شرفات

ثورة «البدون» في رواية الثعالب الشاحبة !

13 مارس 2017
13 مارس 2017

ليلى عبدالله -

[email protected] -

رواية «الثعالب الشاحبة» للروائي الفرنسي «يانيك هاينيل» ترجمة د. ماري الياس و»د.معن السهوي»، دار ممدوح عدوان 2016م، يتناول الكاتب نقد الثقافة الفرنسية وسياستها، فرنسا التي طالما استولت عليها فكرة الاستعلاء كحضارة عريقة قديم قدم الإنسانية، في هذه الرواية فضح وتفكيك لهذه الحضارة الاستعلائية التي تتخفى خلف علمانيتها وخلف ديمقراطيتها التي تتبنى شعار الحرية، هذا الاستعلاء الذي يطمس استبدادها تجاه كل ما ليس فرنسي « لقد عنفوني في الزنزانة كما عنفوا العرب في عام 1961م، وكما يعنفون الآن المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين على مدار الساعة».

بطل الرواية هو إنسان يعيش في سيارة، عاطل عن العمل، معتزل لا عن البشر فحسب بل عن الكلام أيضا، من خلال رسمة غريبة لرأس سمكة على الحائط يتنبأ بقدوم ثورة، يتعرّف على مجموعة من الأصدقاء مهاجرين غير شرعيين، ومن خلالهم يتماهى مع انكساراتهم وخيبات أملهم في بلد تطلق كلابها الشرسة خلف هؤلاء غير الشرعيين ليكونوا مأدبة هذه الكلاب الضارية، وقد وقع هذا مع «عيسى» و«كوريه» التوأمين الدمثين من مالي، اللذين اضطرتهما ظروف الحياة في بلدهما للخضوع للطرق الملتوية هربا من جحيم اعتقدوه أشدّ شراسة من الجحيم الفرنسي، غير أنهما يكونان ضحية ملاحقة رجال الشرطة وكلابهم لساعات عبر أزقة باريس وحين تهلكهما المطاردة يرميان بأنفسهما مع رفع ايديهما إلى نهر السين، النهر الذي يرجفهما إلى قاعه كنهاية حتمية، فهما لم يكونا يجيدان السباحة، وبعد أن تنتشل الشرطة جثتهما تكتب تقريرا تتهمهما بالانتحار، لقد فلحت الشرطة في تأليف سيناريو لقلب القضية لصالحهما «إننا نعيش في عصر يشهد حلول الشرطة مكان السياسة، وهذا تبدل تاريخي كونه يؤسس لإذلالنا، كلمة «شرطة» بالنسبة إليه، لا يشمل فقط قوات حفظ النظام، بل أيضا كل شيء فينا يقبل بأن يُسحق، فاستعبادنا سيصبح قريبا بلا حدود بما أن الخطاب السياسي قد اندثر وبقيت الرقابة وحدها حية»!

من هنا تتفجر الثورة، ثورة المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا، يخرج مجموعة من الرفاق وعلى وجوههم أقنعة رأس السمكة، هذه الأقنعة لا لإخفاء هوياتهم، فهم بلا هويات ولا أوراق ثبوتية «إن وضع الأقنعة لا يهدف إلى الاختباء بل إلى جعل انفصالنا طقسا»، هؤلاء الذين اختاروا اسم «الثعالب الشاحبة» نسبة إلى أسطورة أفريقية، يحكيها رجل أطلق عليه بطل الشخصية اسم «الراوي»، حدثهم هذا الراوي عن الثعلب الشاحب وهو إله غير محب للبشر، يسكن قلب الدمار، يحيط علما بكل الخراب الذي يغزو العالم، هو رمز للتمرد «فحسب أسطورة الخلق لدى شعوب الدوغون، أوجد الثعلب الشاحب الفوضى من اللحظة التي تحرر فيها من المشيمة وهاجم أباه، الإله الرب، رافضا النظام الذي أرساه، وبذلك استطاع الوصول إلى خفايا الأشياء والتعرف على عالم الموتى، وعقابا له على تدمير فكرة الانتماء حرم الثعلب الشاحب من ملكة الكلام وطرد خارج المجتمع ليعيش في وحدة لا يمكن تحملها، وليكتب المستقبل بقوائمه، فقد كان يمر كل ليلة على لوحات التنبؤ التي يرسمها كهنة الدوغون في الرمل».

هذا الثعلب الشاحب صار أيقونة الثورة في شوارع باريس المسكونة بهاجس الريب والمعاداة والشك وكراهية جلّ ما لا يشبهها «إن المسألة الوحيدة التي تجعل المجتمع يرتجف خوفا كانت دائما مسألة الجماعات الأخرى، لأن المجتمع لا يقبل وجود ما هو مغاير له، وهو يخاف من أن تأخذ الجماعة مكانه».

الدولة الفرنسية تمارس استبدادها الوحشي على هؤلاء المهاجرين الإفريقيين غير الشرعيين، فتطردهم من أراضيها لأنهم لا يحملون أوراقا ثبوتية، وفوق هذا يتهمونهم بالتوحش لأنهم مقاومون، وهي نفسها طالما سعت وما تزال تسعى إلى نهب ثروات أفريقيا، هي نفسها التي دمرت قرى الكونغو، وهي نفسها التي ذبحت السود المقاومين واغتصبت نساؤهم وداست أطفالهم الرضع بجزماتهم من جلد الجاموس، فالذاكرة أمينة والتاريخ لا ينسى، ولا بد من إعادة الحقوق لضحايا التاريخ، حتى لو تم ذلك من خلال خرق القانون، قانون دولة نظامها مختل وسادي أيضا «حين يكون القانون غير عادل، على العدالة أن تتجاهل القانون».

يمضي الثعالب الشاحبة بكل أبهّة سكونهم، وكأنهم يصلون صلاة قداس على أرواح التوأمين «عيسى» و«كوريه» ضحايا عنف البوليس الفرنسي، تمضي الثعالب دون أن تجسر الشرطة الفرنسية على ايقافهم، فهم لا يرتكبون فوضى ويعتقدون أن هذه الأقنعة برأس السمكة ماضية تمارس طقسا من طقوسها في فلكلور جماعي دون أن تعطّل حركة الشارع، فيمضون بكل روية إلى مركز المدينة، إلى المكان الذي تتفرع منه قناة «سان مارتان»، هناك تماما حيث لقي التوأمان حتفهما وهما يهربان من الشرطة .

«عيسى» و«كوريه» مهاجران غير شرعيين، هربا من مالي، لأن بقاءهم هناك يعني شيئا واحدا هو انضمامهما إلى عصابات القوات المحلية هناك، دمار شامل لكل عصب انساني فيهما، ولكي يحميان أنفسهما من وحشية البوليس الفرنسي قاما كما يقوم كثير من المهاجرين غير الشرعيين باحراق أصابعهما لتظل هويتهما مطموسة، نائية عن عالم لا ينكفئ يعاقبهما، لأنهما من بلد اجرامي، ولأن بلدا اجراميا ينكل بهم، حرقا أصابعهما بلهيب النار ليكونا منسيين كالموتى، إنه ربما أقل الحلول قسوة في عالم شديد القسوة!

تمضي الثعالب الشاحبة وألسنتها بدأت تنشد نشيدها الحزين، نشيد لأرواح الموتى، رمز الإنسانية المكافحة، ويتكاثف الحشد رويدا رويدا، وتختلط الأقنعة، وحتى تتكامل رمزية الثورة، يرمي أولئك الذين يحملون أوراقهم الثبوتية في ألسنة النار، فيغدون جميعا « بدونا » بلا هوية في بلد يرى الانسان مجرد أوراقا ثبوتية، في بلد ينهب انسانية الانسان وطاقاته الكامنة، بلد استمرأ النهب على مدى قرون التاريخ واستمرأ العبودية، فهي اليوم تنكل بمن سبق ونهبت خيرات بلادهم ودمرت الحيوية الانسانية فيهم، لكن التاريخ لا يعرف الرحمة أيضا!

رواية «الثعالب الشاحبة» رمزية فائقة الحِدّة لجلد سياسات المستبدين، وكشط الحقائق المغرقة في الأكاذيب عن ثقافات تدّعي الإنسانية، وإسقاط الأقنعة عن دولة علمانية تمارس تعاليها وعبوديتها على كل من يختلف عنها.