أفكار وآراء

فرنـسـا قـد تـهـز الـعـالم مـرة أخـــرى!!

31 مارس 2017
31 مارس 2017

ترجمة قاسم مكي -

الإيكونومست -

مرت أعوام عديدة منذ آخر مرة ثارت فيها فرنسا أو حتى قامت بمحاولة جادة للإصلاح. وظل الركود السياسي والاقتصادي السمة المميزة لبلد لم يتغير فيه الكثير لعقود عديدة تناوبت فيها على الحكم الأحزاب الراسخة من اليمين واليسار. ولكن الانتخابات الرئاسية هذا العام، وهي الأكثر إثارة في الذاكرة الحية، تَعِد بزلزلة الأشياء . فالحزبان الاشتراكي والجمهوري اللذان احتفظا بالسلطة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958 قد يخرجان من المنافسة في الجولة الأولى للاقتراع الرئاسي يوم 23 أبريل. وربما يواجه الناخبون الفرنسيون الاختيار بين مرشحين متمردين هما مارين لو بان الزعيمة الكاريزمية للجبهة الوطنية وإيمانويل ماكرون الزعيم المبتدئ لحركة «إلى الأمام» (أون ماغش) الليبرالية والتي أسسها في العام الماضي فقط. من الصعب المبالغة في وصف النتائج التي تنطوي عليها هذه التمردات. فهي أوضح مثال حتى الآن لاتجاه عالمي جديد يتمثل في تضاؤل أهمية الانقسام القديم بين اليسار واليمين مقارنة بالانقسام الجديد بين الانفتاح والانغلاق. وستترتب عن إعادة الاصطفاف هذه تداعيات تتجاوز كثيرا حدود فرنسا. فهو قد يرد العافية إلى الاتحاد الأوروبي أو يحطمه. إن بؤس أداء الطبقة السياسية وعكوفها على خدمة مصالحها هو السبب المباشر لغضب الناخبين. فالرئيس الاشتراكي فرانسوا أولاند تدنت شعبيته بشدة إلى حد أنه لن يترشح لإعادة انتخابه. كما شهدت المعارضة المعهودة ممثلة في حزب يمين الوسط الجمهوري تلاشي حظوظها في الأول من مارس حين كشف حامل راية الحزب فرانسوا فيون أنه يخضع لتحقيق رسمي بسبب دفعه ما يقرب من مليون يورو (1.05 مليون دولار أمريكي) من الأموال العامة لزوجته وأبنائه مقابل أداء أعمال غير حقيقية، حسبما زُعِم. لم ينسحب فيون من السباق رغم أنه وعد بذلك. ولكن فرص فوزه تتضاءل بشدة. وما يفاقم غضب الناخبين حزنهم على حالة فرنسا. لقد وجد استطلاع في العام الماضي أن الفرنسيين هم أكثر الشعوب تشاؤما على وجه الأرض. فقد قال 81% منهم أن العالم يزداد سوءا فيما ذكر 3% فقط أنه يتحسَّن. ومنشأ هذه الكآبة في معظمها اقتصادي. فاقتصاد فرنسا يتباطأ منذ فترة طويلة. لقد أوهنت الدولة «الضخمة» التي تمتص 57% من الناتج المحلي الإجمالي حيوية فرنسا. فحوالى ربع الشباب الفرنسي بدون عمل. ولا يحصل سوى عدد قليل ممن يعملون على وظائف دائمة من النوع الذي تمتع به آباؤهم. وفي مواجهة الضرائب المرتفعة وكثرة الإجراءات أضطر أولئك الذين لديهم هِمَّة استثمارية منذ فترة طويلة إلى الذهاب للخارج وغالبا إلى لندن. ولكن الوعكة التي تعاني منها فرنسا تتجاوز كثيرا ركود مستويات المعيشة. فالهجمات الإرهابية المتكررة أتلفت الأعصاب وأجبرت المواطنين على العيش في حالة طوارئ تقريبا . كما كشفت عن انقسامات ثقافية عميقة في البلد الذي توجد به أكبر جالية مسلمة في أوروبا. لقد تشكل الكثير من هذه المشاكل على مر السنين. ولكن لا اليسار أو اليمين كانا قادرين على السيطرة عليها. لقد حدثت آخر محاولة جادة من فرنسا لإجراء إصلاح اقتصادي طموح وترميم برامج التقاعد والضمان الاجتماعي في منتصف التسعينات إبان حكم جاك شيراك. ولكن تلك المحاولة انهارت في وجه إضرابات واسعة. ومنذ تلك الفترة لم تحدث سوى محاولات قليلة. لقد تحدث ساركوزي عن مشروع كبير للإصلاح. ولكن أجندته الإصلاحية أطاحت بها الأزمة المالية في 2007- 2008. وكانت بداية أولاند كارثية باستحداثه معدلا ضريبيا أعلى عند 75%. ولم يتح له تدني شعبيته حينها عمل شيء يذكر. وبعد عقود من الركود، ليس من المدهش تقريبا أن الناخبين الفرنسيين يرغبون في التخلص من هؤلاء الساسة. لقد سعى ماكرون وكذلك لوبان إلى الاستفادة من هذا الإحباط. ولكنهما يطرحان تشخيصا مختلفا لأوجاع فرنسا وعلاجا مختلفا، على نحو جذري. فلوبان تلوم قوى خارجية وتعد بحماية الناخبين بإجراءات تجمع بين المزيد من الحواجز وبرامج الرفاه الاجتماعي. لقد نأت بنفسها فعليا عن ماضي عداء حزبها للسامية (بل فصلت أبيها من الحزب الذي أسسه.) ولكنها تروق لأولئك الذين يريدون الانغلاق عن باقي العالم. وهي تشجب العولمة باعتبارها مهددا للوظائف الفرنسية والإسلاميين كمحرضين على الإرهاب ولأنهم يجعلون ارتداء فستان قصير في الشارع شيئا خطرا. وهي تتعهد بإغلاق مساجد الأصوليين ووقف تدفق المهاجرين وعرقلة التجارة الخارجية واستبدال اليورو بالفرنك الفرنسي والدعوة إلى استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي. أما ماكرون فعلى العكس من ذلك. فهو يعتقد أن المزيد من الانفتاح يجعل فرنسا أقوى. وهو منحاز بقوة للتجارة والمنافسة والهجرة والاتحاد الأوروبي. وهو يتبنى التغيير الثقافي والإحلال التكنولوجي. ويعتقد أن السبيل لإيجاد المزيد من الوظائف للفرنسيين سيكون التقليل من إجراءات حماية الأيدي العاملة وليس إضافة المزيد منها. وعلى الرغم من أنه ظل يفتقر لسياسات محددة (من المتوقع أن يكون قد أصدر مانيفيستو حولها عند ظهور هذا المقال) إلا أنه يطرح نفسه ثوريا معاديا للعولمة . وإذا تأملنا جيدا هذين المتمردين، لن نقتنع على نحو كاف بأنهما قادمان جديدان. لقد أنفقت لوبان حياتها في السياسة. وتمثل نجاحها في أنها جعلت حزبا ظل متطرفا حتى الآن مقبولا اجتماعيا. وكان ماكرون وزير اقتصاد حكومة أولاند. وربما أن برنامجه لتحرير الاقتصاد سيكون اقل جرأة من برنامج فيون المحاصر بالمشاكل والذي وعد بخفض القوى العاملة بالقطاع العام بحوالي 500 ألف عامل وتقليص قانون العمل. وسيواجه كلا هذين الثوريين مصاعب في تحويل أجندتهما إلى قوانين. فحتى إذا فازت لوبان لن يكسب حزبها الأغلبية في الجمعية الوطنية. أما ماكرون فهو بالكاد يملك حزبا. ورغما عن ذلك فإنهما يمثلان رفضا للوضع القائم. وسيكون انتصار ماكرون دليلا على أن الليبرالية لاتزال تروق للأوروبيين. أما انتصار لوبان فقد يجعل فرنسا أكثر فقرا وانغلاقا وأذى. وإذا أخرجت فرنسا من منطقة اليورو فسيطلق الانسحاب أزمة مالية وسيقضي على اتحاد تمكن، رغم كل عيوبه، من تعزيز السلم والازدهار في أوروبا على مدى ستة عقود. إن بوتين سيحب ذلك. وربما ليس مصادفة أن يحصل حزب لوبان على قرض كبير من مصرف روسي وأن يعاني حزب ماكرون من أكثر من 4 آلاف هجوم إلكتروني. ومع بقاء شهر فقط تقريبا قبل حلول الانتخابات، يبدو من المستبعد أن تفوز لوبان بالرئاسة. فاستطلاعات الرأي تظهر أنها ستكسب الجولة الأولى وستخسر الثانية. ولكن أي شيء في هذه الانتخابات الاستثنائية يمكن أن يحدث. لقد سبق لفرنسا أن هزت العالم. ويمكن أن تفعلها ثانية.