959267
959267
شرفات

السماء الثامنة - المثلية الجنسية «في غرفة العنكبوت»

20 مارس 2017
20 مارس 2017

عاصم الشيدي -

تحكي رواية «في غرفة العنكبوت» للروائي والمترجم المصري محمد عبدالنبي الصادرة عن دار العين والمتأهلة للقائمة القصيرة في جائزة «البوكر» للرواية العربية، قصة «هاني محفوظ» الذي يكتب سيرته الشخصية داخل الرواية بعد أن فقد القدرة على النطق مؤقتا بعد أشهر قضاها في السجن.. لكن الرواية سرعان ما تتحول لتوثق عبر شخصية هاني محفوظ لقضية شهيرة في مصر هي قضية «الكوين بوت» أو مركب الملكة ناريمان حيث ألقي القبض هناك على عشرات «المثليّين» عام 2001 بتهمة ممارسة الفجور. ومن خلال شخصية هاني تدخل الرواية إلى عالم المثلّيين الذين استخدم الكاتب مصطلح «الحبايب» وصفا لهم خلال سرده الروائي، محاولة إلقاء الضوء على هذا العالم من عمقه ومن خلال سرد أصحابه أنفسهم، ومن خلال تصرفاتهم وعلاقاتهم بذواتهم وبأجسادهم وعلاقاتهم بالمجتمع من حولهم.

لكن الرواية التي كرست كل تفاصيلها «للمثليين» لم تقدم أبدا خطابا فيه أي مستوى من مستويات الدفاع عن فكرة «المثلية الجنسية» ولم يبدو أي من أبطال الرواية في حالة دفاع أو حتى في حالة فخر بميولهم وانتماءاتهم الجسدية. ولأسابيع بعد أن خرج هاني من السجن بعد سبعة أشهر قضاها هناك كان يدمن الاستحمام مرات كثيرة في اليوم من أجل تطهير نفسه من خطيئته. بل حاولت الرواية تكريس نفسها في تقديم نماذج مختلفة لهذه الشخصية ومستويات تفكيرها ومستويات استخدامها وحساسيتها من اللغة. وهذه الفكرة يمكن أن نصطادها أيضا من عنوان الرواية «في غرفة العنكبوت» وكأن الفكرة من أساسها كثيرة الوهن والضعف وليست محاطة إلا بمجرد خيوط عنكبوت واهنة.

«اسمي هاني محفوظ، وكنت طفلا وحيدا مدللا من الجميع، وكأن أمي الشمس وأبي القمر» هكذا تبدأ الرواية بتقديم خلفية تاريخية اجتماعية وعائلية للبيئة التي نشأ فيها بطل الرواية «المثلّي» هاني محفوظ الذي حاول الكاتب من خلاله التأسيس لشخصية المثلّي في الأدب العربي خاصة أنه لا توجد رواية في الأدب العربي، فيما أعلم، تكرس كامل موضوعها للحديث عن المثليين في المجتمعات العربية، وقدم هاني محفوظ خلفية تاريخية منذ جده الخواجة ميدا ليؤسس لأرضية واسعة يعلق عليها منذ اللحظة الأولى خطيئته.

لم يحاول محمد عبدالنبي عبر شخصياته الروائية «المثلّية» الدفاع عن الصور النمطية التي رسمها المجتمع المصري عن شخصية المثلي والعار الذي يسببه لأسرته ومحيطه وفق السائد في المجتمعات العربية، بل كان فكر تلك الشخصيات يكاد يندمج مع فكر المجتمع المصري الذي ينظر إلى المثلية في شقّي العلاقة السالب والموجب باعتبارها عارا كبيرا لا يمكن تقبله؛ فهاني وكريم مثلا يعترفان أنهما ليسا رجلين على اعتبار أنهما يمثلان الجانب السالب في العلاقة المثلّية، ولا يستطيع أي منهما/‏منهم الاعتراف بمثليته أو مواجهة محيطهما وتسير حياتهما على مستوى كبير من السرية ومن مظهرين مخفي وسري وآخر معلن أمام الناس فيه الكثير من الزيف. حتى أن هاني محفوظ الذي فقد النطق وبدأ كتابة قصته/‏سيرته لم يقدم أي دفاع عن مثليته أو حقه فيها كما هو الخطاب لدى الغرب ولكنه منذ العتبة الأولى للرواية نجده يحيل الأمر إلى ظروف التنشئة الاجتماعية «كنت طفلا وحيدا مدللا من الجميع»، ونقرأ أيضا في مكان آخر من الرواية «في الحقيقة كان يكتب عني أنا وحدي، وعن أثر تربية أمي لي، متفلسفا حول نظرية «ابن أمه»، وغياب الأب، وجذور الشذوذ. كان يمكن لي أنا نفسي أنا أقتنع بها في زمن سابق، قبل أن ألتقي عشرات الأشخاص ممن اختلفت ظروف تربيتهم ونشأتهم عني تماما، ومع ذلك ولدوا ميالين للرجال»... وعبدالعزيز الذي يمثل الجانب الموجب في العلاقة كان أيضا ينظر إلى نفسه بكثير من الخجل حتى انه لم يستطع زيارة هاني بعد أن دخل السجن وخرج هو لأن عائلته لها علاقات قوية ونصحه محاميه أن لا يقترب من هاني خوفا من كشف أمره وأنه كان ضمن من تم القبض عليهم.

ورغم أن أم هاني فنانة وممثلة معروفة وتعيش الحياة بطولها وعرضها إلا أنه لم يستطع مواجهتها بأمره، أو حتى مجرد التفكير في أنها يمكن، باعتبار انفتاحها، أن تتقبل الفكرة؛ ولذلك أضطر أن يسايرها ويساير المجتمع وأقدم على فكرة الزواج حتى يقنع المجتمع أنه ليس مثلّيا، وفكر كثيرا لاحقا كيف كانت أمه ستنظر له وقد كشف أمره لو بقيت على قيد الحياة إلى هذه اللحظة الفارقة من حياته.

ويرد على لسان أبطال الرواية من المثليين كلمة «الفضيحة» وكلمة «فجور» في وصف قضيتهم وكيف أنهم كانوا يغطون وجوههم عندما دخلوا للمحكمة اتقاء كاميرات وسائل الإعلام.

لكن ليس كل المثليين في الرواية هم نتيجة ظروف اجتماعية كتلك الظروف التي يتذرع بها البطل «هاني» والتي لم تخلو من الدلال الزائد عن الحد والذي يؤدي إلى مفسدة الصبيان، فعبدالعزيز حبيب هاني والذي يمثل الجانب الموجب في العلاقة المثلية نشأ تنشئة رجولية، فهو من الصعيد، وأبوه عسكري شديد لكنه ترك خطيبته من أجل هاني. وكريم سعدون الذي تعرف عليه هاني في السجن كان أزهريا ومحبا للتصوف. وهناك نماذج للمثلي المناضل السياسي، والمثلي الذي نشأ في مجتمع ذكوري.

لا تقدم الرواية إلا صوت هاني محفوظ، فهو الذي يسرد الأحداث وهو الذي يتحدث وهو الذي يرسم صورة المشهد بالكامل، وهو الذي يركب فصول الرواية ويحاول صناعة صورة متكاملة منها، لكنه رغم ذلك لم يقدم مرافعة في الدفاع عن نفسه وعما يمارسه، لا في السجن ولا خلال مرحلة فقده النطق وكتابة سيرته.. بل إنه ظهر في هذه المرحلة أقرب إلى النادم، والذي لم تعد تعنيه تلك الرغبة التي كانت تحاصر خاصرته أبدا، ولم يعد راغبا في لقاء أو سماع عبدالعزيز الذي كان في مرحلة من المراحل كل شيء بالنسبة له.

ولا تقدم الرواية بشكل واضح ومباشر نظرة المجتمع للمثلي، تعليقاتها عندما يمر إلى جوارهم، وضع أسرهم بعد فضيحة المركب.. فقط بعض الممارسات من رجال الشرطة خلال اعتقالهم وسجنهم سواء من خلال بعض العنف الجسدي أو اللفظي. حتى شيرين زوجة هاني لم يتح لها في الرواية الحديث بشكل كاف عن مشاعرها وإحساسها بعد معرفة «مثلية زوجها وفضيحته»، والغريب أن شيرين تعترف أن عائلتها مارست عليها ضغطا كبيرا لتطلب الطلاق من هاني.. ثم عندما التقت به بعد أن خرج من السجن وجاء لرؤية ابنته وكأنها تبدو نادمة على قرارها رغم أنها لطمته كفا قويا لحظة رؤيته.

تبدو شخصيات الرواية كثيرة الالتباس، مشتتة، ومنكسرة، وتبحث عن شيء لا تعرفه ولكنها في كل الأحوال كانت تنتظر فرجا يأتيها من السماء على يد شيخ زاهد.. كان هاني مثلا يهرب للصلاة عندما يشعر بتشظيه، ويستغفر ربه، لكنه سرعان ما يعود إلى حالته بعد فترة سكينة ويبحث وراء ملذاته الشاذة. كان ينتظر على طريقة الأفلام العربية يد زاهد تستقر على كتفه من الخلف لترسم له الطريق المستقيم وهو يجلس إلى جواره في الجامع يبكي، لكن تلك اليد لم تأت.

وعندما خرج من السجن محملا بالفضيحة وفاقدا القدرة على الكلام كان يبدو وكأنه نسي تلك المتع التي كان يجري وراءها ويتصيدها، وفي الوقت الذي نعتقد انه «تاب» عما كان يمارسه من فضيحة وفجور نجده يصطاد ضحية جديدة في ليلة رأس السنة ويبدأ العبث معها قبل أن ترفسه. لكن تلك الحادثة بما شكلته من صدمة لهاني هي التي أعادت له النطق ليبدأ بعدها مرحلة احتفال وفرح أنسته كل انكساره وكل «فضائحه» السابقة.

كريم أيضا كان «يعرف أنه ملعون؛ لأنه كان يفعل فعلة قوم لوط» وكان يحاول الحفاظ على الصلاة وصيام الاثنين والخميس واستعادة ما نسيه من كتاب الله» وكان يقرأ كتب التصوف وأدبهم.

يحدث المنعطف المهم في الرواية في صفحتها الأخيرة تقريبا عندما ينقل سكّر الذي تعرف عليه هاني في السجن أيضا خبرا صادما أن كريم مصاب بمرض الإيدز، وهذه نهاية مفجعة أيضا تقدمها الرواية لشخصية «المثلّي» وانه هرب للصعيد هائما على رأسه هناك رافضا أخذ أي علاج.. المنعطف هو أن هاني وعبدالعزيز وسكّر يذهبون للبحث عن كريم وينطلقون من ميدان التحرير، نفس المكان الذي تم فيه القبض على هاني وعبدالعزيز خلال مداهمات قضية «الكوين بوت» لكن هذه المرة خرج هاني «مكشوف الوجه في عز النهار، بلا نظارة سوداء، وبخطوات تتظاهر بالشجاعة». في دليل على أنهم ذهبوا أخيرا في البحث عن قضيتهم في وضح النهار. «ما أن سرنا معا إلى سيارته، حتى بادر بمد يده، وامسك أصابعي في كفه الكبير. كان كل شيء ممكنا في هذه اللحظة».

لا يمكن أن نغفل أيضا في سياق قراءة هذه الرواية عنوانها الذي هو عتبة فهمها الأولى «في غرفة العنكبوت» والذي يحيلنا مباشرة إلى بيت العنكبوت الواهن والضعيف. نقرأ في الرواية على لسان هاني «أمسكت بالعنكبوت الكبير بين يدي، وأردت أن أتحدث إليه، أن أسأله لماذا يطاردني هو وعشرته كلها أنا تحديدا من بين جميع الناس، منذ ان كنت طفلا. كأنه عنكبوت واحد ينسج خيط حياتي منذ مولدي وحتى الآن، ولن يرحل إلا بموتي».

تبدو فكرة العنكبوت التي ارتبطت الرواية بخيوطها منذ البداية مؤكدة إلى وهن الفكرة وعدم قبولها في العالم العربي حتى من قبل من يمارسونها ويستلذون بها ولذلك جاءت أول رواية تتحدث عن هذا العالم حاملة عنوان «في غرفة العنكبوت».