الملف السياسي

هزيمة داعش وعلاج العرض وليس المرض!

20 مارس 2017
20 مارس 2017

أ.د. حسني نصر -

إن هزيمة داعش في الموصل وبعض المدن السورية لا تعني نهاية التنظيم أو القضاء عليه في المنطقة العربية كلها بعد أن تمدد وصار له وجود ملموس ومؤثر في أكثر من دولة شرق أوسطية، فهل سيقود العالم حربا أو حروبا أخرى عديدة قد تستغرق أعواما للقضاء عليه في هذه الدول؟  

إذا كانت قراءة واقع الأحداث في المنطقة تبدو صعبة فما بالنا بقراءة المستقبل؟ هذا هو السؤال الصعب الذي يواجه من يتصدى للحديث عن مستقبل المنطقة في حالة القضاء على «داعش»، بعد الضربات المتوالية والمؤلمة والمستمرة التي يتعرض لها في العراق وسوريا وليبيا ودول عربية أخرى، وبعد إن أضفى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في الولايات المتحدة مزيدا من القوة على التحالف الدولي الذي يحارب التنظيم بضراوة غير مسبوقة في أكثر من جبهة.

يستبق كثير من المحللين ورجال السياسة النصر المتوقع على داعش بعد سلسلة الهزائم الموجعة التي منى بها في الموصل وبعض المدن في سوريا، رغم أنها لم تتحول بعد إلى انتصارات نهائية حاسمة، ويبادرون إلى طرح أسئلة تبدو متفائلة أكثر من اللازم، إذ لم يعد السؤال الرئيس هو هل يمكن القضاء على داعش في العراق وسوريا، بعد أن ثبت بالدليل العملي أن الأمر بدا ممكنا عندما توحدت الجهود العالمية لفعل ذلك، وتحول السؤال ليكون هل يؤدي القضاء المتوقع على داعش إلى انحسار الإرهاب العالمي؟ ومع أن الإجابة عن هذا السؤال تبدو صعبة للغاية في هذا التوقيت، الذي تتسم فيه الأوضاع في المنطقة العربية التي تمثل المجال الحيوي الأساسي للتنظيم، بالسيولة، إلا أننا ومن خلال استحضار التاريخ وقراءة الواقع يمكن أن نستخلص مجموعة من المؤشرات التي تؤكد أن القضاء عسكريا على داعش سيكون مفيدا دون شك للعالم كله، ولكنه في الحقيقة لن يوقف المد الإرهابي في المنطقة والعالم ما لم يتم استخدام مقاربات أخرى سياسية واجتماعية وثقافية لعلاج أسباب الظاهرة الإرهابية واجتثاث الفكر الذي يغذيها وإيقاف ظهور جماعات إرهابية ربما تكون أكثر وحشية من سابقتها. ولعل هذا ما عبر عنه صراحة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنرى كيسنجر عندما قال في حوار نشرته مجلة اتلانتك في عدد ديسمبر الماضي إن هزيمة داعش في الموصل في العراق ومعقلها القوي بالرقة في سوريا لن يعالج السبب الرئيس في ظهور الجماعات المسلحة، وهو الغضب المتصاعد بين ملايين المسلمين السنة، بل إنه قد يمثل حافزا لظهور جماعات جديدة.

أول هذه المؤشرات أن هزيمة داعش في الموصل وبعض المدن السورية لا تعني نهاية التنظيم أو القضاء عليه في المنطقة العربية كلها بعد أن تمدد وصار له وجود ملموس ومؤثر في أكثر من دولة شرق أوسطية، فهل سيقود العالم حربا أو حروبا أخرى عديدة قد تستغرق أعواما للقضاء عليه في هذه الدول؟ وكيف يمكن على سبيل المثال تشكيل تحالف دولي مماثل للتحالف الذي يعمل ضد داعش في العراق وسوريا لمحاربة التنظيم في دول أخرى لها سيادة على كامل أراضيها ؟ والأهم ما الكلفة البشرية والمادية التي تتطلبها هذه الحروب؟ من المؤكد أن هزيمة داعش وربما القضاء عليه تماما لن يحل المشكلة، إذ يبقى التحدي الحقيقي الذي يواجه العالم، وهو خفض حدة الغضب الذي يشعر به المسلمون السنة خاصة في العراق وسوريا، وإشراكهم في العملية السياسية بشكل عادل يوازي وجودهم الحقيقي على الأرض، وهو ما يمثل ضمانة قد تدفع المتعصبين منهم إلى عدم الانسياق مستقبلا للانخراط في الجماعات الإرهابية، التي تتخذ من المقاومة المسلحة والعمليات الانتحارية وسيلة وحيدة لحل المشكلات السياسية.

إن على العالم الذي يحارب داعش أن يعلم أن ظهور هذا التنظيم الدموي يعود في الأساس إلى التهميش الذي تعرض له المسلمون السنة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وهو ما يصدق على ما تعرض له أقرانهم في سوريا لسنوات طويلة. ومن هنا فإن التنظيمات الإرهابية لن تتوقف عن الظهور ما لم يتم الدفع باتجاه حلول سياسية دائمة تؤدي إلى تقاسم حقيقي للسلطة بين الشيعة والسنة في العراق وكذلك في سوريا، وهو ما يساعد في إسقاط مزاعم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية في الدفاع عن السنة. ويرتبط بذلك ضرورة الوصول إلى تهدئة أو تسوية سياسية بين إيران وبين السعودية لوقف دعم الميليشيات المتصارعة.

المؤشر الثاني أنه إذا خرجنا من الشرق الأوسط فإن هزيمة داعش والقضاء على مقاتليها في الشرق الأوسط لن يوقف محاولات اتباعها في الولايات المتحدة ودول أوروبا القيام بأعمال إرهابية في هذه الدول. بل أنه من المتوقع أن تؤدي هزيمة التنظيم في معاقل نفوذه في الشرق إلى تزايد الأعمال الإرهابية الانتقامية في الغرب، خاصة مع توقع عودة الآلاف من مقاتليه الأجانب من الأمريكيين والأوروبيين والآسيويين الذين لم يتم قتلهم أو أسرهم إلى بلدانهم. وفي هذا الإطار يستحضر بعض المراقبين مثل بيل نيللي المحلل السياسي لقناة ان بي سي الأمريكية، وبيتر بيرجن محلل الأمن القومي بشبكة سي ان ان، المثل الشائع الذي يقول «إذا هاجمت عشا للنحل، فإن عليك أن تستعد لهجوم ضار من الدبابير التي لم تتمكن من قتلها»، وذلك للإشارة إلى ما يمكن أن يترتب على دحر داعش في دول الشرق الأوسط من انتقام إرهابي شرس قد يعم دولا كثيرة في العالم. المؤشر الثالث أن اختفاء داعش من الساحة لن يعني بالتأكيد نهاية التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط، الذي تغذيه عوامل كثيرة سياسية واجتماعية واقتصادية. في هذا الإطار يجب أن ينظر العالم إلى الإرهاب والجماعات الإرهابية التي تتكاثر ويخلف بعضها بعضا في دول المنطقة، باعتبارها أعراضا حتمية لأمراض اجتماعية وسياسية واقتصادية كثيرة تعاني منها الشعوب، وبالتالي لا يمكن أن تختفي هذه الأعراض ما لم يتم علاج أصل هذه الأمراض. وفي تقديري أن غياب الحريات، وتلاشي آمال التداول السلمي الديمقراطي للسلطة، وتزايد قمع المعارضين، وانسداد الأفق السياسي، واستمرار الدعم الأمريكي والغربي عموما للأنظمة في بعض الدول العربية، بالإضافة إلى غياب العدالة الاجتماعية، وانتشار البطالة، تمثل جميعها مفارخ للإرهاب والجماعات الإرهابية الكبيرة منها والصغيرة، وبالتالي فان اختفاء داعش من الوجود قد لا يعني شيئا كبيرا على صعيد وقف المد الإرهابي، في حال استمرت الأسباب التي أدت إلى ظهوره وغيره من التنظيمات الإرهابية. وعلى هذا الأساس فإن النصر الذي قد يتحقق قريبا وطرد داعش من العراق لن يعالج جوهر المرض الذي يعاني منه الشرق الأوسط، لأن داعش في الواقع ليست المشكلة الأصلية ولكنها عرض لمشكلات أخرى أكثر تعقيدا. إن القضاء على الإرهاب في مرحلة ما بعد داعش- اذا وصلنا اليها- يحتاج إلي مقاربة سياسية واجتماعية واقتصادية تعلي من القيم الإنسانية المشتركة، وتؤكد الحقوق العامة الأساسية لكل البشر الذين يعيشون في هذه المنطقة. ومن المؤكد أن جزءا يسيرا من الأموال الطائلة التي أنفقها العالم على محاربة التنظيمات الإرهابية كان يمكن أن يستغل في إحداث تنمية شاملة ومستدامة في الدول التي خرجت منها الجماعات الإرهابية تجنب شبابها الانضمام اليها. تحتاج المنطقة في تقديري في فترة ما بعد داعش إلى خطة مارشال جديدة يتبناها العالم كله لإحداث إعمار شامل لا يقتصر على الحجر فقط ولكن يركز على البشر الذين يحتاجون إلى إعادة بناء بعد أن عانوا طويلا من التهميش والظلم والفقر، دفع البعض منهم إلى اختيار طريق العنف والإرهاب.