أفكار وآراء

المأزق العربي.. بعد العودة الأمريكية

15 أبريل 2017
15 أبريل 2017

د. عبد العاطى محمد -

في مؤتمر واشنطن تحدث وزير الخارجية الأمريكي ركس تيريلسون بلغة صارمة تعكس جدية في التزام الإدارة الجديدة للقضاء على التنظيم، معتبرا محاربته على الأرض والقضاء على أيديولوجيته الأولوية الأولى للولايات المتحدة.

بعد نحو ثلاثة أشهر من توليها الحكم، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في طرح بعضا من جوانب رؤيتها في تعاملها مع الملفات الشائكة في الشرق الأوسط ومنها الوضع المتأزم في كل من العراق وسوريا وعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ورغم ما يشير إليه ذلك من إيجابية في الموقف الأمريكي، إلا أن الضبابية لا تزال تلازم هذا الموقف لأن الإدارة الجديدة لم تكشف بعد عن استراتيجية شاملة تقود سياستها الخارجية تجاه المنطقة، مما يضع الموقف العربي في مأزق.

خلال الحملة الانتخابية اهتم المحللون والمعنيون بشؤون الشرق الأوسط بملاحقة ما يرد على لسان ترامب مما يستشف منه رؤية الرجل لما ستكون عليه السياسة الأمريكية بعد عهد باراك أوباما. وتوقفوا عند الكثير من الأفكار التي أعطت الانطباع بأنه قرر أن يمحو كل ما سار عليه سلفه. ومن ذلك ما تعلق بالموقف من مكافحة الإرهاب والقضاء على تنظيم «داعش»، والعلاقة المستقبلية مع إيران، والحل السياسي للأزمة السورية، استئناف المفوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وخلص المتابعون لخطاب الرجل قبل أن يقدر له دخول البيت الأبيض إلى عدد من النتائج المتوقعة، منها أنه جاد أكثر من سلفه في العمل على وقف الإرهاب والقضاء على «داعش»، وعدم الاهتمام بالحل السياسي للأزمة السورية بعد أن أصبح في يد روسيا، وتفضيل الضغط على إيران على احتواء الخلافات معها، والحرص على تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقا لما يراه الطرف الأخير.

وساد الاعتقاد بأن ترامب الرئيس لن يكون ترامب المرشح، فعادة ما يكون خطاب الانتخابات موجها للنجاح فيها بالدرجة الأولى وليس بالضرورة هو الخطاب الذي يعمل بمقتضاه في اليوم التالي لتوليه المسؤولية حيث يتعين عليه أن يأخذ في الاعتبارات تعقيدات إدارة شؤون البلاد داخليا وخارجيا وكلها تفرض عليه ضرورة المواءمة والاعتدال. وعزز من احتمال تغير مواقفه أن ما كان يعد شاهدا على ملامح سياساته المتوقعة قد تم التعبير عنه بصورة فضفاضة وبلا تفاصيل. وهكذا رجح المتابعون صرف النظر عن خطاب ترامب المرشح وانتظار خطاب ترامب الرئيس. ولكنه صدم هذه التقديرات حيث بدا جليا منذ اليوم الأول في الإدارة الجديدة أنه سيظل كما هو دون تغيير، بل تعمد أن يكون أكثر تشددا في مواقفه وأكثر إصرارا على التمسك بها. وهو ما ظهر في قراراته بشأن الحد من الهجرة إلى الولايات المتحدة والعمل على التخلص من الهجرة غير الشرعية. ولم يكترث الرجل برفض القضاة لقراراته في أكثر من ولاية أمريكية.

ترامب الذي لم يتغير، لم ينتظر طويلا لكي يكشف عن بعض من ملامح سياسات إدارته بخصوص الملفات الساخنة في الشرق الأوسط. لم يخرج عن جوهر ما كان يقوله خلال حملته الانتخابية، فقط انتقل ولو قليلا من العام إلى الخاص أي طرح الخطوات العملية للتعبير عما كان يطرحه في حملاته الانتخابية.

فبعد نحو شهرين من تولى الإدارة الأمريكية الجديدة الحكم، اجتمع في واشنطن وزراء خارجية 68 دولة هم أعضاء التحالف الدولي الذي تم تشكيله في أواخر حكم أوباما لمواجه «داعش». ومع أن الإعلام الأمريكي لم يعر المؤتمر اهتماما لأسباب من المرجح أنها تعود إلى حالة الكراهية المتبادلة بين ترامب والإعلام منذ الحملة الانتخابية، إلا أن ذلك لم يقلل من أهمية الحدث لأنه كان دليلا عمليا على جدية موقف الإدارة الجديدة بخصوص العمل على إنهاء وجود التنظيم الإرهابي. فقد كان آخر اجتماع موسع لهذا التحالف في عام 2014 أي قبل 3 سنوات، علما أن هناك اجتماعات منتظمة لست دول رئيسية في هذا التحالف. وتزامن انعقاده مع تصعيد الدور العسكري الذي تضطلع به الولايات المتحدة في الحرب على التنظيم في العراق وسوريا.

وفي مؤتمر واشنطن تحدث وزير الخارجية الأمريكي ركس تيريلسون بلغة صارمة تعكس جدية في التزام الإدارة الجديدة للقضاء على التنظيم، معتبرا محاربته على الأرض والقضاء على أيديولوجيته الأولوية الأولى للولايات المتحدة. وهو ما ظهرت معالمه واقعيا في عمليات تحرير الموصل والاستعداد الوشيك لتحرير الرقة السورية، فضلا عن ملاحقة مواقع التواصل الاجتماعي التي يستغلها التنظيم لتجنيد أعضائه وحفز ما يسمى بالذئاب المنفردة للقيام بعمليات إرهابية مثلما حدث مؤخرا عند البرلمان البريطاني وفي العاصمة السويدية أيضا.

ولكن الجديد هو ما جاء على لسان الوزير الأمريكي تحت عنوان «مناطق مستقرة مؤقتا». وما رشح من تفسير بشأنها يعد امتدادا لما كان ترامب قد طرحه خلال الحملة الانتخابية تحت عنوان «مناطق آمنة»، ولكنه تفكير مختلف، حيث يعنى تحديدا المناطق التي يتم تحريرها من «داعش» ومناطق أخرى لم تتحدد معالمها، يجمع بينها كلها إخضاعها لوقف إطلاق النار بما يسمح لمن هجرها من السكان العودة إليها والعيش فيها بأمان، وتتحدد إدارتها في ممثلين عن الأمم المتحدة والسلطات المحلية والفصائل المعارضة. المهم هو تضييق الخناق على التنظيم بطرده من مراكزه ومنعه من العودة إليها. وأما المناطق الآمنة فإنها تختلف عن ذلك تماما لأنها تعنى تحديد مناطق بعينها يمنع فيها الطيران وتتم حمايتها بقوات خارجية يجرى الاتفاق عليها. ولصعوبة هذه الفكرة تم تجاوزها منذ وقت طويل.

وقد عاد ذلك الى الظهور بعد الضربة الصاروخية الأمريكية ضد سوريا بعد ما حدث في «خان شيخون» من استخدام للغازات السامة، وقالت واشنطن ان القوات السورية استخدمتها وهو ما نفته سوريا بشدة.

وأما ما رشح عن رؤية الإدارة الجديدة بخصوص عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين فإنه يتعلق بحل مؤقت بضمانة عربية- إسرائيلية ورعاية أمريكية.

وتتضمن هذه الرؤية إقامة دولة فلسطينية مؤقتة على حوالي 60% من الأراضي المتفق عليها عبر اتفاق أوسلو، وتحصل إسرائيل في المقابل على تبعية ما تم إقامته من مستوطنات في القدس والضفة أي تفرض سيادتها عليه، وتتم مفاوضات الحل النهائي بعد ذلك، على أن تتعهد الولايات المتحدة بتوفير الدعم الدولي المالي الكبير لإقامة الدولة المؤقتة. ويجرى هذا الحل عبر مؤتمر عربي – إسرائيلي (حوار مباشر) وبعد أن يكون قد حصل على الغطاء الفلسطيني. وقد تزامن طرح هذا التصور مع تحرك مواز رأته الإدارة الجديدة ضروريا لبناء سياستها الجديدة تجاه كل قضايا الشرق الأوسط، وهو العمل على تشكيل ما يمكن تسميته بتحالف الاعتدال العربي مع إسرائيل والولايات المتحدة. وكان الإعلام الإسرائيلي قد كشف عن هذا التصور قبل عدة أسابيع مضت ووقتها لم يحدث نفي أو تأكيد كالعادة من الجانب العربي!. وقال الإعلام الإسرائيلي أن الهدف من تشكيل تحالف كهذا هو التصدي لإيران، ثم قالت في أوقات لاحقة أنه، بالإضافة لذلك، يهدف إلى وضع نهاية للصراع العربي الإسرائيلي.

الملاحظ على ما رشح من أفكار أمريكية جديدة أنها تعكس عودة أمريكية لاستعادة زمام المبادرة في تقرير مستقبل المنطقة عبر حلول مؤقتة طويلة المدى. ومن ثم إزاحة الدور الروسي أو إجباره على العمل المشترك مع الإدارة الأمريكية الجديدة. فهي مقتنعة بأن الخلاص من «داعش» أولا هو الطريق إلى حل الأزمة في سوريا لأنه سيغير الخريطة السياسية السورية على الأرض تماما بما يعني أنه عندما تحين ساعة الانتقال السياسي لن يكون بمقدور النظام الاستمرار على موقفه بالتمسك بالحكم.

وعلى العكس من ذلك ترى روسيا أن بقاء الأسد هو الأساس والطريق إلى القضاء على التنظيم. ولا شك أن نجاحات واشنطن في القضاء على التنظيم في الموصل ثم في الرقة وفرض وضع قائم جديد يعيد تشكيل الخريطة الاجتماعية والطائفية من شأنه إجهاض التصور السياسي الذي تقوده روسيا حاليا. وكان من اللافت أن إدارة ترامب لم تشر في مؤتمر واشنطن إلى الجهود الجارية ضمن مفاوضات جنيف، هذا فضلا عما هو معروف سلفا بأنها لم تشارك بفعالية في هذه الجهود منذ نهاية عهد أوباما، بما يعني اعتقادها بعدم جدوى هذه الجهود.

وأما ما يتعلق بعملية السلام فإن الرسالة الأمريكية واحدة أيضا، وهى إقصاء ما مضى من ترتيبات وفلسفة للحل والتركيز فقط على ما هو ممكن بعيدا عن الاعتبارات الأيديولوجية وأن يتم ذلك من خلال الدور الأمريكي دون غيره.

فلا حديث عن حل دولي موسع بصيغة المؤتمر الدولي للسلام، ولا حديث عن الاختيار بين حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، وإنما «دولة فلسطينية مؤقتة»، وهو نفس المشروع الذي كان قد طرحه شارون على السلطة الفلسطينية قبل نحو 25 عاما!، والجديد هو أن يتم ذلك من خلال موافقة عربية قبل كل شيء أي التطبيع قبل إنهاء الاحتلال والوفاء بحل عادل لقضايا الحل النهائي. هذا في مقابل أن تترعرع مجددا العلاقات العربية الأمريكية وأن تتكفل إدارة ترامب بتبديد المخاوف الأمنية العربية.

أيا كان رد الفعل العربي، تظل الرؤية الأمريكية الجديدة بكل ما تحمله حتى الآن من تجليات جزئية مغلفة بضبابية كثيفة، تشكل تحديات صعبة وأكثر خطورة على الوضع العربي مقارنة بما كان عليه الحال في عهد أوباما.

فالرسالة واضحة: إذا أردتم أن تجرعوا الحليب الأمريكي فعليكم أن تذوقوا أولا مرارة الواقع»!.