الملف السياسي

طوق التوافق .. وخطر الغرق الجماعي !!

28 مارس 2017
28 مارس 2017

د.عبد الحميد الموافي -

طوق التوافق يمكن أن ينقذ المنطقة ككل، أما إذا لم يحدث ذلك، لأية أسباب، فإن الغرق الجماعي سيشكل خطرا حقيقيا، والغرق هنا لا يعني الاختفاء تحت الماء، ولكنه يعني الغوص في دوامات الفوضى وفقدان الاتجاه الصحيح والقدرة على الوصول الى شاطئ الأمان.  

في ظل الأوضاع والظروف، والتطورات التي تمر بها المنطقة العربية، التي كان يحلو للكثيرين تسميتها الوطن العربي، ولكنه وطن باتت مساحاته تنحسر بشدة، وتضيق باستمرار أمام أبنائه، الذين يتعرضون الآن لما لم يتعرضوا له من قبل، على النحو الذي يجري على الأرض، حيث تشتعل الحرائق في أطراف الثوب العربي وقلبه أيضا، فإنه من الطبيعي، بل والضروري، أن تتجه كل الأنظار العربية ، وغير قليل من الأنظار الإقليمية والدولية ، إلى المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة ، التي تحتضن القمة العربية الثامنة والعشرين ، التي تلتئم غدا الأربعاء في منتجع البحر الميت ، ليس فقط لأن قمة البحر الميت تضم قادة الدول العربية، وممثليهم، بمعنى أنها أعلى مستوى سياسي عربي، بكل ما يعنيه ذلك من إمكانية وفرص للتوصل الى رؤى ومواقف مشتركة، وتوافقات يمكنها تخطي، أو عبور، فجوات قائمة وخلافات تبدت على نحو صارخ وضار بالمصالح العربية الفردية والجماعية، وعلى نحو اختلطت فيه الأوراق والمشاعر والحسابات، ولكن أيضا لأن أعلى مستوى سياسي عربي، اذا لم يستطع، بكل صلاحياته، وحكمة قادته وبعد نظرهم وقدرتهم على التفهم والتفاهم والتوافق، تجاوز الوضع الراهن والخروج منه الى أفق أرحب وأكثر قدرة على تجميع الطاقات العربية وحشدها لخدمة المصالح العربية، الفردية والجماعية، وفي مقدمتها إطفاء كل الحرائق العربية المشتعلة الآن، وتبريد - إن لم يكن حلا - كل الخلافات، التي يشتعل أوارها - أو بعضها على الأقل - تحت الرماد، فإن ذلك يعني ببساطة أن دول وشعوب هذه المنطقة لن تستطيع الخروج من الوضع المأساوي الراهن، ربما لفترة غير قليلة قادمة، لسبب بسيط هو أن ما لا يستطيع القادة إنجازه، لن تستطيع المستويات الأصغر أو الأدنى تحقيقه، وهذه هي فرصة ومعضلة دبلوماسية القمة، سواء كانت على الصعيد العربي، أو على أي صعيد آخر. ومع الوضع في الاعتبار أن المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، وقيادتها ممثلة في جلالة الملك عبد الله الثاني، قد بذلت كل ما يمكنها، وحرصت على توفير كل ما يمكن أن يحقق نجاح القمة الثامنة والعشرين لقادة الدول العربية، فإنه من المأمول أن تشكل هذه القمة، الشديدة الأهمية، خطوة عملية، تفتح الطريق لاستعادة التوافق العربي بين الأشقاء، بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة للمواطن وللمشكلات وللدول والشعوب العربية، التي يتعرض ملايين من أبنائها لخطر المجاعة، وللتشرد، ولخطر الموت في مياه البحر المتوسط، عند عبوره هربا من ميليشيات التكفير، واملا في اللجوء الى أوروبا. ولذا فان تطلعات كثيرة تحيط بالقمة ومعلقة بها. وفي هذا الإطار فانه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: انه من المعروف، على نطاق واسع، أن الخلافات العربية، هي خلافات دائمة و متجددة ومتعددة الأشكال والأسباب والدوافع، وتلعب فيها الكيمياء والعوامل الشخصية دورا غير قليل . وإذا كانت الدول العربية قد استطاعت التغلب على كثير من خلافاتها، في ظروف مختلفة، والأمثلة عديدة منذ أول قمة عربية بالقاهرة في ديسمبر عام 1964 ، مرورا بقمة الخرطوم 1967، وقمة القاهرة سبتمبر 1970، وقمة الجزائر 1974، وقمة عمان 1987، وصولا الى قمة نواكشوط في مارس الماضي، إلا أن الخلافات العربية الآن، هي خلافات أكثر اتساعا وعمقا، بل تدهورت، بحكم عوامل ودوافع عديدة ومستجدة أيضا، الى حد استخدام السلاح، سواء بشكل سافر ومباشر، أو بشكل مستتر – وان كان معروفا – في هذه الخلافات، وعلى نحو غير مسبوق تقريبا، في حجمه وتعدده واتساعه وأسبابه. والمؤكد أن ذلك كله، وما تمر به المنطقة يتطلب ما هو اكثر بكثير مما كان يتم من قبل لتجاوز، أو احتواء، أو وقف وتجميد الخلافات العربية، أو البحث عن حلول وتوافقات بشأنها. فالبيئة العربية مختلفة الآن، وحتى أوضاع العديد من الدول العربية، قد طرأت عليها تغيرات كثيرة، دخلت بدورها في دائرة التأثير على ما حدث ويحدث، وهو ما يمتد بالضرورة الى دائرة الحلول أو الاقتراب من ذلك.

ونظرا لأن هدف لم الشمل العربي، ليس مسألة نظرية، وانه يتجاوز بكثير، مجرد اللقاءات والاجتماعات والمجاملات البروتوكولية، خاصة اذا أردنا له أن يكون عمليا وملموسا، فانه – أي لم الشمل – يرتكز بالضرورة على أسس ومبادئ واضحة ومحددة ومتفق عليها من جانب جميع الدول العربية، ويتم أو ينبغي أن يتم ، الالتزام بها أيضا. وهنا تحديدا قدم ميثاق جامعة الدول العربية، ما تم الاستناد إليه من قبل، وما ينبغي الاستناد إليه الآن أيضا، وفي مقدمة ذلك تأكيده على احترام استقلال وسيادة الدول العربية، وعدم جواز الالتجاء الى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر، وبالطبع عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام نظام الحكم القائم في الدول الأخرى بالجامعة، باعتباره حقا من حقوق تلك الدول، والتعهد بعدم القيام بعمل يرمي الى تغيير ذلك النظام فيها. وإذا كان الوضع العربي الراهن يبعد كثيرا عن ذلك، بحكم حجم التدخلات العربية في شؤون الدول العربية الأخرى، وبأشكال ضارة بها، فانه من المهم والضروري استحضار مبادئ وأسس ميثاق جامعة الدول العربية وجعلها أساسا للعلاقات العربية الآن، حتى يمكن الخروج من المأزق الراهن. وليكن ذلك من خلال البحث عن توافق بين الأشقاء، وهو توافق لا يعني، ولن يعني الاتفاق التام فيما بينها، أو تذويب كل الخلافات بشكل سحري، فهذا غير ممكن، ولكن يمكن الالتقاء على أن المصلحة الجماعية العربية تقتضي إنهاء كل الحروب القائمة، والتأكيد مرة أخرى على احترام حقوق وسيادة الدول العربية الشقيقة ووقف استخدام القوة في حل الخلافات، والسعي الى استعادة الثقة المتبادلة بين الأشقاء ، ولعل الخطوة الأولى تتمثل في وقف كل أشكال الحروب والتراشقات الإعلامية بين الأشقاء، تمهيدا لإيجاد مناخ أكثر ملاءمة للسير معا نحو إرساء وتمتين أسس مقبولة ومتفق عليها للعمل العربي المشترك وإعادة تفعيل جامعة الدول العربية، التي شكلت، ولا تزال تشكل البيت العربي الكبير القادر على أن يسع كل الأشقاء، ويعزز العلاقات فيما بينهم، ولصالحهم جميعا.

وإذا كانت آفة الخلافات الراهنة تنبع من أسباب كثيرة، من أهمها أن كل دولة تجعل مصالحها الوطنية الذاتية نافذتها وسبيلها الى المصلحة الجماعية العربية، فإن التوافق على المصالح العربية الجماعية، خاصة في مواجهة التهديدات الراهنة، التي تتعرض لها المنطقة، يمكن أن يكون مساعدا لتحقيق التوافق بين الأشقاء، لأن المصالح الوطنية للدول العربية ستظل غير متطابقة بالضرورة، لاعتبارات كثيرة. ولكن يمكن تقريب المسافات والتركيز على عناصر الالتقاء وتمتينها والبناء عليها، لاحتواء مساحة الخلاف وتضييقها باستمرار، وقمة الغد يمكن أن تقوم بدور كبير وملموس أيضا في هذا المجال.

*ثانيا: إنه اذا كان هناك ما يمكن تسميته بالأذرع العربية الممتدة بالسلام، أو على الأقل بالرغبة في تحقيقه، سواء مع إسرائيل من خلال المبادرة العربية التي صدرت عن قمة بيروت عام 2002، أي قبل خمسة عشر عاما، ولا تزال قائمة، أو مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وذلك من خلال رسالة دول مجلس التعاون الخليجي الى إيران، التي نقلها وزير الخارجية الكويتي، باسم دول مجلس التعاون في ديسمبر الماضي، الى الرئيس الإيراني حسن روحاني، وما اعقب ذلك من زيارة الرئيس الإيراني لكل من مسقط والكويت في فبراير الماضي، وهى اذرع ورغبات ترتكز على احترام سيادة الدول الأخرى وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، والالتزام بالقوانين والشرعية الدولية وبميثاق الأمم المتحدة وسياسة حسن الجوار، وبالطبع حل القضية الفلسطينية في إطار حل الدولتين، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها لحل الخلافات، وحل اية خلافات أو منازعات بالطرق السلمية ، فان الالتزام بهذه الأسس والمبادئ بين الأشقاء العرب هو أمر له الأولوية، بل انه يشكل عنصرا داعما للموقف العربي من ناحية، وباعثا على الثقة به من جانب مختلف الأطراف الأخرى، إقليمية ودولية من ناحية ثانية. ومن هنا تظهر أهمية وضرورة الالتقاء والتوافق بين الأشقاء على ذلك، ليس فقط على الصعيد العربي، ولكن أيضا لدعم مواقفهم ومساعيهم الإقليمية. والمؤكد أن الفشل العربي في الالتزام بالأسس المشار إليها على صعيد العلاقات بين الأشقاء، سيكون مدعاة الى تشكك الأطراف الإقليمية الأخرى، بل وأقدامها على نفس الأساليب المرفوضة في علاقتها مع بعض الدول العربية، بحجة أن الدول العربية تمارس ذلك فيما بينها. فهل يمكن أن نتوافق معا ؟

*ثالثا: إنه في الوقت الذي تشكل فيه القضية الفلسطينية، القضية المركزية بالنسبة للدول العربية، وهو ما يعني عودتها الى صدارة الاهتمامات العربية في قمة الغد، الى جانب قضايا مكافحة الإرهاب والقضايا العربية الأخرى، أو بالأحرى الحرائق العربية الأخرى، خاصة وان هناك الآن محاولات متواصلة لأن تجرب إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب حظها في محاولة حل القضية الفلسطينية، فانه من المعروف أن نجاح القمة العربية الثامنة والعشرين، وقدرتها على التجاوب من الطموحات العربية، ولو في حدها الأدنى، ليست بالتأكيد مسؤولية أردنية فقط . صحيح أن المملكة الأردنية الشقيقة وقيادتها حرصت على مدى الأسابيع، بل الأشهر الأخيرة، على توفير كل ما يمكن أن يؤدي الى نجاح قمة البحر الميت، ولكن الصحيح أيضا هو أن نجاح القمة يعود أيضا الى الأشقاء العرب، أي الى الدول العربية، والى مدى توفر إرادتها السياسية في التوصل الى توافقات مفيدة فيما بينها، حول مختلف القضايا المطروحة والتحديات التي تفرض نفسها بقوة، وفي حين تسعى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية الى القيام بدورها الداعم لكل توافق وتقارب ممكن بين الأشقاء، فان الكرة في الواقع في ملعب الأشقاء، ونأمل أن يكون الجميع على قدر ما تحتاجه هذه المرحلة من مسؤولية وبعد نظر وقدرة على صنع التوافق والتحرك نحوه، تحقيقا للمصالح الفردية والجماعية العربية، فطوق التوافق يمكن ان ينقذ المنطقة ككل، أما اذا لم يحدث ذلك، لأية أسباب، فان الغرق الجماعي سيشكل خطرا حقيقيا، والغرق هنا لا يعني الاختفاء تحت الماء، ولكنه يعني الغوص في دوامات الفوضى وفقدان الاتجاه الصحيح والقدرة على الوصول الى شاطئ الأمان الذي تتطلع إليه كل الدول والشعوب العربية، بل وشعوب المنطقة ككل أيضا. إنها بالقطع مسؤولية ضخمة على عاتق القمة، أعان الله القادة عليها.