مرايا

جميلة بو حريد.. المرأة التي صفق لها العالم طويلا

22 مارس 2017
22 مارس 2017

هي المرأة التي صفق لها العالم طويلاً محبة واعتزازاً وتقديراً، والشخصية التي اختارها التاريخ لتكون بين أبرز خمس شخصيات سياسية طبعت القرن العشرين، هي ليست مجرد اسم رنان في التاريخ العربي الجزائري، إنها رمز مضيء من رموز الكرامة العربية والحرية الإنسانية، ولقد علمتنا جميعا معنى النضال والعيش بحرية. كثيرون يعتبرون أن جميلة بو حريد هي أبرز المناضلات من أجل الحرية في القرن العشرين ،والحقيقة أنها بالفعل كذلك.

وقصة جميلة لا تبدأ مع اندلاع الثورة عام 1954، بل تعود في الواقع إلى عام 1830، عندما غزت فرنسا الجزائر واحتلتها بعد أن تعرض قنصلها للإهانة على يد الحاكم الجزائري الذي كان يحمل لقب الداي، وقد حارب الجزائريون قوات الاحتلال بضراوة، لكن عدوهم كان يتفوق عليهم عدة وعدداً. وعلى مدى العقود الخمسة اللاحقة، كانت معظم أراضي الجزائر الخصبة قد صودرت ومنحت لمستوطنين فرنسيين وصل عددهم إلى ربع مليون، في الوقت الذي كان فيه عدد الشعب الجزائري يتناقص باطراد.

وقبل سنوات من اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، قامت فرنسا رسمياً بضم الجزائر إليها لتصبح مقاطعة فرنسية في أفريقيا، وعلى الرغم من رفض الشعب الجزائري للإجراء الفرنسي، إلا أن قوات الاحتلال قامت بتجنيد شباب الجزائر للقتال دفاعاً عن فرنسا خلال الحرب، إلا أن الفترة التي أعقبت الحرب كانت أكثر دموية للجزائريين من الحرب نفسها.

ففي الثامن من مايو 1945، وهو اليوم الذي اختاره الحلفاء للاحتفال بانتصارهم على النازية، تجمع آلاف الجزائريين قرب أحد مساجد البلدة للقيام بمسيرة سلمية سبق لمنظميها أن حصلوا على موافقة السلطات عليها، لكن القوات الفرنسية لم تمهل الجماهير كثيراً، حيث فتحت عليهم نيران رشاشاتها. وخلال دقائق كانت الجثث تملأ شوارع الحي، وتحدث الشهود عن مناظر مرعبة، فقد كان مرتزقة الفرقة الأجنبية الشهيرة بقسوتها في الجيش الفرنسي يمسكون الأطفال من أرجلهم ويضربون برؤوسهم الجدران والصخور، ويبقرون بطون الحوامل ويلقون بالقنابل اليدوية في مداخن المنازل لقتل قاطنيها، كما تعرض من حاولوا دفن القتلى إلى مجازر مماثلة بنيران الرشاشات وسط المقابر.

وكانت لمذبحة سطيف وغيرها من الأحداث المماثلة أبلغ الأثر في تلقين الجزائريين درساً بالغ الأهمية: أن الفرنسيين لن يمنحوهم حريتهم أبداً إذا لم يقاتلوا من أجلها. وفي ذلك المناخ العام ولدت جميلة بو حريد وترعرعت في عائلة متوسطة الحال، وقد تلقت تعليمها في مدرسة فرنسية، لكنها سرعان ما انضمت لحركة المقاومة السرية عن طريق شقيقها، وعملت خلال أعوام انطلاقة الثورة كمسؤولة ارتباط مع القائد سعدي ياصف، كما أن تقارير غير مؤكدة تتحدث عن أنها تولت لبعض الوقت مسؤولية العمليات المسلحة في العاصمة، الجزائر.

وقد قدم الشعب الجزائري ضحايا بالآلاف يومياً، وبلغ عدد شهدائه أكثر من مليون، كما أن ما يزيد عن مليونين ونصف فقدوا منازلهم. وامتلأت شوارع المدن بأكثر من 300.000 طفل يتيم، فيما اضطر 300.000 جزائري للفرار إلى المغرب وتونس حيث شكلوا هناك قواعد إضافية ترفد الثورة. وكانت جميلة بو حريد واحدة من الآلاف المؤلفة من المناضلين الذين كتب لهم سوء الحظ أن يسقطوا في قبضة العدو، فقد ألقي القبض عليها أثناء غارة شنتها القوات الفرنسية الخاصة، واتهمت بزرع الكثير من المتفجرات والعبوات الناسفة في العاصمة، مما أودى بحياة الكثير من الفرنسيين.

ومن داخل المستشفى بدأ الفرنسيون بتعذيب المناضلة، وتعرضت للصعق الكهربائي لمدة ثلاثة أيام كي تعترف على زملائها، لكنها تحملت هذا التعذيب، وكانت تغيب عن الوعي وحين تفوق تقول الجزائر أمناً. وحين فشل المعذِّبون في انتزاع أي اعتراف منها، تقررت محاكمتها صورياً وصدر بحقها حكم بالإعدام عام 1957م، وتحدد يوم 7 مارس 1958م لتنفيذ الحكم، لكن العالم كله ثأر واجتمعت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بعد أن تلقت الملايين من برقيات الاستنكار من كل أنحاء العالم.

تأجل تنفيذ الحكم، ثم عُدّل إلى السجن مدى الحياة، وبعد تحرير الجزائر، خرجت جميلة بوحريد من السجن، وتزوجت محاميها الفرنسي بعد أن أشهر إسلامه في ذاك الوقت.

وعلى الصعيد السياسي، وبعد خسائر بشرية باهظة للجانبين، تم في مايو 1962 توقيع اتفاقيات إيفيان وإعلان استقلال الجزائر. وكانت فرنسا قد بدأت قبل أشهر، ومع تقدم سير المفاوضات، بإطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجياً.

بعد الاستقلال، تولت جميلة رئاسة اتحاد المرأة الجزائري، لكنها اضطرت للنضال في سبيل كل قرار وإجراء تتخذه بسبب خلافها مع الرئيس آنذاك، أحمد بن بلة.

ومنذ أعوام قليلة، قررت أنها لم تعد قادرة على احتمال المزيد، فاستقالت وأخلت الساحة السياسية، وهي ما تزال تعيش في العاصمة الفرنسية حتى الآن، متوارية عن الأنظار، لكن المرات القليلة التي ظهرت فيها أمام الناس أثبتت أن العالم ما زال يعتبرها رمزاً للتحرر الوطني.

هذه قصة مناضلة عربية مسلمة نتشرف جميعا بمعرفتها والاقتداء بها وذلك لأنها نموذج معاصر على نبذ القمع ورفض الاستعمار بكافة صوره.