الملف السياسي

ليس الأول .. فهل يكون الأخير ؟

20 مارس 2017
20 مارس 2017

محمد حسن داوود -

,, هذا هو الشغل الشاغل لكثير من السياسيين والمفكرين والمحللين ومراكز البحوث والدراسات السياسية والاستراتيجية، ماذا بعد هزيمة «داعش» وما التأثيرات والتداعيات المنتظرة لذلك سياسيا وأمنيا وديموغرافيا ؟ وأهمية الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن في أنها تساعد في معرفة إجابة السؤال الأكبر؛ هل سيتخلص العالم من الإرهاب بعد هزيمة «داعش»؟ ,,  

سواء كان تنظيما أو منظمة أو جماعة أو «دولة» يحتمل التذكير والتأنيث عند الحديث عنه، إلا أنه في كل الأحوال يمثل مجموعة مارقة من البشر مارسوا الإرهاب بأبشع صوره تحت مظلة من الأفكار الدينية المزعومة، والدين منهم براء، وسواء كان ظهوره نتيجة للظروف أو أنه نجح في استغلال تلك الظروف المتردية بعديد من دول الشرق الأوسط ، ليتمدد ويوسع من نفوذه وممارساته الإجرامية، أو أن أطرافا خارجية استغلته ووظفته لخدمة أهدافها ومخططاتها بالمنطقة على طريقة «لو لم يكن داعش موجودا لاخترعناه» إلا أن المؤكد أن هذا التنظيم الإرهابي أشاع الرعب والدمار والإفساد في دولنا العربية وعاد بها عشرات السنين ، وربما القرون إلى الوراء ، وبدون أدنى شك هزيمته والخلاص منه تطور مهم يبعث على الارتياح ، ولكنه كذلك يثير مخاوف عديدة مما هو آت نتيجة عوامل وظروف موضوعية قد تؤدي لمزيد من المشاكل الناجمة عن حالة الفراغ التي ستحدث نتيجة هزيمة التنظيم، وكذلك لتقاسم ارثه وسعي أطراف إقليمية ودولية للفوز بأكبر قدر من الكعكة وتحقيق أعظم درجات المنفعة، وهذا في حد ذاته تطور قد يؤدي لنوع جديد من العنف والتطرف.

ولكن السؤال الأهم المرتبط بذلك هو هل سينعم العالم بحالة من السلام بعد الخلاص من داعش؟ الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال شديدة التعقيد ولكن في ضوء تجارب سابقة وظروف جارية يمكن القول أن ذلك لن يتحقق بسهولة، وربما لا يتحقق بشكل مطلق لأن السياسات الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، تمهد لبروز أشكال أخرى من الإرهاب نتيجة ممارسات مرتبطة بالصراعات والحروب الجارية، فقد رأينا خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية لاستيعاب اللاجئين والنازحين من مناطق القتال للحد من تدفقهم على الأراضي الأمريكية والغربية عموما، وكذلك برامج قادة أوروبيين لإرسال الشرق أوسطيين المشتبه بهم إلى بلادهم الأصلية، واستخدام المساعدات الاقتصادية والمنح المالية كسلاح مزدوج ضد دول المنطقة، ما لم تتعاون في مسألتي الأمن واللاجئين، ويعني ذلك أن مناطق الصراعات بالشرق الأوسط سوف تدفع ثمنا باهظا يضيف المزيد إلى مآسيهم هم ودولهم مع توقعات بنتائج مريرة لذلك!

ولا شك في أن المطالب الأمريكية والأوروبية تنطلق من مصالح ذاتية بحتة بغض النظر عن الأطراف التي يجب أن تتحمل الثمن وكذلك بغض النظر عن المآسي البشرية التي قد تنجم عنها، وتتزايد وتيرة الخوف والقلق والضغوط من جانب أوروبا جراء المؤشرات المتزايدة على هزيمة « داعش» في بلاد الرافدين واحتمالات عودة جماعية للكوادر « الأوروبية الجنسية» المنخرطة في القتال بصفوف التنظيم الإرهابي ، وهي ظاهرة متكررة في كل حالة «جهادية» وكان أبرز عناوينها «العائدون من أفغانستان والعائدون من الشيشان والعائدون من البلقان» ونتيجة لذلك ازداد الاهتمام الرئيسي على المستويات السياسية والإعلامية عبر ضفتي البحر المتوسط لمتابعة قضية عودة «الجهاديين» المغاربيين على وجه الخصوص من جبهات القتال بسوريا والعراق، وليس خافيا أن الحديث في وسائل الإعلام الأوروبية عن قصة أنيس العامري التونسي المتهم بتنفيذ اعتداء برلين على سبيل المثال، غالبا ما يتم وضعه في سياق المخاوف من عودة هؤلاء «الإرهابيين» الذين تشكل تونس مصدرا مهما لهم ويصل عددهم إلى حوالي خمسة آلاف شخص.

وقد أثارت هذه المسألة والمطالب القائمة في أوروبا بإعادة إرسالهم إلى دولهم الأصلية جدلا غاضبا متصاعدا في تونس إلى حد إطلاق الانتقادات الحادة لسياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، انعكست في بعض صورها في رفع متظاهرين في شوارع تونس العاصمة لافتات كتب عليها «تونس ليست مكب قمامة لألمانيا»! وقد أثارت تلك الصيحات الدهشة والتعجب في صحف ومواقع التواصل الاجتماعي في ألمانيا وتساءل مغردون «كيف يصف تونسيون مواطنيهم بالقمامة ؟!» ولا تقف الممارسات الأوروبية عند هذا الحد، بل تدفع الحكومة الألمانية باتجاه مزيد من الضغوط على الحكومات المغاربية لإيجاد حلول عبر ترحيل آلاف المغاربيين الذين ترفض طلبات لجوئهم للدول الأوروبية، وذلك عبر منح هذه الدول صفة «دول آمنة» ومنحها المزيد من مساعدات التنمية إن هي تعاونت في ملف الترحيل، لكن المعارضة ومنها حزب الخضر الألماني يعترض على تصنيف «دول آمنة» بسبب استمرار ما يعتبره «انتهاكات حقوق الإنسان» في بعض الدول المغاربية، كما اقترح رئيس الحزب جيم أوزدمير بالمقابل تسهيل حصول المواطنين المغاربيين على تأشيرات السفر وفرص الهجرة الشرعية إلى ألمانيا عبر فرص الدراسة والتجارة، بغرض حث هذه الدول على استعادة مهاجريها غير القانونيين.

والحقيقة أن أطراف الأزمة تجد نفسها في مأزق كبير، ومن المتوقع أن يحتدم الجدل في أوروبا حول هذه المسألة لعلاقتها بقضايا الأمن واللاجئين، بينما يرى محللون أن الدول المغاربية لا تضع هذا الموضوع ضمن أولوياتها، ويعتقدون أن من أسباب الصمت أو التجاهل إزاء هذا الملف وجود مشاكل عديدة تثقل كاهل تلك الدول من ناحية .. ومن ناحية أخرى قد لا ترى حكوماتها مصلحة في فتح ملف اللاجئين، فمسألة ترحيل آلاف المهاجرين من أوروبا وعلى حد وصف أحد المراقبين تشبه شجرة تخفي غابة كثيفة من المشاكل التي يواجهها الشباب الذي تصل نسبته إلى سبعين في المائة من مجموع سكان البلدان المغاربية الثلاث، المغرب والجزائر وتونس والمقدر حاليا بأكثر من تسعين مليون نسمة.

ففي الجزائر ومع تراجع عائدات الطاقة يواجه الشباب مزيدا من التحديات وارتفاع معدلات البطالة، وحسب أحدث تصنيف للبنك الدولي فإن حوالي خمسين في المائة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن عشرين سنة ليس لديهم آفاق عمل، ففي ظل تراجع عائدات النفط بحوالي ثلاثين في المائة ما يفقد خزانة الدولة ما يناهز خمسة وثلاثين مليار يورو ، يتعرض مئات آلاف الشبان لمزيد من المتاعب ، حيث تعجز الحكومة عن الاستمرار في سياسة دعم السلم الاجتماعي عبر تمويل مشاريع صغيرة للشباب من خلال عائدات النفط.

وفي المغرب، البلد الأكثر استقرارا في المنطقة المغاربية والذي تجاوز احتجاجات الربيع العربي بإصلاحات دستورية واجتماعية لا تزال ثمار التنمية المدعومة من أوروبا ودول الخليج لا تؤتي أكلها بشكل ملموس ، بالنسبة لفئات واسعة من الشباب المهمشين في الأحياء الفقيرة والبلدات النائية ، وتصل معدلات بطالة الشباب في المدن وخصوصا بين خريجي الجامعات إلى حوالي تسعة وثلاثين في المائة، أما في تونس فبعد ست سنوات من الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تبدو الديمقراطية الناشئة في تونس وهي مثقلة بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية اذ يناهز معدل البطالة خمسة عشر في المائة ويوجد معظم الشباب العاطل والفقير في مناطق مهمشة في غرب تونس وجنوبها وهي المناطق التي خرجت منها الانتفاضة ضد الدكتاتورية السياسية.

وفي ظل الأوضاع الصعبة أمام الشباب في هذه الدول ، وذلك على سبيل المثال فقط ، فإن الخيارات أمامه محدودة وغالبا ما تنحصر بين الاحتجاجات في الشوارع أو البحث عن طرق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، وهجرة الشبان إلى أوروبا والتي كانت بالأمس القريب تشكل ملاذا لهم من البطالة والتهميش تحولت إلى هاجس وعبء بفعل تسلل آلاف ممن كانوا يعيشون على هامش مجتمعاتهم أو في بلدان أوروبية تعيش أزمات اقتصادية مثل إيطاليا أو اسبانيا وبعضهم كان من ذوي السوابق الخطرة.

وإجمالا فإن هذه المشكلة عميقة الجذور ومتعددة الأوجه مرشحة للتصاعد في المرحلة المقبلة، وباتت بالفعل في حاجة إلى معالجة سياسية على أعلى مستوى من خلال برامج مشتركة بين كل الأطراف المعنية، وقد يكون للبعد الأمني أهميته في تسوية المشاكل الناجمة عن تلك الأزمة إلا أن الأمر بالفعل يحتاج إلى جهود سياسية وبرامج اقتصادية وتنموية حقيقية وبمباحثات واتصالات مشتركة تكفل تنمية الدول المستهدفة والحد من ظاهرتي اللجوء والهجرة غير الشرعية ومواجهة مشاكل «العائدين من داعش» وتكفل أيضا للجانب الأوروبي الأمن المنشود، لأن البديل لذلك سيكون في منتهى الخطورة، ومثل هذه السياسات الأوروبية والإقليمية في التعامل مع مرحلة « ما بعد داعش» قد تسفر عن تيارات أشد خطورة من التطرف والتشدد، لتصبح إجابة السؤال أكثر يسرا، حقا أن تنظيم « داعش » الإرهابي ليس الأول من نوعه ولكنه في الغالب لن يكون الأخير.