أفكار وآراء

هل يرسم كيسنجر سياسات ترامب الخارجية ؟

22 مارس 2017
22 مارس 2017

إميل أمين -

[email protected] -

كثيرة هي الأوراق الاستراتيجية التي بحثت في احتمالات الصراع بين واشنطن وبكين لاسيما في زمن « شي بينغ « الذي وصفته مجلة الايكونوميست البريطانية بأنه « رئيس كل شيء « في تلميح واضح لرغبته السيطرة على مقدرات العالم ، في الوقت الذي تعاني فيه أمريكا من تبعات فرط الاعتدال الامبراطوري .  

غير أن تقريراً سلم إلى دونالد ترامب في البيت الأبيض بتاريخ الخامس من فبراير المنصرم ، وقام عليه مجموعة من المتخصصين البارزين في الشؤون الصينية ، يجزم بأن الصراع يبدو حتميا من جراء ملفات تبدأ بالقضايا الاقتصادية والتجارية ، ثم أزمة تايوان ورؤية ترامب لها ، وصولاً إلى إشكالية بحر الصين الجنوبي ، الذي يراه الصينيون بعداً أمنياً استراتيجياً لهم ، وينظر له الأمريكيون على أن تعطيل الملاحة الدولية فيه مسألة لا يمكن القبول به ، وأمر يهدد سيطرة الأساطيل الأمريكية على البحار والمحيطات حول العالم ، وعلى مدار الأربع وعشرين ساعة يومياً .

وعطفاً على التقارير المختلفة يمكن للمرء أن يتخيل صورة الصين في عيون ترامب كما يرسمها له كبير مستشاريه « ستيف بانون « صاحب النزعات اليمينية بامتياز والذي يحمل للصين وكذا للصينيين عداء مزدوجاً ، فهو يراهم عدواً سياسياً واقتصادياً من جهة ، وبوصفه محسوبا على التيارات اليمينية المسيحية الأمريكية فإنه يرى الصينيين كشعب يكره المسيحيين بأكثر من كراهيته للأمريكيين أنفسهم.

النظرة للصين واضحة كل الوضوح في عيون وزير الدفاع جيمس ماتيس ، وإن كان يرى روسيا أيضاً عدوا لا يقل خطورة عن الصين بخلاف رئيسه ، وقد فاق الاثنان في رؤاه التصادمية للصين الجنرال « مايكل فلاين « مستشار الأمن القومي الأمريكي قبل استقالته ، وهو اليميني النزعة إلى أقصى حد .

هنا يلزم الإشارة إلى أن رؤية عالم الاجتماع الأمريكي الراحل « صموئيل هنتنجتون « لا تزال قائمة وفعالة، فالأمريكيون بحسب نظرية « صدام الحضارات « يقعون في جانب الحضارة المسيحية - اليهودية ، والتي بالضرورة لابد لها وأن تتصادم مع الحضارة الصينية الكونفوشيوسية في تحالفها مع الحضارة العربية والإسلامية ، مع ما للإسلام والمسلمين من حضور سلبي طاغٍ بين أركان إدارة ترامب .....

الصين إذن هي العدو اليوم وغداً وعليه فإنه لابد من اللعب على المتناقضات من أجل إحتوائها وتقزيمها ، وهنا يظهر معنى الحلف الأمريكي الروسي الذي يسعى ترامب لانشائه، وجدوى الخطة الأمريكية المستحدثة التي يقف وراءها ومن جديد ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية « هنري كيسنجر « ... ماذا عن ذلك ؟

قبل الدخول في عمق الجواب ربما يستدعي المشهد الدولي من بكين إلى موسكو والعكس نظرة سريعة ، ذلك أنه رغم التحسن في العلاقات مؤخراً ، والصفقات المتبادلة بين الجانبين من نفط وغاز وبضائع صينية مختلفة ، إلا أن الهواجس التاريخية الروسية خاصة تبقى كامنة تحت الجلد ، والروس يعلمون علم اليقين أنه في الوقت الذي يشعر فيه الصينيون بأنهم أنداد للروس أو أقوى سيكون لهم شأن آخر . فيما الروس ولاسيما المحافظين منهم يضمرون تخوفات واضحة من بيع الأسلحة الروسية الحديثة للصين ، تحسباً لظهور مشكلات مستقبلية بين البلدين ، سيما وأن التنافس على امتداد النفوذ في آسيا الوسطى قائم بشكل جلي ، وهناك تناقض محتمل للمصالح في منطقة الشرق الأقصى الروسي ، حيث تشجع الصين تغيير التوازن الديموغرافي لصالحها ، ما يجعل الأصوات القومية الروسية تنذر وتحذر بقوة من هجرة الصينيين إلى تلك البقعة من الآراضي الروسية .

هل كان هنري كيسنجر وراء رسم الخريطة الحديثة لدونالد ترامب فيما يخص السياسة الدولية تجاه روسيا والصين ؟

يلزمنا التذكير بما أشار إليه مدير مكتب صحيفة الواشنطن بوست في الصين « جون بومفريت « في مقال له عبر الصحيفة المقربة تاريخياً من البيت الأبيض من أن ترامب سوف يلعب مع روسيا والصين لعبة كيسنجر .

اللعبة المشار إليها مشهورة في علوم الاستراتيجيات العسكرية ، وربما كانت صينية في الأصل ، فقبل كلاوزفيتز منظّر الحرب الكبير في الغرب ، كان هناك « صن تسو « وكتابه عن « فن الحرب « وتأسيس مفهوم اللعب على المتناقضات .

في الرابع من فبراير عام 1972 ، تحدث هنري كيسنجر وكان وقتها يشغل منصب مستشار الأمن القومي في إدارة ريتشارد نيكسون لرئيسه في البيت الأبيض بالقول ... « إن الصينيين خطيرون مثل الروس على حد سواء ، وحتى أنهم في المنظور التاريخي أكثر خطورة من الروس ، وأضاف أنه بعد عشرين سنة فإن الرئيس الأمريكي القادم إذا كان حكيماً مثلكم سيعتمد على الروس في سياسته ضد الصين « .

وقتها اقترح كيسنجر على نيكسون استخدام « لعبة توازن القوى « ، واستغلال التناقضات القائمة بين موسكو وبكين ، فقد كانت واشنطن في حاجة لإظهار تقرب ولو زائف من بكين بغرض التأثير على النهج السوفيتي ومعاقبتهم إن امكن دون إشعال فتيل حرب عالمية .

القارئ للتاريخ الأمريكي لا يصدمه تقارب ترامب المرسوم والمحسوب بعناية من بوتين، فهي سياسة أمريكية واضحة منذ خمسينات القرن المنصرم ، بمعنى محاولة التفريق بين روسيا والصين ، ذلك أن أسوأ هاجس يمكن أن يواجه ويجابه جماعة الاستراتيجية الأمريكية هو مقارعة روسيا والصين معا سلماً أو حرباً على حد سواء .

تاريخياً رأينا الرئيس الأمريكي « دوايت ايزنهاور « يعزف على أوتار المتناقضات بين نيكيتا خروتشوف الزعيم الروسي المعروف ومن جهة أخرى في الصين « ماو تسي تونج « القائد التاريخي لنهضة الصين المعاصرة .

والأكثر إثارة أنه وبنهاية سبعينات القرن العشرين كان الرئيس الديمقراطي «جيمي كارتر» يمارس المخطط الامريكي القائم في « اللوح المحفوظ « عينه ، فقد دعم الصين في فيتنام في محاولة منه لوقف انتشار النفوذ السوفيتي في جنوب شرق آسيا ، حيث كانت موسكو قد غزت أفغانستان ، وبدا الهول الأعظم لواشنطن وعواصم الغرب متمثلا في الوصول إلى منابع النفط من قبل الروس في الخليج ، أو المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط ... هل يكرر التاريخ ذاته ما بين كيسنجر وترامب ؟

تحمل تقارير وكالة بلومبيرج يوماً تلو الآخر أحاديث مثيرة عن التقارب بين كيسنجر وترامب ، فمنذ نهاية الانتخابات الرئاسية امضى العديد من الساعات ناصحاً لأحد أهم رجالات ترامب ، الجنرال «مايكل فلاين «، والذي شغل سابقاً مدير المخابرات العسكرية في زمن أوباما قبل استقالته رفضاً منه لسياسات رئيسه تجاه الإرهاب ، عطفا على أن كيسنجر رشح مساعده السابق « ماكفارلاند « ليشغل منصب « نائب فلين « وشجع ترامب لترشيح « ريكس تيليرسون « الرئييس التنفيذي لشركة أكسون موبيل ، والذي كرمته روسيا من قبل ، لمنصب وزير الخارجية .

أتجه ترامب إلى كيسنجر، لأنه يراه أفضل سياسي محنك في أمريكا هذه الأيام رغم تجاوزه التسعين بأربعة أعوام ، إذ أدرك أنه من الممكن استخدام نصائح كيسنجر لتنسيق أولوياته الاستراتيجية .

لم يغب كيسنجر أو يتواري عن الأنظار طوال أكثر من نصف قرن من الزمان وفي سنوات إدارة باراك أوباما الأخيرة نصحه بإعادة تقسيم سياسته خاصة في الشرق الأوسط ، موبخاً إياه « كل مساحة تراجع استراتيجي لك ولأمريكا يقوم غريمك فلاديمير بوتين بملئها فالطبيعة والسياسة يكرهان فراغ القوة على نحو خاص «

تشير الأنباء الواردة من واشنطن بأن كيسنجر قد مضى مؤخراً في طريق بكين ، محاولاً جس نبض الصينيين لحساب دونالد ترامب ، وتبادل الرسائل بين الطرفين الأمريكي والصيني ، غير أن التصعيد الأخر يظهر اكتشاف ترامب عبر كيسنجر أن هناك « صينا « أخرى غير « صين « زمن ريتشارد نيكسون ، « صين « ترتفع في أعلى عليين حول العالم ، تهدد أمريكا لا بتوازن الردع النووي ، بل بالتفوق والردع النقدي ، حيث لها نحو ثلاثة تريليونات دولار سندات خزانة تستثمرها الصين في الاحتياطي الفيدرالي الامريكي ، « صين « لها حضور عالمي عبر استثمارات مالية في كافة بقاع وأصقاع العالم ، غير مرتبطة بالشروط الأمريكية التقليدية كالحريات ، وحقوق الإنسان ، وأحاديث الأقليات ومكانة المرأة ، ما لا يشغل الدول النامية الساعية للنقد الصيني الحاضر دوماً في مقابل المواد الأولية ، « صين « لها قيادة وريادة ضمن تجمع البريكس الناهض ، حتى وإن كان يمثل علامة اقتصادية أكثر من توجهه نحو إرادة سياسية .

هل لهذا السبب مضى كيسنجر مشجعاً ترامب لتعميق «الحلف الأمريكي الروسي « بهدف حصار الصين والاستعداد للأسوأ الذي لم يأت بعد ؟

تقول صحيفة « دير بيلد « الألمانية والتي أجرت مؤخراً حديثاً مطولاً مع دونالد ترامب أن كيسنجر نصح ترامب بتقبل الولايات المتحدة عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا ، وفي المقابل تسوية الوضع في شرق أوكرانيا .

ترحب روسيا ولا شك بالتقارب الأمريكي ، ويحاجج بوتين بأن موسكو وواشنطن يمكنهما إعادة الكثير من الاستقرار للنظام الدولي إن عملا عن قرب معاً وبتنسيق وترتيب إيجابي .

غير أن ذلك نصف الحقيقة فقط ، في حين أن نصفها الثاني يتوارى وراء إتاحة الفرصة لروسيا لرفع العقوبات المفروضة عليها ، ولاستعادة العلاقات مع الغرب بشكل تدريجي ، وكذا لدرء أخطار مستقبلية قد تبدر من الصين حال مضت بها أوهام الإمبراطورية التي تشاغلها وإن في صمت مؤخراً .

ذات مرة أدرج باراك أوباما روسيا ، وداعش والايبولا ، كأعداء رئيسيين لأمريكا ... هذا حكماً لن نراه في عهد ترامب ، وكواليس كيسنجر الخلفية ... لهذا يؤكد «فلاديمير سوتنيكوف» رئيس مركز الشرق والغرب الروسي للدراسات والتحليل الاستراتيجي إن «ترامب يميل للبراجماتية أكثر من الايديولوجيا ، انه يدرك أن روسيا لا تشكل خطراً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة ، وهذه المصالح الحيوية لا تكمن في الاتحاد السوفيتي السابق واكرانيا ولكن في مناطق مختلفة تماماً ، ما يعني فتح الطريق أمام الحوار مع موسكو والمساومات الجيوسياسية المحتملة والتي لم تكن الإدارة الديمقراطية السابقة في البيت الأبيض لتوافق عليها .

الى أين ستمضي العلاقات الأمريكية الصينية في ضوء خطط كيسنجر لترامب ؟ إن غدا لناظره قريب.