أفكار وآراء

تعدد الأطراف في دعوى التحكيم

29 مارس 2017
29 مارس 2017

د. عبدالقادر ورسمة غالب -

Email: [email protected] -

في القضايا المدنية أمام المحاكم قد يكون هناك أكثر من مدع واحد وكذلك قد يكون هناك أكثر من مدعى عليه واحد، وفي كل الأحوال، تبدأ إجراءات القضية أمام المحكمة المختصة مهما كان عدد الأطراف وليس لأي طرف في الدعوى سلطة في تعيين القاضي الذي ينظر هذه الدعوى. بالنسبة للتحكيم، فالوضع فيه اختلاف لأن أطراف الدعوى لهم كل الحق في اختيار المحكم الفرد أو هيئة التحكيم وذلك انطلاقا من القاعدة الأساسية «التحكيم إرادة الأطراف».

والوضع بالنسبة لتعيين المحكم الفرد أو هيئة التحكيم وكذلك الإجراءات المرتبطة بهذا التعيين واضحة في حالة عدم تعدد الأطراف أي عندما يكون هناك محتكما واحدا ومحتكما ضده واحدا وفي مثل هذه الحالة، وكقاعدة عامة، يقوم الأطراف بتعيين المحكم الفرد أو هيئة التحكيم. ولكن قد يتعدد الأطراف ويكون هناك أكثر من محتكم أو محتكم ضده.

وهنا قد تطرأ مشكلة لأن الأطراف قد لا يتفقون وتتعدد الآراء بالنسبة للمحكم المختار. والمشكلة قد تطرأ لأن هؤلاء الأطراف من دول مختلفة وأفكارهم مختلفة تماما وكذلك قوانينهم مختلفة أو لاختلاف سبب الدعوى لكل طرف أو قيمتها أو لأي سبب آخر قانوني أو خلافه.

في قضية التحكيم الشهيرة الخاصة بـ «سيمنس الألمانية ضد شركة دوتكو للإنشاءات» تعدد الأطراف المحتكمون من الناحيتين وفشلوا في الاتفاق على اختيار هيئة التحكيم بالرغم من المحاولات العديدة والمتابعة اللصيقة من محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريس، حيث لجأ الأطراف للتحكيم. وبعد تفاقم الاختلاف بين الأطراف المحتكمة حول اختيار هيئة التحكيم، تدخلت محكمة التحكيم وقامت بتعيين هيئة التحكيم وتم السير في الإجراءات حتى إصدار القرار النهائي من هيئة التحكيم.

بعد ذلك تقدم أحد الأطراف بالطعن لنقض الحكم، وأصدرت محكمة التمييز الفرنسية قرارها بنقض حكم هيئة التحكيم وبذا اعتباره كأن لم يكن. وفي أسبابها قالت محكمة التمييز الفرنسية أن تعيين هيئة التحكيم لم تتم فيه مراعاة «المساواة» بين الأطراف المحتكمة لأن تعيين «هيئة التحكيم» لم يتم بنفس الطريقة التي توفر المساواة في حق الاختيار لجميع الأطراف المحتكمة بدرجة واحدة، ولذا فقرار التعيين يعارض مبادئ القانون العام الفرنسي وبالتالي يتم نقض الحكم المترتب عليه

وهذا الحكم أثار جدالا كثيرا في أروقة التحكيم وخاصة لدى مركز تحكيم غرفة التجارة الدولية، لأن مراكز التحكيم تقوم بالتدخل في تعيين المحكم أو هيئة التحكيم اذا طلب منها الأطراف المساعدة وكذلك درجت الممارسة بأن لهذه المراكز حق في التعيين اذا فشل الأطراف في تحقيق هذا الغرض والا فسوف لن يتم التحكيم لسبب إجرائي محض بالرغم من توفر رغبة الأطراف في اللجوء للتحكيم لتسوية النزاع الذي طرأ فيما بينهم.

وفق أحكام نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية فيجب على الأطراف المتعددون، المحتكمون أو المحتكم ضدهم، الاتفاق في ما بينهم علي اختيار المحكم الفرد أو هيئة التحكيم وبناء على هذا الاتفاق يصدر منهم قرار مشترك بالتعيين والاختيار لمهمة التحكيم . وهذا الأمر واضح، ولكن تطرأ المعضلة في حالة عدم الاتفاق.

وتم اضافة فقرة جديدة في نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية لمعالجة الوضع خاصة بعد صدور حكم محكمة التمييز الفرنسية، في قضية «دوتكو». وبموجب هذه الاضافة الجديدة وفي حالة عدم اتفاق الأطراف المتعددون، فانه يجوز لمحكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية القيام بتعيين كل عضو من أعضاء «هيئة التحكيم» ولاحقا تقوم بتعيين رئيس الهيئة من ضمنهم.

وعلى محكمة التحكيم في حالة تعيين هذه الهيئة الالتزام والتقيد التام بكل المعايير العامة التي يتضمنها النظام والتي تتناول كل التفاصيل الخاصة بالتعيين وكذلك متابعة كل المستجدات المتعلقة بالتعيين أو اعادة التعيين لحين انقضاء مهمة التحكيم. ومن المعايير العامة مثلا، مراعاة عدم تعيين رئيس هيئة التحكيم من نفس جنسية الأطراف المحتكمة تجنبا لاحتمال تضارب المصالح أو الشعور بعدم الارتياح الذي قد يتولد عند أحد الأطراف.

وهذا الموقف الذي انتهجه نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية سارت على نهجه، لاحقا، العديد من مراكز التحكيم المؤسسية حيث قامت محكمة لندن للتحكيم الدولي (ال سي آية اي) ومنظمة الوايبو و أل (أي أي أي) للتحكيم بتعديل أنظمتها لمنح «السلطة المختصة» لديها، والتي تعمل وفق أنظمتها، الحق في اختيار هيئة التحكيم عندما لا يتفق الأطراف المتعددون على اختيار المحكم الفرد أو هيئة التحكيم.

وبهذا فإن جميع هذه المراكز أعطت «السلطة المختصة» لديها كالأمين العام مثلا، الحق في تعيين هيئة التحكيم اذا اختلف الأطراف المحتكمون في الاختيار ولم يتفقوا صراحة في هذا الخصوص. ولا بد من القول، بأن قانون اليونسيترال النموذجي لم يتم تعديله لمقابلة هذا الوضع بالرغم من أنه بدأ يأخذ موقفا جماعيا متحدا

النقطة المهمة، أن أنظمة مراكز التحكيم التي أقرت صراحة بمبدأ الحق في تعيين هيئة التحكيم عند اختلاف المحتكمون أصبحت تتمتع بهذا الحق ولدرجة تنفي عدم المساواة بين الأطراف عند تعيين هيئة التحكيم. وهذا يعود لأن أطراف النزاع عند اختيارهم لمركز التحكيم يتم التعامل معهم باعتبار موافقتهم الكاملة لنظام المركز بكل ما فيه. وهذا ضمنيا يعني تفويض السلطة المختصة في المركز، وفي أي وقت، بتعيين هيئة التحكيم وكلما لزم الأمر..

وبالنسبة لممارسة غرفة التجارة الدولية عند اختيار هيئة التحكيم، في مثل هذه الحالات، علمت أنهم في بعض الأوقات وسعيا للبحث عن الأفضل فانهم قد يستأنسون برأي اللجان الوطنية التابعة لغرف التجارة والمرتبطة بغرفة التجارة العالمية وذلك عند اختيار «هيئة التحكيم». ويطلب من اللجان الوطنية تقديم بعض الأفكار والآراء عن الأسماء المطروحة لعضوية هيئة التحكيم، وبالطبع يطرح على اللجنة الوطنية اسم مواطنيها لأنهم ألصق بهم ويعرفون عنهم المزيد من التفاصيل.

ولكن، مثل هذا التنسيق ليس إجباريا أو إلزاميا للغرفة ولكنه ربما يتم وفقا للمعطيات في بعض الحالات. وفي نظري فإن مثل هذا النوع من التعاون الفني بين غرفة التجارة الدولية واللجان الوطنية يعتبر أمرا محمودا وقد يعود بفوائد عديدة لكل الأطراف.

من هذا يتبين لنا أن غرفة التجارة الدولية تمنح التحكيم اهتماما كبيرا وعظيما ولا تألو جهدا في تعبيد كل الطرق لتذليل الصعاب التي قد تعترض طريقه، وذلك عبر اصدار الأحكام التنظيمية السليمة وتنقيحها لمقابلة المستجدات أو عبر انتهاج الممارسات السليمة لتعزيز التحكيم ورفده مستفيدين من كل التجارب المتنوعة. وما حدث من اجراءات اتخذتها الغرفة، بعد صدور حكم التمييز في قضية سيمنس الألمانية وشركة دوتكو للإنشاءات، يعطي دلالة واضحة على اهتمام غرفة التجارة الدولية بتطوير صناعة التحكيم التجاري. وهذا يشكل خير سند وأقوى دعم للتحكيم الذي يلجأ له كل العالم كأحد أفضل البدائل لتسوية المنازعات بين الأطراف. وكل هذه الخطوات الجادة تدعم التحكيم لتمكينه من لعب دوره المهم في تحقيق العدالة الناجزة التي يسعى لها الجميع ويحوم حواليها.