الملف السياسي

صفحة مظلمة .. ستنتهي حتما ومعها كسب الغنائم ! 1

20 مارس 2017
20 مارس 2017

د.عبد الحميد الموافي -

إذا كانت نهاية تنظيم «داعش» الإرهابي بدأت تلوح في الأفق فإن مرحلة ما بعد داعش ستشهد بالضرورة حالة من عدم الاستقرار أو على الأقل محاولات خلايا التنظيم وعناصره العائدة إلى بلادها، أو الهاربة إلى دول ومناطق أخرى القيام بعمليات تفجير أو عمليات انتحارية؛ لإظهار أن التنظيم لم ينته تماما، وأنه قادر على الضرب في مناطق مختلفة، 

بالرغم من أن العالم الإسلامي شهد حروبا ومواجهات مسلحة بين المسلمين في فترات ومراحل مختلفة ومتعددة، إلا أنه ليس من المبالغة في شيء القول إن ظهور تنظيم ما يسمى داعش في العراق وسوريا (داعش) في منتصف عام 2014، وما صاحب ذلك من ممارسات قامت على توظيف الصدمة والعنف في أسوأ صوره، واستثمرت التقنية الحديثة لنشر مشاهده الحية عبر مواقع الإنترنت، قد نجح جزئيا في رسم صورة متوحشة للتنظيم، الذي ادعى، ولا يزال، انه يسعى إلى تطبيق نموذج إسلامي يحاول من خلاله استعادة الدولة والخلافة الإسلامية في صورتها التي يرونها، والتي تتناقض تماما، بل وتنحرف بعيدا عن مبادئ وقيم الدين الإسلامي الحنيف التي تقوم على الاعتدال والتسامح والوسطية والقبول بالآخر والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس التكفير والقتل، والسبي وحرق الأحياء، وتفجير أعناقهم أو تصوير مشاهد إغراقهم ببطء في المياه !! غير أن إدارة التوحش هذه، وإن كانت قد جذبت شبابا يبحث عن مغامرات ذاتية، ويتوق إلى الانتماء إلى كيان ينتشله من هوة الفراغ، أو يصور له أنه يقوم برسالة إنسانيه ما، فإن هناك من الشباب من وقع لأسباب مختلفة في شباك دعاية هذا التنظيم المتوحش، وعندما اكتشف بعضهم ذلك، وحاولوا الانسحاب، كان القتل بدم بارد هو مصيرهم باعتبارهم خونة أو خارجين على التنظيم، لأنهم يريدون العودة إلى حياتهم الطبيعية .

ولعل هذه النقطة تحديدا تجعل من المهم والضروري أن تكون هناك مواجهة فكرية وعقيدية وثقافية وإعلامية واسعة النطاق لهذا التنظيم المتوحش الذي أساء إلى الإسلام كدين وكفكر، وإلى المسلمين كدول وشعوب وأفراد، كما لم يحدث من قبل، وهو ما يعبر عن نفسه بكثير من الصور والمواقف والقرارات التي تتخذها دول كثيرة، ضد المسلمين، فقط لكونهم مسلمين، وعلى أساس الصورة المشوهة والمخيفة، التي عمل هذا التنظيم المتوحش على ترسيخها وحاول لصقها باسم «الدولة الإسلامية».

وليس من المبالغة القول إن تمسك وسائل وجهات إعلامية غربية باسم «الدولة الإسلامية» لوصف «داعش» ليس تمسكا بالموضوعية والمهنية من جانب تلك الوسائل الماكرة بالطبع، ولكنه تمسك وإصرار على ترسيخ صورة مشوهة ومتوحشة للدولة الإسلامية، وللإسلام بوجه عام، وذلك رغم أن الأزهر الشريف ومؤسسات إسلامية أخرى دعت من قبل إلى عدم استخدام مصطلح «الدولة الإسلامية» في وصف «داعش»، أو الحديث عنه. على أية حال فإن هذا التنظيم المتوحش يواجه الآن مرحلة انحسار شديد، ستؤدي على الأرجح إلى القضاء على وجوده الذي كان عليه على مدى السنوات الثلاث الأخيرة في العراق وسوريا. غير أن استئصال التنظيم بشكل تام هو بالتأكيد أمر على جانب غير قليل من الصعوبة، لأسباب كثيرة، فضلا عن أنه يستغرق بالضرورة وقتا غير قصير، ويتطلب درجة عالية من التعاون والتنسيق بين عدة دول وجهات معنية، أمنيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا كذلك، وهو ما قد لا يتوفر بشكل كاف أو مؤثر، بغض النظر عن الجلبة الكبيرة والأحاديث المتنوعة حول مكافحة الإرهاب والتعاون في هذا المجال، وذلك لأن هناك جهات مختلفة ضالعة في دعم «داعش» وتنظيمات إرهابية أخرى، بشكل مباشر وغير مباشر، ولا تتردد في أن تعلن استعدادها، بل حرصها، على الإسهام في مكافحة الإرهاب وداعش أيضا !!

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد، إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: إنه من المؤكد أن الجهود التي يقوم بها الجيش العراقي لتحرير الموصل ومحافظة نينوى ككل من وجود هذا التنظيم المتوحش هي جهود طيبة ومؤثرة إلى حد كبير، ليس فقط لأنها أثبتت أن هذا التنظيم المتوحش يمكن هزيمته والقضاء عليه، وذلك باستخدام الوسائل العسكرية الفعالة، لتحطيم قدراته والقضاء على أكبر عدد من قياداته وعناصره ومصادر إمداداته اللوجستية، ولكن أيضا لأن معركة الجيش العراقي في الموصل، كشفت تماما هامشية ومحدودية وعدم فاعلية الجهود التي قام بها التحالف الدولي ضد داعش الذي يضم عشرات الدول. صحيح أن هناك مساعدات مخابراتية وعسكرية بالخبراء من جانب الولايات المتحدة للقوات العراقية، ولكن الصحيح أن الجهد العسكري الرئيسي والمباشر تتحمله بشجاعة وتضحية القوات المسلحة العراقية، وهو ما يضع نهاية للصورة التي جرت عند استيلاء التنظيم على مدينة الموصل عام 2014، وهي التي توجد بشأنها آراء ووجهات نظر، بل واتهامات مختلفة، وهو ما يمسحه الجيش العراقي الآن بشكل يدعو إلى الاعتزاز ويستحق التشجيع، خاصة أن هزيمة داعش والتخلص من هذا التنظيم المتوحش، ليست مسؤولية عراقية ولا سورية فقط، ولكنها مسؤولية إقليمية ودولية، وتقع بالدرجة الأولى على عاتق تلك الأطراف، الإقليمية والدولية، التي شجعت هؤلاء الإرهابيين، وسهلت عبورهم إلى العراق وسوريا، وأمدتهم بكميات من الأسلحة والذخائر والاحتياجات اللوجستية تكفي لتسليح جيش كبير. وفي سوريا الشقيقة تقوم قوات الجيش العربي السوري، وقوات «سوريا الديمقراطية» الكردية، وقليل من فصائل المعارضة السورية بدور متزايد لحصار التنظيم، وتقليص المساحات التي يسيطر عليها من الأراضي، وتركيز عناصره في إدلب ودير الزور ربما تمهيدا لتصفيتها في وقت لاحق .

ومع أن هناك استعدادات لتحرير مدينة الرقة السورية، وهي استعدادات يشوبها الجدل بين تركيا والولايات المتحدة وأطراف أخرى، لرغبة كل طرف في نيل شرف الإسهام في استعادة مدينة الرقة، وطرد قيادة داعش منها، هذا إذا كانت لا تزال موجودة هناك وهو أمر بات مشكوكا فيه، خاصة بعد أن تردد أن أبو بكر البغدادي قائد التنظيم قد غادر الرقة إلى الصحراء في المنطقة الواقعة بين العراق وسوريا. غير أن النقطة الجوهرية هي أن تحرير الموصل وتحرير الرقة لا يعني القضاء على داعش، خاصة إذا تم السماح لعناصر هذا التنظيم بالهرب إلى خارج المدينتين. فالقضاء على تنظيم داعش لا يعني تطهير الموصل والرقة من عناصره بطرده منها، ولكنه يعني، أو ينبغي أن يعني، تصفية أكبر قدر من عناصر هذا التنظيم الوحشي، وتضييق الخناق على تلك العناصر، حتى لا تهرب إلى مناطق أو إلى دول أخرى، في المنطقة وخارجها. صحيح أن ذلك بدأ بالفعل، عبر عمليات انتقال لمجموعات من داعش إلى ليبيا مؤخرا، والى بعض مناطق الصحراء الكبرى، وهي تشكل مسرحا مثاليا لداعش ومختلف التنظيمات الإرهابية الأخرى وقد سبقتها القاعدة إلى التواجد هناك بشكل أو بآخر، دون التفريط في مواقعه في جبال تورابورا في أفغانستان ومنطقة الحدود الأفغانية الباكستانية. وهو ما سيركز عليه تنظيم داعش بعد مغادرته الموصل والرقة.

* ثانيا: إنه مع الوضع في الاعتبار أن أسبابا متعددة ومتنوعة، ساهمت وتساهم في خنق تنظيم داعش، وانحسار مساحات الأراضي التي تمدد فيها في منطقة الحدود بين العراق وسوريا، إلا أن الأعوام الثلاثة الأخيرة، منذ خطبة البغدادي الشهيرة في الموصل، قد أوجدت ممارسات، وخبرات، وأفكارا سياسية ودينية، وخطط وأدوات إعلامية ودعائية، بل ومناهج دراسية أو على الأقل أساليب تنشئة للأطفال في مناطق سيطرة داعش.

صحيح أن المدى الزمني يظل محدودا، ولكن الصحيح أن ذلك كله لن يختفي تماما في يوم وليلة؛ ولذا فإنه من الأهمية بمكان أن تكون هناك تصورات وخطط ثقافية ودينية وتربوية وإعلامية للتعامل مع المناطق المحررة، وإعادة تأهيلها مرة أخرى، مع العناية الفائقة بالأطفال الذين خضعوا لتدريبات داعش خلال العامين الماضيين، أو الذين شاركوا في القتال رغما عنهم، لإعادة تأهيلهم مرة أخرى، وإعدادهم ليكونوا أسوياء مرة أخرى، ومع الوضع في الاعتبار أن تحرير الموصل والرقة ودير الزور من بقايا تنظيم داعش الإرهابي، تثير مسألة المصير السياسي لتلك المدن، خاصة أن هناك أطرافا تريد التعامل معها كغنائم حرب، سيمكنها الاستيلاء عليها، أو مد نفوذه إليها، بشكل أو بآخر، واستثمار الوضع الراهن لسوريا الشقيقة لصالحها، ومن هنا فإن إعادة تلك المدن إلى ما كانت عليه قبل استيلاء داعش عليها، وبدون عمليات تغيير ديموغرافي مخططة، لصالح طرف أو آخر، تعد أمرا بالغ الأهمية للإسهام في استعادة الاستقرار والأمن إلى تلك المناطق، وإنقاذها من أية صراعات سياسية، أو محاولات مد النفوذ السياسي إليها، من جانب أطراف إقليمية تبحث عن مصالحها، ولو على جثث السوريين، وتفتيت الوطن السوري أو العراقي بشكل أو آخر، ومن حسن الحظ أن هناك وعيا وإدراكا وطنيا سوريا وعراقيا لأهمية وضرورة الحفاظ على وحدة الأرض والشعب وحماية التماسك الوطني، السوري والعراق، وهو أمر بالغ الأهمية للأمن السوري والعراقي والأمن القومي العربي ككل في النهاية، مع التقدير لكل من ساعد بإخلاص في وضع حد لتنظيم داعش الإرهابي، خاصة أن الحفاظ على وحدة وتماسك كل من سوريا والعراق، هو حفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي الذي يفيد كل دول وشعوب المنطقة، وأما التفكير بمنطق الحصول على الغنائم، فإنه يضر بكل الأطراف، ويفتح المجال أمام مرحلة من عدم الاستقرار، يمكن لتنظيم داعش المهزوم، أن يحاول الاستفادة منها للعودة مرة أخرى، بشكل أو بآخر.

* ثالثا : إنه إذا كانت نهاية تنظيم «داعش» الإرهابي بدأت تلوح في الأفق فإن مرحلة ما بعد داعش ستشهد بالضرورة، حالة من عدم الاستقرار، أو على الأقل محاولات خلايا التنظيم وعناصره العائدة إلى بلادها، أو الهاربة إلى دول ومناطق أخرى القيام بعمليات تفجير أو عمليات انتحارية، لإظهار أن التنظيم لم ينته تماما، وأنه قادر على الضرب في مناطق مختلفة، ومواجهة هذا الأمر تحتاج بالضرورة إلى تعاون كل الدول المعنية والمهتمة بمكافحة الإرهاب، لزيادة التعاون الاستخباري والأمني من ناحية، ولإدارة حملات إعلامية معدة جيدا لمواجهة منطلقات وأفكار التنظيم وفتاواه التكفيرية من ناحية أخرى، مع التركيز على الجوانب المشرقة والقيم السمحة للإسلام للحد من أو إزالة التشوه الذي لحق بصورة الإسلام والمسلمين بسبب القاعدة وداعش وبوكوحرام وغيرها .

وإذا كان العالم لم يعد يتذكر الآن تنظيمات مثل بادر ماينهوف الألماني، والجيش الجمهوري الأيرلندي، والجيش الأحمر الياباني، والألوية الحمراء الإيطالية، وغيرها من التنظيمات الإرهابية فإنه سيأتي الوقت الذي تختفي فيه «القاعدة» و«داعش»، ولو بعد بعض الوقت، وهو ما يعود إلى إصرار كل منهما على استثمار الدين ومحاولة الترويج لتفسيرات التطرف والتكفير بكل السبل الممكنة. وتعاون الدول العربية والإسلامية يعد حجر الزاوية للتصدي لهذه التنظيمات، وما قد يظهر من بقاياها خلال الفترة القادمة.