أفكار وآراء

المصارف .. والمسؤولية الاجتماعية

26 مارس 2017
26 مارس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ينظر الى المصارف بأنواعها المختلفة التجارية المباشرة، او التي تعمل تحت مسمى «المصارف الإسلامية» على أنها أحد أعمدة الاقتصاد الوطني المهمة، ولذلك تحظى بالاهتمام والرعاية من المؤسسة الرسمية على وجه الخصوص؛ ويمثلها هنا البنك المركزي، بالإضافة الى أهميتها لدى المستفيد من خدماتها المختلفة، وإن كان هذا المستفيد يدفع ثمن ما تقدمه له هذه المصارف من خدمات، ولكنها، كما يقال: (خير لا بد منه)، والمصارف عموما تمثل أحد أوجه الحياة الجديدة في أي مجتمع، وهي مكون أساسي من مكونات الحكومة العصرية، فاشتغالها ليس مقصورا على البقعة الجغرافية الواقعة فيها، ولكن تتعدى خدماتها الى خارج حدود الوطن احيانا ، وهناك اتفاقات وارتباطات بما تمليه عليها مهامها ومسؤولياتها تجاه زبائنها في الداخل، من حيث الخدمات التي تقدمها، من ناحية، واتجاه استثماراتها لأموالها وأموال زبائنها من ناحية ثانية، ووفق هذه الصورة التكاملية، والتشابكية تعمل هذه المصارف، وأن تطرح أسئلة جوهرية عن حقيقة هذه الاستثمارات التي تدر عليها هذه الأرباح الكبيرة جدا، وهو ما يعكس دعاياتها الإعلانية المكثفة، حيث يحصل المدخرون على مبالغ ضخمة تصل الى المليون في بعض الأحيان، هذا بخلاف الجوائز المقدرة بعشرات ومئات الآلاف في أحيان كثيرة، وبهذه الصورة تتبوأ هذه المصارف هذه المكانة لدى جمهورها العريض، وتحظى بالاحترام والتقدير غير المشكوك فيه، وإن آلمت بعض خدماتها بعض الزبائن، وخاصة المدينين منهم، نظير الأرباح التراكمية المركبة، التي يدفعها هؤلاء الزبائن مع نهاية سنوات القرض، وهي سنوات تمتد طويلا وقد تصل الى عشرات السنين.

يندر اليوم أن لا يكون احد أفراد المجتمع قد اضطر الى مثل هذه القروض، واعني بها القروض الشخصية، فمجموع التسهيلات التي يبدأ بها صاحب القرض تشجع على الاستمرار، فالمسألة لا تتعدى رسالة من جهة العمل تثبت تأكيد استمرار تحويل الراتب الى المصرف المراد أخذ القرض منه، وبعدها مجموعة أوراق توقع في فترة زمنية لا تتجاوز الساعة الزمنية الواحدة، وما هي الا (24) ساعة ويكون الضيف الكريم (مبلغ القرض) قد حل في حساب صاحبه، وعلى هذا الصاحب الذي أصبح يملك مبلغا وقدره أن يتبختر مستشعرا كبر المبلغ الذي يملكه في تلك اللحظات الزمنية والتي لن تتعدى أياما او أسابيع معدودة، ربما لن تزيد عن الشهر الأول، فإذا به امام مارد الأقساط المتجهم امام ناظريه عند نهاية كل شهر، حيث يذهب نصف الراتب قسطا للمصرف «الكريم» ويزداد العبء اكثر واكثر مع توالي الشهور والسنين، حيث العائلة تكبر، والأطفال يكبرون، والحياة قاسية بمتطلباتها الكثيرة، وسقف الرواتب يزحف زحف السلحفاة، فالزيادة السنوية تظل محدودة وان كبرت، ومن يفتقد الحكمة في كيفية تصريف راتبه، يكون قد وقع في المحظور، هذه هي الصورة بنصاعتها الكاملة بلا زيادة.

ومع ذلك فليس كل الناس وقع تحت شرك الدعاية الاعلانية للمصارف، فهناك من وهبهم الله الحكمة (ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) حيث استطاعوا نزع انفسهم من الوقوع في مأزق الـ «دين» بحكمتهم وحسن تصرفهم، وصبرهم على ما هم عليه، فلم تغرهم المظاهر، ولم تؤثر فيهم دعايات السلع المختلفة، نعم لم تعكس معيشتهم الرفاه، ومستوى الاسر الارستقراطية، ولكنهم ناموا قريري العين «لا هم بالليل، ولا مذلة بالنهار» فالديون، كما هو معروف عنها شر بكل معنى الكلمة، ومن سلم نفسه لها لظرف او لآخر عليه أن يتحمل مجمل التداعيات الناتجة عن دين ما، وقد أشارت بعض التقارير في وقت سابق الى ان القروض الشخصية لدى أبناء المجتمع في السلطنة تتصدر القروض الأخرى، وكما هو معروف أن القروض الشخصية، تظل - في أغلبها - قروضا استهلاكية، لشراء سيارة، او أثاث منزل، او صيانته، أو لرحلات استجمام، وما يندرج تحت مسمى الاستهلاك، وهذه الفئة هي الوحيدة التي تعاني من عبء الدين، لأنه لا مردود لهذا الدين، فقد ذرته رياح الاستهلاك والمتعة؛ وفي زمن قصير جدا، لا يتجاوز أسابيع معدودة، بينما سداده يستمر سنوات يقتطعها المقترض من عمره الجميل، وربما نجح من استقرض لبناء او شراء منزل، وإن دفع اضعاف ما هو متوقع.

أذكر جيدا أنه في منتصف التسعينات والى عهد قريب، ولا تزال بعض التجارب ناجحة ومستمرة، انتشرت ما يسمى بـ «الجمعيات التعاونية» حيث يتجمع عدد من الناس، إما تجمعهم بيئة عمل، او قربى، او صداقة فيكون جمعية تعاونية؛ غير ربحية؛ يتفقون من خلالها على دفع أقساط شهرية متساوية، تجمع هذه الأقساط فيأخذها احدهم، حسب القرعة، في آخر كل شهر، وقد حققت هذه الجمعيات نجاحا كبيرا ، خاصة تلك التي جمعت عددا كبيرا من الناس، وارتفع فيها القسط الشهري الى مئات الريالات، وكان مجموعها الشهري يصل الى عشرات الآلاف، مما ساعد أناسا كثيرين في شراء منازل وأراضي، وأشياء أخرى كثيرة، دون أن يدفعوا ريالا واحدا، ربحا زائدا عن ما حصلوا عليه، إلا أن هذه التجربة واجهت مشكلات، وقد فشلت معظم هذه الجمعيات، حيث انسحب اعضاء بعد ان اخذوا انصبتهم الأولى، وهناك، كما سمعت ان أناسا كثيرين لم يحصلوا حتى على مبالغهم التي دفعوها، فضلا أن يحصلوا على أدوارهم في الجمعية، ومع ذلك بقيت بعض الجمعيات الصغيرة ذات الاعداد المحدودة التي تجمع زملاء عمل، او أعضاء من أسرة واحدة، ولا تزال تحقق نجاحات حيث اغنت أعضاءها عن الاستدانة من المصارف التجارية .

يعمل البنك المركزي العماني، وهو المؤسسة المرجعية لمختلف المصارف التجارية وغيرها على تنظيم آليات عملها في التعامل مع زبائنها، سواء من حيث سن القوانين، او من حيث تحديد اسقف أعلى للربح على القروض، وهناك جهود مستمرة في هذا الاتجاه، وإن كانت بعض التغيرات والتعديلات التي تتم على المرابحة لا يعرف عنها كثير من المتعاملين مع المصارف التجارية، إلا بالصدفة أحيانا عندما يخبرهم صديق، أو زميل؛ حيث إن هناك شريحة كبيرة لا تتابع ما ينشر في الصحف اليومية بصورة مستمرة، وفي المقابل لا تقوم هذه المصارف بإعلام زبائنها بمثل هذه التغييرات والتعديلات، وأنا واحد من الذين علمت بعد (6) اشهر ان هناك تعديلا أجراه البنك على سقف الأرباح للمصارف، وعندما راجعت البنك الذي أتعامل معه، وقمت بجدولة القرض حسب النظام الجديد، وجدت فرقا كبيرا ما يقارب من (400) ريال عماني، ذهب هذا المبلغ طوال الـ (6) أشهر دون أن أعلم، ودون أن أُعلم، وهذا مما يصوب سهام النقد الى مثل هذه المصارف في عدم إشراك زبائنها بأي تغييرات يقوم بها البنك المركزي في صالح المستهلكين، وعندما تناقش الإدارة يقال لك إنه تم الإعلان عن ذلك في الصحف.

ليس مطلوبا من هذه المصارف على أنواعها التجارية، او تلك التي تعمل تحت مسمى «المصارف الإسلامية» - وفقا للمسؤولية الاجتماعية - أن تعفي جزءا من قروضها لزبائنها، ولكن المقصود ان تحرص على إشراكهم في مثل هذه التغيرات التي تحدث، والتي تأتي في صالح الزبائن هذا على أقل تقدير، مع التأكيد أن أي إجراء يقوم به البنك المركزي في هذا الاتجاه لن يكون مضرا لهذه المصارف، وإنما هي نوع من تخفيف العبء على صاحب الدين، لأن جل المدينين، كما أسلفت، ينضمون تحت سقف القروض الاستهلاكية، وليست الاستثمارية، ولعله من باب مراعاة هؤلاء الذي إما قست عليهم الظروف للوقوع في هذا المأزق، وإما انساقوا من غير وعي للاقتراض لدواع استهلاكية آنية فقط، فأوقعوا أنفسهم في مأزق ليس يسيرا التخلص منه، والنقطة المتعلقة بهذه المسؤولية تدور أيضا حول لماذا لا تخصص هذه المصارف جزءا من بند الجوائز، مبلغا معينا، لتسديد قرض زبون ما بقي من قرضه زمنا قصيرا، في حدود العام الواحد مثلا ؟ هل ذلك صعب؟ يعلم أغلبنا أن الهدف من الجوائز هو تشجيع الادخار، ولكن السؤال كم يبلغ عدد المدخرين مقارنة بعدد المستقرضين؟ أجزم أنه لا مقارنة بينهما، ويقينا ان عدد المستقرضين مضاعف بلا جدال، مع الاحتفاظ بالإشادة من أن هناك مصارف تقدم مبالغ سخية لكثير من مؤسسات المجتمع المدني، وهذا توجه تشكر عليه بلا شك.