952215
952215
شرفات

آليات الحجاج اللغوي في حليب التفاح

13 مارس 2017
13 مارس 2017

يعقوب الخنبشي -

قال الأزهري: الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وهو رجل محاجج، أي جدل. وفي الحديث «فحجج آدم موسى أي غلبه بالحجة» ويعرف «بيرلمان» الحجاج على أنه مجموع تقنيات الخطاب والتي من شأنها أن تبعث على إذعان المتلقين للقضايا التي تعرض عليهم أو تزيد في درجات إذعانهم». ويتمثل الحجاج بكثرة الحقول المعرفية متعددة الأنماط والخصائص والمسلمات. ونحن نرى أن الحجاج قائم على محاولة التأثير في المتلقي الذي يجد نفسه مدفوعًا إلى الانقياد نحو الأفكار الواردة في النص سواءً كان ذلك الانقياد مطابقًا لأفكاره أو معارضًا لها، مما يعني تحويله من رافض للفكرة إلى متقبل لها.

ومن خلال ما تقدم ذكره سنحاول الاقتراب في هذه العجالة من نماذج لبعض آليات الحجاج اللغوي في مجموعة «حليب التفاح» للكاتب يحيى سلام المنذري، وهي المجموعة القصصية الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الانتشار العربي والتي تضم خمسة عشر نصا، إضافة إلى نص «الاهداء» المتميز في أسلوبه الذي قدمه الكاتب في صورة قالب أدبي جميل، لنكتشف في نهاية قراءتنا لهذه المجموعة على أن المجموعة شراب متعدد المذاقات مليء بسياقات حجاجية مختلفة، قدمها كاتبها لنا في قوالب مختلفة، متراصة الجدران والثيمات.

لقد افتتح السارد إهداء مجموعته القصصية بعبارة « شرب ما تبقى من القهوة، وقال: أخيرًا «والتي تكمن هذه العبارة في السطر الأول، لنستشعر من خلالها الاستعارة الحجاجية التي أراد الكاتب إيصالها لنا من الوهلة الأولى حين يخبرنا على أن المحارب بدأ في تلك اللحظة يستريح من عناء ومشقة كتابة وتحرير وتصنيف حليب تفاحه.

إن الصورة الحجاجية في حليب التفاح صورة متعددة البلاغة تحمل مكونًا حجاجيًا ذات جمالية خاصة مرتكزة على التأثير والاقناع التي تحدثه في قارئ المجموعة والصور الحجاجية هي:

 حجاج الاستنتاج: يترك لنا الكاتب حرية أن نصنف نحن القراء حليب تفاحه كما يحلو لنا دون تدخل منه رغم أنه قد صنَّف المجموعة في غلافها كما أراد حين وسمها على أنها مجموعة قصصية، فهو وإن أقام ذلك التصنيف كما يلزم وفق قواعد النشر، إلا أنه قد ترك لنا خيار التصنيف والاستنتاج حين يقول لكل واحد منا يقرأ نصوصه في هذا الإصدار على أنه «إذا قرأت الكتاب على أنه قصص فالإهداء إلى ابني زكريا المنذري، وإن قرأته على أنه رواية فالإهداء إلى أصدقائي المجانين»، كما يتيح لنا ذلك الاستنتاج أيضًا في عنوان مجموعته الأولى والتي أسماها « لماذا لا تقرأ القصة من نهايتها» وهو بذلك يدفعنا دفعًا إلى متابعة القصة حتى نهايتها

• حجاج الهدف: وهي الغاية المرتبطة بالهدف فها هو «مسعود» في القصة - ما فعلته النقطة السوداء- حيث نبدو النقطة شيئًا مختلفًا كل مرة في حياته فهو تارة يراها يتحول إلى طفل وتارة تشده النقاط السوداء ليجد فيها المتعة، وما إن رأى فتاة على وجهها شامة خفق قلبه وحين سمع كلام المسؤول الكبير وشاهد النقطة، تنهد بمتعة.

• حجاج التضمن: وهنا يبحر بنا الكاتب حين يقول لنا « انفجرت السيارة فجأة، وتهشمت البناية»، فعلينا أن نتساءل ما البناية المقصودة هنا والتي تحولت إلى رماد وماهي الدلالات والمضامين التي أراد الكاتب إيصالها لنا من هذه الصورة خاصة وأنه يقول « لم يكن أحد يستطيع أن يتنبأ بانفجار كهذا» تاركًا لنا حرية التأويل والاستنباط.

• حجاج الإثبات: والذي يقوم على تأكيد الواقع ضمن سياق الحكاية.

وقياسًا على ما قاله تشيخوف نقول: إذا وضعت مسمارًا في أول الحكاية فاعلم أنها ستنتهي بذلك المسمار. ليتجسد لنا ذلك في قصة « ماهي الحكاية الأخيرة لشهرزاد؟» حين يخبرنا السارد بأنه « ماتت أم حمدان وفتحت عينيها. كانت النسوة يغسلنها. تيقن أن قلبها صامت. وابنتها أكدت لهن أنها أغلقت عيني أمها بعد أن سلمت روحها في المستشفى. حاولت امرأة إغلاق عيني أم حمدان، لكنها رفضتا ذلك.» وهنا يثبت الكاتب حين يدفعنا الى التساؤل مرة أخرى، ما الذي أبقى عيني أم حمدان مفتوحتين رغم إثبات ابنتها ضمن سرد الحكاية على أنها أغلقت عيني أمها بعدما ماتت وما هو السر يا ترى المخفي عنا! الذي يمنع جثة ميتة من بقاء العينين مفتوحتين رغم تأكيد الممات ليجيبنا لاحقا عندما يثبت لنا ذلك ونكتشف أن أحدا من أقربائها لم يظهر أثناء فترة احتضارها وهو ولدها محمود الذي أحضره والده « وحدق إلى جثة أمه مفتوحة العينين، فأخذ يبكي بمرارة وحرقة. وبعد أن خرج، أغمضت المرأة عيني الجثة، ولم تنفتحا من جديد» لنكتشف أنها لم تمت ميتة طبيعية.

• حجاج التدرج: -في قصة «من هم» يتدرج الكاتب في سرد حكاياته عبر ما أسماه بالصفحات فعندما يتذكر الراوي» بطل القصة» صديقه سلمان الذي لم يزره منذ شهرين، ينتقل بنا إلى الصفحة الثانية ليتدرج معنا بالحدث ناقلاً لنا كيفية استقبال العمانيين لضيوفهم وفق عاداتهم في مجالسهم وخاصة كبار السن وذلك من خلال تقديمهم في صدر المجلس لينتقل بنا إلى صفحة تبادل الأخبار والعلوم ثم في الصفحة التي تلت سابقاتها والصفحات التي تلت سابقاتها ليظهر لنا الحدث بعد تلك المقدمات ومحاولة جره إلى حديث لا يرغب هو مواصلته.

• حجاج البرهان: في قصة حزن الفتيات يدفعنا الكاتب « الراوي» إلى تصديق برهانه حين يقول لنا « إذا عرفت رجلًا اسمه زكي، فثق بأنك سترى الأيام ملونة، لكنها ألوان غامقة» فهل يمكن ببرهانه هذا أن نصدق حجته تلك؟ ربما. حين يجرنا إلى ذلك عندما يبين لنا سالم وهو يقف مندهشا من دخول زكي صاحب الألوان مطليًا باللون البرتقالي في نفس اللحظة التي يخبر زملاءه عنه، يدخل برفقة المدير ليخبرهم أن زكي انتقل من الوزارة التي يعمل بها سابقًا إلى وزارتهم لتتوالى الأحداث ويتذكره في قصة «ثعابين سالم» ثم يرغب بطمسه بسائل أسود في قصة « لوحة حزينة» لتصل بسالم إلى تقديم استقالته في نهاية المطاف.

خلاصة القول هنا، لقد أفصحت «حليب التفاح» لنا عن أنها مجموعة قصصية ذات بنية متكاملة، ذات سلم حجاجي متعدد، لم تعد الصور الحجاجية فيها مجرد صورٍ بلاغية مجردة بل أصبحت مكونًا حجاجيًا ذا وظيفة إقناعيه حوارية، تحمل صورًا تأثيرية لدى المتلقي هدفها الإقناع والتأثير.