذلك، فيقول: (لماذا الإسلام راق بذاته، والشعوب الإسلامية غير راقية؟) السؤال طرحه الأمير شكيب أرسلان بهذا النص قبل ستين عاماً، ووضع إجابته ضمن كتاب «حاضر العالم الإسلامي» (ج1 ص117)، والاثنان- السؤال والجواب- يتصلان بما طرحناه في البداية حول الاحتمالات الثلاثة: عجز التعاليم، أو عجز الناس، أو عقم التوجيه والتلقي.

برأ الأمير شكيب أرسلان ساحة الإسلام من مسؤولية التردي الذي بلغته الأمة.

بل ذهب أن ((إدخال الأديان في هذا المعترك، وجعلها هي معيار الترقي والتردي ليس من النصفة في شيء)).

ومما ذكره في هذا الصدد أن اليونان قبل النصرانية كانت من أرقى أمم الأرض. ولكنها بعد ما دامت بالدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط. ولم تزل تنحط قرناً عن قرن، إلى أن صارت ولاية من جملة ولايات السلطنة العثمانية، ولم تعد إلى شيء من النهوض والرقي إلا في القرن الماضي، ومع ذلك فقد ظلت دون حالها الذي كانت عليه قبل النصرانية- بعد ذلك تساءل: أفيجب أن نقول إن النصرانية كانت المسؤولة عن انحطاط اليونان: وبعد ما أشار إلى انحطاط الدولة الرومانية بعد تنصرها، قال: إن المسيحية لا يمكن أن تهتم بمسؤولية ذلك الانحطاط، وبالتالي فلا أحد يقدر أن يقول: إن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية.

أضاف بعد ذلك قائلاً: إن الحق الذي لا نرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسؤولة عن جهالة الإفرنج المسيحيين من ألف سنة في القرون الوسطى، بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوروبة. الأمر ذاته ينطبق على الإسلام ففي ظله صنع المسلمون حضارتهم العظيمة، وفي وجوده أيضاً تدهورت حال المسلمين على النحو الذي نعرف ونرى.

إن غاية ما يستطيعه الدين، كما يرى فهمي هويدي، أن يسلح الناس بمجموعة من التعاليم والقيم. ولا يسأل بعد ذلك عن موقف الناس من تلك التعاليم، أو عن الكيفية التي وظفوها بها، ذلك شأن الناس ومسئوليتهم. بالمثل، فإننا نبرئ ساحة الناس من تهمة العجز وفساد المعدن أو الطوية. فالناس على ما تربوا عليه وهيئوا له. إن تربوا على القعود قعدوا، وإن تربوا على النهوض نهضوا. والأمر كذلك، فربما كان الأولى بالبحث والمناقشة حقاً هو الاحتمال الثالث الذي عرضناه وهو: عقم التوجيه والتلقي.

في هذا الصدد. فقد نقول- كما يشير الأستاذ/‏‏ فهمي هويدي: إن تربية الناس وتوجيههم يتمان عادة عبر قناتين، تتمثلان في الجهد الحكومي والجهد الأهلي.الجهد الحكومي يؤدي دوره في الأساس من خلال التعليم والإعلام، ومن خلال المثل والقدوة. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك الجهد لم يعد يؤدي الدول المعول عليه في تربية الأجيال الصاعدة، ليس فقط لأن اهتمام حكوماتنا بالتنمية الاقتصادية يفوق بكثير- بل يصادر- كل اهتمام آخر بالتنمية الاجتماعية وليس فقط لأن مدارسنا باتت تعلم بالكاد- إذا أحسنا الظن- ولم تعد تربي، وليس فقط لأن المثل والقدوة أصبحا من الأمور النادرة التي يمكن أن يعول عليها في تنشئة تلك الأجيال.. لكني أحسب أن الأهم من ذلك كله، أن أنظمتنا لم تحدد بوضوح موقفها من الخيار الإسلامي الحاضر، كما قلت في حديث سابق. أعني أن تلك الأنظمة لم تحسم ذلك الخيار لصالح الإسلام الحضاري بعد. بالتالي فليس معروفا على وجه الدقة، ما هو نموذج الشخصية الذي يراد لشبابنا أن يتمثلوه ويتطلعوا إليه. وما هو نسيج القيم الذي يراد لنا أن نؤسس عليه واقعنا ونسترشد بها في النهوض بذلك الواقع»(71،70).

لا شك أن تقديم الرؤية الاجتماعية للدين، مهمة لفتح آفاق الإسهام الاجتماعي والحضاري، فالدين لازم للإنسان والمجتمع وملازم له، ولابد أن يتحقق في الواقع المعاش مبادئه ونظرته للحياة الاجتماعية، ويسهم في هذا الجانب، بما يحقق الدور المنوط به في تعزيز القيم، نحو العمل والإنجاز، ويكون دافعاً في مواجهة الصعوبات والتحديات، وربط كل ذلك بهدف وغاية لازمين لمصلحة المجتمع وأفراده، فالدور الاجتماعي للإسلام، كما قدمها، الأستاذ فهمي هويدي، في فصول هذا الكتاب، ضرورة حياتية للأمة، وبما يحقق الغاية من هدف الرقي والتقدم البشري، وهو من القضايا التي أسهم فيها العلامة ابن خلدون (العمران البشري)، وتقديمه ليكون في الأولويات من أهداف الأمة ورؤيتها المستقبلية.