978518
978518
مرايا

الزهراوي.. أبو الجراحة الحديثة

12 أبريل 2017
12 أبريل 2017

أبو القاسم الزهراوي هو طبيبٌ عربي مسلم قضى جلّ حياته في الأندلس، يُعتبر من أوّل وأعظم الجرّاحين في العالم، ويُطلق عليه أبو الجراحة الحديثة، وُلد في مدينة الزهراء وأمضى حياته في مدينة قرطبة، حيث درس الطب ومارسه، وقد اعتبره ابن حزم من أعظم جرّاحي الأندلس، وكتب الحميدي سيرة الزهراوي الذاتيّة في كتاب (جذوة المقتبس في ذكر علماء الأندلس)، والذي تمت كتابته بعد ستين عاماً من وفاة أبي القاسم الزهراوي الذي قيل عنه إنّه من أهل الفضل والعلم. قال عنه جوستاف لوبون إنّه من أشهر جرّاحي العرب، حيث وصف عمليّة سحق الحصاة في المثانة، فغدت هذه العمليّة من غير وجه حق من اختراعات العصر الحديث.

استخدم الزهراوي آلاتٍ جراحيّة مبتكرة إلى حدٍ ما، فقد استخدم المبرد والعلاقة والكلاليب، وتدل ملامح بعض تلك الآلات على أنها أسلاف بدائيّة لتلك الأدوات المُستخدمة في الوقت الحالي، كمشرط البتر والمقص الذي لا يصدأ والذي يتم استخدامه للخيوط الجراحيّة، ومشرط ضيّق لعمليّة شق الجروح، ومشرطين مطليّين بالنيكل، ومشرط مفصّل للركبة، مبعدة ذاتيّة لإبقاء جانبي الجرح مفتوحين أثناء إجراء العمليّة الجراحيّة، وكلّاب ماسك شرياني.

يعتبر الزهراوي واحداً من أكبر المرجعيّات الجراحيّة بل وأهمّها في العصور الوسطى، وقد كتب مؤرخ الطب العربي وهو دونالد كامبل عن تأثير الزهراوي على أوروبا قائلاً: «عملت طرق الزهراوي على إلغاء طرق جالينوس، وعملت على الحفاظ على مركزٍ متميّز في أوروبا لمدة خمسمائة عام... كما ساعد الزهراوي على رفع مكانة الجراحة في دول أوروبا المسيحيّة...». أما بيترو أرجالات فقد وصف الزهراوي بأنه رئيس كل الجراحين دون أدنى شك. وقد ظل تأثير الزهراوي حتى جاء عصر النهضة، وقد كرّمته إسبانيا من خلال إطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة قرطبة بالقرب من جامع قرطبة.

اخترع الزهراوي العديد من الأدوات الجراحيّة، والتي كان يفحص بها الإحليل الداخلي، وأيضاً كان يعالج أمراضاً عديدة بطريقة الكي، ويُعتبر الزهراوي أول من وصف (الحمل المنتبذ)، كما كان هو أوّل من وضع أنواعا مختلفة ومتعدّدة لأنابيب البذل، وهو أيضاً أول من وضع علاجٍ لـ(التؤلول)، وكان ذلك عن طريق استخدامه لمادةٍ كاوية إضافة إلى أنبوبٍ حديدي، وكان الزهراوي أول من استخدم خطافاتٍ مزدوجة وذلك أثناء إجراء العمليّات الجراحيّة، وهو أيضاً أول من توصّل إلى طريقةٍ ناجحة لإيقاف النزيف، وكان له ذلك عن طريق ربطه للشرايين الكبيرة، ووضع وصفا للحقنة (العاديّة والشرجيّة)، واستخدم ملاعق خاصة من أجل فحص اللسان والفم، وهو أول من استخدم مقصلةً خاصّة للوزتين، واستخدم الكلاليب والجفت من أجل خلع الأسنان، هذا بالإضافة لاستخدامه عدّة أدوات كالمكاوي وأيضاً مناشير العظام، إضافة إلى المشارط على اختلافها في عمليّاته الجراحيّة.

الزهراوي أوّل من وصف عمليّة القسطرة، حيث ابتكر أدواتٍ خاصة من أجل إجرائها، وأجرى عمليّة شق القصبة الهوائيّة، والتي أحجم سابقاً ابن سينا وأيضاً الرازي عن إجرائها وذلك لمدى خطورتها، وابتكر آلة غاية في الدقة من أجل علاج انسداد فتحة البول الخارجيّة، والتي يُصاب بها الأطفال حديثو الولادة، ونجح أيضاً في عمليّة إزالة الدم من تجويف الصدر، والجروح العميقة والغائرة. كان الزهراوي أول من صنع خيطانا بهدف خياطة الجروح، واستخدمها في جراحة الأمعاء، وهو أول من مارس الخياطة الداخليّة، وذلك عن طريق استخدام إبرتين، وخيطٍ واحد ثُبّت بهما، وهو أيضاً أول من استخدم الفحم في ترويق شراب العسل، وأول من استخدم قوالب خاصة لأجل صناعة الأقراص الدوائيّة، هذا بالإضافة لأعماله الهامة في عمليّات جراحة الفكين وعلاج الأسنان، وكتب عن تشوّهات سقف الحلق والفم. ويُعتبر كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف)، من أعظم مساهمات الزهراوي التي تركها في عالم الطب، حيث يُعتبر بحق موسوعةً طبية، إذ يتألّف كتابه القيّم هذا من ثلاثين مجلداً.

كما يعد الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا جوتنبرج بعدة قرون، وقد سجل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفذها في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذّ (التصريف)؛ ففي الباب الثالث من هذه المقالة، ولأول مرة في تاريخ الطب والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تُصَبُّ فيه هذه الأقراص أو تُحَضَّر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولاً، ويحفر في كل وجه قدر غلظ نصف القرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه، مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها؛ وذلك منعًا للغش في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية.

وللزهراوي إضافات مهمة جدًّا في علم طب الأسنان وجراحة الفكَّيْنِ، وقد أفرد لهذا الاختصاص فصلاً خاصًّا به، شرح فيه كيفية قلع الأسنان بلطف، وأسباب كسور الفك أثناء القلع، وطرق استخراج جذور الأضراس، وطرق تنظيف الأسنان، وعلاج كسور الفكين، والأضراس النابتة في غير مكانها، وبرع في تقويم الأسنان، فيقول عن قلع الأسنان: «ينبغي أن تعالج الضرس من وجعه بكل حيلة، ويتوانى عن قلعه إذ ليس منه خيف إذا قلع». ثم يشير في حذق إلى أنه «كثيرًا ما يخدع العليلَ المرضُ، ويظن أنه في الضرس الصحيح فيقلعها ثم لا يذهب الوجع حتى يقلع الضرس المريض».

وهكذا يصف الزهراوي -ربما لأول مرة في التاريخ الطبي- الألم المنتقل وخطره؛ مما يضعه على مستوى عصري حتى اليوم. وقد كان مرض السرطان وعلاجه من الأمراض التي شغلت الزهراوي، فأعطى لهذا المرض الخبيث وصفًا وعلاجًا بقي يُستعمل خلال العصور حتى الساعة، ولم يزد أطباء القرن العشرين كثيرًا على ما قدمه علاّمة الجراحة الزهراوي.