أفكار وآراء

قناعاتنا.. إلى أي حد تغربنا عن الواقع؟

19 مارس 2017
19 مارس 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تساءلت مع نفسي، وأنا أهم بمناقشة هذه الفكرة الـ«قناعات» ما الذي يجعل أحدنا يصل إلى قناعة ما قد تختلف اختلافًا جذريًا على إرهاصات الواقع الذي يعيشه، أو البيئة من حوله؟ والى أي حد تعمل هذه الـ«قناعات» على فصل من يتخذ قرارًا ما عن قناعات الآخرين من حوله؟ وهل من يتخذ قرارا ما نتيجة هذه الـ«قناعات» تصغر في عينه الحياة إلى حد النزول عند هذه القناعة التي يراها فقط؟ وألم تكن الحياة تستوعب مختلف اتفاقاتنا واختلافاتنا إلى حد إعطائنا فرصة الاشتراك في قناعات جماعية؟ ولماذا هذه الـ«قناعات» الذاتية أو الشخصية، أو الفردية فقط؟ ومن الذي يملي على أحدنا حتى يصل إلى قناعة ما دون الآخرين؟ وهل للتجربة الإنسانية والعمر المنجز دور في الوصول إلى قناعات بعينها؛ قد لا تتحقق عند آخرين أيضًا أقل تجربة وعمرا؟ والى أي حد تؤثر هذه القناعات في علاقتنا مع من حولنا؟

تفرض هذه الأسئلة سطوتها، وتأثيرها، وتضغط بقوة المعرفة للوصول إلى إجابات تفصح عن كثير من الإشكاليات الخاصة بكثير من القناعات التي يصل إليها كثير من الناس، والتي من شأنها أن تغير تجاه دفة مسيرة الحياة عند كثير من الناس، فالقناعة في النهاية تبقى قرارات واجبة التنفيذ، فالقرار يحتاج إلى تنفيذ كما هو معروف بالضرورة، وبالتالي فمن يتخذ قرارًا ما، لا شك أنه وصل إلى قناعة ما، وهذه القناعة لن يكون لها أثرًا إن لم تجد طريقها إلى التنفيذ على الواقع المعاش، وفي مجمل هذه الصورة هناك علاقة بين طرفين؛ الطرف الأول يمثله من وصل إلى قناعة معينة في الوسط الذي يعيش فيه، وهو هنا صاحب الرسالة، والطرف الثاني هو المتلقي، وهم مجموعة الناس الذي يعيشون حول هذا الذي وصل إلى قناعة ما، في أمر ما، وهؤلاء هم الذين سوف يتلقون الرسالة، ولهم خيار استلامها أو رفضها، بناء أيضًا على مستوى القناعات التي لديهم، ووضوح الصورة التي اتكأ عليها صاحب القناعة الأول.

يأتي الوصول إلى قناعة ما، بناء على تجربة حياة عاشها صاحبها، حتى أوصلته إلى مستوى اتخاذ قرار ما، بناء على هذه القناعة، وتجربة الحياة هذه ليست متيسرة عند كثير من الناس، فهي تحتاج بالإضافة إلى منجز عمري ما، إلى ذخيرة معرفية بكل ما يدور حولنا، والى تجربة حياة «خصبة»، والى رؤية صافية لها القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، وقد تحتاج إلى ضغوط مباشرة يعيشها من يصل قناعة ما، وهذه كلها أمور بالغة التعقيد، ومن هنا يأتي الانحياز أكثر إلى المنجز العمري في تحديد ذلك، فالذي يتخذ قرارًا ما بمغادرة وطنه، على سبيل المثال، ذلك لأنه وصل إلى قناعة ما، بأن الوطن الذي يعيش فيه في لحظته الآنية لم يعد يوفر له سبل العيش الكريم، أو أنه يرى فيه عبئًا لا يمكن أن يتحمله بإمكانياته البشرية المتواضعة، ومن هنا يقرر الرحيل عن الوطن باحثا عن وطن آخر ربما يكون أكثر أمنا واستقرارًا، هذه الصورة في مجملها قناعة يصل إليها فرد واحد أو عدد قليل من الأفراد، لا يكادون يمثلون ثقلا سكانيا من مجموع سكان الوطن الواحد، بينما تظل الغالبية العظمى من سكان الوطن لم يصلوا إلى قناعة من هذه النوع وهي ترك وطنهم، وإنما ظلت قناعاتهم القديمة بالبقاء على وطنهم الذي يعيشون فيه؛ أكثر بقاء، كما نرى ذلك في البلدان التي تتعرض للحروب، أو الضغوطات الدولية المختلفة، وليس شرطًا في هذا المثال أن يكون الوطن غير المرغوب فيه يتعرض لضغوط ما، فقد يكون وجه الاستقرار فيه وتحقيق العيش الكريم فيه إلى الحد المقبول، ولكن لأن هناك قناعات أخرى يصل إليها هذا أو ذاك، ولا يصل إليها في المقابل آخرون يعيشون في نفس الظروف التي يعيشها من وصل إلى قناعة الرحيل عن وطنه. وما ينطبق على المثال السابق، ينطبق على أمثلة أخرى في الحياة منها الزواج، ومنها اختيار التخصص العلمي، ومنها اعتزال الأقربين إليه من الناس، ومنها الاستقالة من العمل، ومنها ترك الحياة العامة وصخبها وبهرجتها وصور احتفاليتها، والذهاب بعيدًا عن القناعة بالبساطة المطلقة المتجردة من كل مظاهر الحياة التي يعيشها عامة الناس، ومنها ترك الديانة التي يكون عليها واتخاذ ديانة بديلة، أحيانا، ومنها اختيار منهج حياة جديد، وهذه كلها تحولات نوعية في مسيرة حياة أي شخص مبنية على قناعات مستجدة في أغلب الأحيان، وأتصور في تقدير شخصي، أن هذه التحولات النوعية لم تأت هكذا عفوية، أو غير مدروسة، بل تأتي انعكاسا لمعاناة، أو لضغط طارئ شديد، لم تستطع هذه النفس أن تتحمله في حين ظرفيته، ولذلك تلجأ إلى الهروب عنه بتغيير المسار الحالي، والبحث عن مسار آخر أكثر أريحية، وبعيدًا عن ضغوط اكبر محتملة التحقيق، هذا جانب؛ أما الجانب الآخر في الوصول إلى هذه القناعات؛ يكون فيها شقان مهمان:

الأول: دافع ذاتي؛ وهو المتمحور حول مصلحة ذاتية شخصية، يصل إليها صاحبها -أي القناعة- لتحقيق مآربه الشخصية، وقد تكون مصلحة متعلقة بأقرب الناس إليه، وهذه الصورة تلقى قناعة الرضا بها وقبولها أكبر عند المتلقي؛ لأن المصالح الذاتية للأفراد لا تحتاج كثيرًا من النقاشات، لأنها تدخل ضمن خصوصية الناس أنفسهم، ويقال: عليه أن يتحمل نتائج قراره بنفسه، فالمستقيل من وظيفته، أو المغير لتخصصه، أو المفارق أسرته أو جماعته، أو المغادر وطنه، هذه كلها متعلقات شخصية، على الفرد أن يتحمل إخفاقات القرارات التي يتخذها على نفسه، والقناعات التي يصل إليها في هذا الجانب، وبالتالي فالناس لن يكترثوا كثيرا لهذه النتائج، أو ما سوف تؤول إليه مستقبلا.

الثاني: دافع جماعي، ونتائج هذا الجانب قد تكون ثقيلة، وقد تؤدي بحياة الشخص، وقد تورده المتاعب والمهالك، فالذي يتصدر بالمطالبة بحقوق الآخرين، موكل نفسه بنفسه عنهم، والذي يقود حراكا من أي نوع بديلاً عن آخرين، والذي يتصدى لأفكار لا تتوافق مع قناعاته وفكره، والذي يحمل هموم العامة مدافعا، ومناضلا، كما يرى، متجاوزًا الكثير من النقاط الحمراء، هذه كلها قناعات شخصية، يلبسها صاحبها الصفة الجمعية ليبرر موقفه أمام العامة، وقد يؤازره البعض، وقد لا يتفق معه البعض الآخر، والأمر هنا يختلف عن الصورة المنحازة إلى الذات الفردية فقط، هنا المسألة اكبر، وتأثيرها أعمق، ونتائجها ليست يسيرة على من ينصب نفسه أنه المدافع عن المجتمع، وكثير من هؤلاء دفعوا حياتهم ثمنا لقناعاتهم هذه التي البسوها الصفة الجمعية ليجدوا مبررًا أكبر للمضي في تنفيذها.

اختم هنا بالوقوف عند هذا السؤال المطروح في المقدمة: إلى أي حد تعمل هذه الـ«قناعات» على فصل من يتخذ قرارًا ما عن قناعات الآخرين من حوله؟ نعم؛ لأن الآخرين لا يهمهم كثيرًا أن تتخذ قرارا ما، حيث يصدرون نتائجه إلى مسؤوليتك المباشرة، وعليك أن تتحمل نتائج قناعاتك التي وصلت إليها، والى قراراتك التي اتخذتها نتيجة هذه القناعات، الآخرون من حولك لن يكونوا معك، قد يجاملك البعض بكلمة، أو ابتسامة «صفراء» مترحما عليك لا أكثر، خاصة إذا كانت النتيجة ليست في صالحك، ولذلك يحتم علينا الأمر أن لا نقع ضحية لقناعاتنا الذاتية، فقد تكون هذه القناعات التي توصلنا إليها نتيجة ضغوطات نفسية لم نتحملها، وقد يمارس الآخرون من حولنا علينا ضغوطا أخرى لم تستطع خبرتنا وتجربة حياتنا على استيعابها وامتصاص آثارها، علينا أن لا نلجأ أيضا إلى الآخرين كثيرًا، فهم أيضا تحكمهم نفس هذه المحددات - العمر؛ تجربة الحياة؛ الرؤية الشخصية؛ عدم الجدية والصدق - علينا على الرغم من خطورة ذلك أن ننحاز أكثر إلى أنفسنا، ولكن ليس في لحظة الصراع النفسي الآني، علينا أن ننتظر أكثر، وألا نمل من هذا الانتظار، حتى تخرج قناعاتنا «معتقة» بخبرة الحياة وبفضاء النفس، فللنفس فضاءات واسعة وممتدة.