959555
959555
شرفات

بعبارة أخرى: المدينة والأدب

20 مارس 2017
20 مارس 2017

د. حسن مدن -

سنجد مدخلاً لهذا الحديث في تجربة كاتب عالمي معروف في علاقته مع مدينته، ذلكم هو التركي أورهان باموق أما المدينة فهي اسطنبول. يقول باموق، حامل «نوبل» للآداب لعام 2006: إنه لا يكتب من أجل الشعور بالراحة والاسترخاء، بل لإنقاذ نفسه. حين انهالت عليه الدعوات من كل مكان لإلقاء المحاضرات والإدلاء بأحاديث حول الشؤون السياسية بعد أن ذاع صيته، أبدى تبرماً شديداً من ذلك: «لا أحب أن أفعل هذا الأمر»، هكذا قال.

وقال أيضاً: «لا تكمن مسؤوليتي في الادعاء بإنقاذ العالم أو تغييره بخطابات سياسية بل بالاستمرار في كتابة الكتب» .

لا ينقص السياسة من يشتغل بها، فالسياسيون في العالم كُثر، أكثر بما لا يقارن بعدد الكتّاب، لذا يتعين على الكاتب سبر أعماق روحه وخياله. يحدث التغيير حين يغوص الكاتب بعيداً في مغامرة الكتابة، وبالتالي يكون بمقدوره، بشكل ما، كتابة أعمال أدبية تكون مفيدة للإنسانية.

يوزع باموق عامه بين عدة أمكنة: أربعة أشهر في نيويورك حيث يدرّس بجامعة كولومبيا، ثم أربعة أو خمسة أشهر في اسطنبول، حيث أصدقاؤه ومنزله وكتبه والمدينة التي يعرف أنه سيدفن فيها، رغم أن الصحافة التركية التي يهيمن عليها من يصفهم بأشباه الفاشيين تهاجمه باستمرار.

اسطنبول هي المدينة التي منها استوحى موضوعات وشخوص رواياته . عند ولادته كان عدد سكان المدينة لا يزيد على مليون شخص، بعد نحو نصف قرن تضخم هذا العدد ليبلغ ثلاثة عشر مليوناً، إنها حالة نموذجية لأي مدينة كبرى في الشرق الأوسط

الكلام نفسه يمكن أن يقال عن القاهرة وعن طهران، وعن عواصم ومدن أخرى، لم تعد المدينة مدينة بالمعنى الذي كانت عليه في بدايات القرن العشرين.

وفي روايته «متحف البراءة» يتحدث عن بائع متجول للبن الرائب، قدم إلى اسطنبول من الأناضول، شأنه شأن أغلبية سكان اسطنبول اليوم الذين وفدوا إلى المدينة من قراهم من دون معطف كما يقول.

ليست مبالغة القول: إن اسطنبول هي البطل الرئيسي في رواياته. تستهويه مدينته لأنها تقع في الشرق الأوروبي، لكنها مع ذلك تحمل مزيجاً فريداً من الغرب والشرق، وهو أمر لا يدركه إلا السياح أو من ينظرون إلى المدينة من خارجها.

هذا المزيج نقمة ونعمة في الآن ذاته: نقمة لأنه قد يخلق ضروباً من انفصام الشخصية خاصة لدى الأقليات التي تبحث عن تحقيق ذواتها، فيما تتنازعها سمات ثقافية متعارضة، ونعمة لأن ثراء وعمق الثقافة التركية عائد لهذا المزيج بين حضارتين وثقافتين .

مثال آخر عن علاقة الأدب بالمدينة نجده في مدينة عربية عريقة هي بغداد. الذين يحفظون قصيدة الجواهري: «يادجلة الخير، يا أم البساتين»، التي كتبها في ستينيات القرن العشرين من منفاه في مدينة براغ، يتذكرون ولا شك ذلك البيت منها الذي فيه يقول الشاعر: «يا أم بغداد من ظُرفٍ ومن غنجٍ/‏ مشى التبغدد حتى في الدهاقين».

و«التبغدد» حسب ناشر ديوان الجواهري هو: «تكلف عادات أهل بغداد وأخلاقهم، طراز معيشتهم وطرق الحياة والتعامل والتخاطب. وقد انتشر «التبغدد» في معظم أرجاء العالم إبان العصور العباسية الأولى، وفي أيام رفعة العالم الإسلامي وعظمته وامتداد نفوذه وسلطانه أخذاً بالظرف واللطف البغداديين، يوم كانت بغداد عاصمة الدنيا آنذاك، وتعاطياً لأساليبها وأزيائها وتأنقها. أما الدهاقين فهي جمع دِهقان: رؤساء القرى والمدن المتنفذون، وهي فارسية معربة».

وأظن أن واحداً من الأربعة التالية أسماؤهم: وهم الدكتور ابراهيم السامرائي والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور مهدي المخزومي ورشيد بكناش، هو من وضع هذا الشرح، لأنهم من جمع وحقق وأشرف على طبع ديوان الجواهري، وربما إلى أصل هذا المعنى يعود الاشتقاق في ما يقوله كاظم الساهر في إحدى أغنياته: «تتبغدد علينا وإحنا من بغداد».

بغداد بالنسبة للشاعر عبدالوهاب البياتي تحمل في وجهها عذرية الزمن وعطره ورائحة القباب والمآذن الشاخصة التي ينتمي بعضها إلى العصر العباسي، وخاصة الجزء الأخير منه. كانت بغداد تستهوي البياتي فيطوف حولها، كما كان يطوف نهر دجلة الذي يذهب إليه من الباب الشرقي، وبخاصة أيام الفيضان، حيث كان النهر محصناً بأكياس الرمل خوفاً من غرق المدينة، وما أكثر ما كان الماء يعلو ويطفو فوق الأكياس وينساب إلى الشوارع.

وعلى ضفتي النهر، يقول جمال حيدر في كتابه عن بغداد، تطل شرفات خرافية لبيوت فيها أفاريز وأعمدة ونقوش تصنع تلك الشناشيل المطلة على واجهة النهر. المعماري البغدادي القديم كان معنياً بانفتاح المدينة كلها نحو هذا النهر كأنها تتضرع أمامه، وهي مبتهلة إلى السماء المفتوحة.

ومن الأماكن التي أسرت البياتي، وصديقه الروائي غائب طعمة فرمان سوق السراي في بغداد الذي تباع فيه الكتب القديمة، حيث كان هذا السوق بمثابة المنجم الكبير يلتقط منه الكتب النادرة التي غذت مخيلته ولعبت دوراً كبيراً في التكوين الثقافي له ولجيل الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، حيث كانت تباع فيه الروايات المترجمة والأشعار وكتب رواد النهضة والتنوير في العالم العربي.

في أحد كتبه تحدث المفكر المغربي عبدالله العروي عن شوارع المدن، التي أسماها الشوارع القلبية، أي تلك التي هي بمثابة القلب للمدينة المعنية، تمييزاً لها عن الشوارع الخلفية الصغيرة، وقصد بها تلك الشوارع التي تعج بالمقاهي والمطاعم الكبرى والمسارح ودار الأوبرا.

أتى حديثه هذا في سياق العلاقة بين الأمكنة والتعبير، حيث رأى أن مثل هذه الشوارع أمكنة ل «صناعة الأدب»، بالمعنى المجازي طبعاً الذي يعني أن شخوص الرواية أو القصة يتحركون في هذه الشوارع.

وفي روايته «اليتم» قال إن مدينة الدار البيضاء لم تكن مسرحاً لروايته لأنها لا تؤَمن مثل هذه الشوارع الكبيرة التي تكون ملتقى شخصيات الرواية الرئيسية، متسائلاً: أين هو الميدان أو الساحة الكبيرة على نحو ما يوجد في بطرسبورج حيث استلهم ديستوفسكي أو تولستوي كثيراً من الأحداث والوقائع مما يحصل في الشوارع الطويلة؟

حين أراد فلاديمير لينين، قائد الثورة البلشفية، مقارعة خصومه، مطالع القرن العشرين وفي إطار المساجلات بين السياسيين الروس كتب يقول: «إن السياسة ليست طريقاً ممتداً مثل جادة نيفيسكي في بطرسبورج، وإنما هي طريق متعرج به التواءات ومنعطفات». حين يرى أحدنا هذا الشارع يستطيع أن يدرك بلاغة هذا التشبيه، لما هو عليه من طول امتداد، حيث لا تعرجات ولا انحناءات.

وإذا كان سياسي مثل لينين لجأ إلى التشبيه المذكور، فلنا أن نتخيل ما بوسع المكان أن يطلقه من تأملات في أذهان أدباء كبار من وزن أولئك الذين عاشوا في المدينة بين القرنين التاسع عشر والعشرين.

وتحدثنا هنا مرة عن علاقة ديستوفسكي بهذه المدينة بالذات، على النحو الذي جرى بسطه في كتاب «الروائي ومدينته» الذي يحكي عن علاقة أدبه بها، كونه عاش فيها طويلاً رغم أنه لم يولد فيها، لذا أتت مشاعره إزائها متناقضة، حيناً يبدو مسحوراً بما فيها من جمال، وحيناً آخر يراها أكثر المدن عبوساً في العالم، فالتماثيل فيها يمكن أن تدب فيها الحياة بغتة، فيما المباني تجثم بثقلها على أنفاس ساكنيها.

يكفي كاتب في مثل أهميته أن يتجول في الشوارع، متأملاً المارة الذين لا تربطه بهم أي صلة، فيتفرس في وجوههم ويخمن كيف تسير بهم الحياة، لتتشكل في ذهنه مداخل متعددة لولوج عالم الرواية التي هو بصددها.

لا نقول إن المدن العربية خالية من الأماكن التي تلهم من يكتبون، لكن معضلة مدننا تكون في «سيولتها» من حيث هي تكوين طوبوغرافي أوحضري، حيث إنها لا تكاد ترسو على حال بفعل ما يطرأ عليها من تغير دائم، يطال حتى ما دعاه العروي القلب فيها.