947926
947926
إشراقات

«التقتير» و«التبذير».. في موازين الشرع الحكيم

09 مارس 2017
09 مارس 2017

بين الكماليات والأساسيات -

هلال بن حسن اللواتي -

تارة أنت تفتح اليد كاملة وتريد أن تضع الماء فيها، وأخرى تقبض اليد وتريد أن تضع الماء فيها، ففي كلتا الحالتين لن تتمكن من الاستفادة بالماء لأنك لم تتمكن من وضع الماء في يدك، وأما لو وضعت أصابعك بنحو لا هي مضمومة ولا هي مفتوحة، فإنك سوف تتمكن من أخذ الماء في كفك. فكذلك التبذير والتقتير فإما أن تفتح يدك وإمكاناتك المادية بنحو لا يبقى لديك المال في وقت عوزك وحاجتك، وأخرى تقبض اليد بنحو لا يمكنك أن تسفيد بما لديك من الأموال، فكلتا الحالتين غير مقبولتين ولا ممدوحة. وتزداد الحاجة إلى الاقتصاد في البذل والصرف للأموال في زماننا الحاضر حيث تدهور الحالة الاقتصادية في العالم، فعلى الإنسان ان لا يصرف المال في الكماليات بل عليه أن يقتصر على الأساسيات ما أمكن.

حينما ننظر إلى الدين الإسلامي وتعالميه فينبغي عدم الغفلة عن أمرين مهمين .. الأمر الأول: أن الدين الإسلامي هو مشروع إنساني حضاري عالمي، بل ولن نعدو الحقيقية إن قلنا إنه مشروع وجودي كوني، ولما أن نقول أن «الإسلام» مشروع حضاري إنساني فإن هذا يعني أن جميع ما جاء به من المفاهيم بكل أنواعها، والأحكام بكل أشكالها هي مفردات في صراط تحقيق سعادة الإنسان المطلقة، وتحقيق جميع آماله.

والأمر الثاني: إن ما جاء به الإسلام بل وكل الكتب السماوية عين العقل، غاية ما في الأمر أن إدراك هذه الحقائق من قبل البشر يحتاج إلى التعرف على معادلاتها التي هي بقوة المعادلة الرياضية، وهذا يعني أن هذه المفاهيم والأحكام ليست إعتبارية، ولازم هذه المقولة أن كل ما جاء في الإسلام والديانات السماوية واقعية وذات حقائق وجودية.

وكل الوجود مخلوق على أحسن صورة، ونعني بهذا بأن الإنسان وسائر الكائنات قد صمم حين عملية خِلقته على تركيبة خاصة، وهذه التركيبة الوجودية كانت الأحسن في النظام الوجودي بأكمله، وقد قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ).

ولازمت عملية الخلقة مجموعة من اللوازم، فكان منها أن الإنسان محتاج إلى غذاء خاص بحيث يلبي «احتياجه الذاتي» الذي ما نشأ إلا من هذه العملية، فلا يمكن أن يملى عليه حكم بشكل عشوائي مزاجي، ولا يمكن أن تقبل طبيعة الإنسان الوجودية أحكاماً خارجاً عما عليه تركيبته الوجودية.

ومن هنا كان لازاماً النظر إلى ما ركبت عليه التركيبة الخَلقية للإنسان أولاً، ومن ثم انتزاع الأحكام التي تناسبها ثانياً، والعمل على صياغة هذه الأحكام لتصبح واضحة ومنتشرة للجميع ثالثاً. وهذا يعني أن ما ينبغي إعطاء الإنسان من الغذاء أن يمر بهذه المراحل الثلاثة، وإلا فإن كل ما سوف يقدم للإنسان سيكون سلبياً.

ومن أهم ما يقدم لنا الإسلام هو أنه نظر أولاً إلى الإحتياج الذاتي للإنسان وللخلوقات كافة، وبعد ذلك وضع الأحكام التي تتناسب مع هذا الاحتياج الذاتي، فأصبحت الأحكام والمفاهيم والمفردات موضوعة وفق ما عليه هذا الاحتياج وخرجت من كونها اعتبار محض يفرض على الإنسان بعيداً عن متطلباته الوجودية التكوينية.

فبناء على هذا المبنى المعرفي البرهاني نستطيع أن نشخص وبدقة ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به إزاء البذل والعطاء، وإزاء المسك والمنع، سواء كان هذا في صورته العينية أو كان في صورته النقدية أو كان في صورته المعنوية.

وقد راعى الإسلام في منظومته الإرشادية التعليمية «العدالة» وبصورة حفظت التوازن والاعتدال بين كل المكونات الوجودية التي تحيط بالإنسان من الكائنات الحية والجمادات، ولم تكن الدعوة إلى التحلي بالعدالة إلا لأنها هي الصمام الأمان لحفظ التوازن في نفس وذات الإنسان، وفي عالمه الإجتماعي، وفيما يحيط به من المنظومة الطبيعية في عالم الطبيعة.

ونظراً إلى أن الطبيعة الوجودية تنحو مثل هذا المنحى محققة لمفهوم النظام الأحسن فتظهر في أجمل صورها وفي أروع إيجابيها، فتؤتي ثمارها كل حين، فإن لازم الخروج عنها وعن منظومتها الأحسنية هو السلبية المحققة بلا أدنى شك ولا ارتياب. فعلى هذا ينبغي على الإنسان الانتباه في كل تصرفاته وفي كل سكناته وحركاته إلى هذه الحقيقة الواقعية التي لا يمكن الفرار منها.

وإذا أردنا أن ننظر إلى كل من هذه المفاهيم «التقدير في المعيشة»، «التبذير»، «التقتير»، «البخل»، «الجود» فإن الحال يفرض علينا أن ننظر إليها بلحاظين: اللحاظ الأول: بما هي حلقة مرتبطة بسلسلة وجودية، وهذا يدل على وجود علاقة تكوينية بين هذه المفاهيم وبين سائر الكائنات والمكونات الوجودية. واللحاظ الثاني: بما هي حالة إجتماعية فردية ينظر إليها وإلى آثارها الوضعية أو التشريعية أو القانونية. واللحاظان يفرضان على الإنسان نحو من التعامل ونحو من الرؤية الفكرية، وليس من الصواب التغاضي عن عنهما، فكما أن تلكم المفاهيم تملك التأثير على الفرد والمجتمع فإنها أيضاً تملك التاثير على المحيط الوجودي بشكل أو آخر.

ولعل أفضل تعبير عُبر في بيان العلاقة بين النص والواقع الوجودي هو ما ذكره السيد العلامة الطباطبائي في تفسيره وفي كتب أخرى والسيد محمد باقر الصدر في حلقات الأصول الدرسية إذ ذكر أن دور النص دور كاشفي للحقائق التي توجد وراءه.

فعلى هذا الأساس كان من المهم أن ننظر إلى حال الإنسان المتلبس بصفة ذميمة كالتبذير أو التقتير من عدة جهات وذلك لمعرفة التأثير السلبي الذي سيخلفه فعله السلبي هذا، والسعي على تغيير مثل هذا النمط السلوكي السلبي من جذوره، وعدم الاقتصار على التغيير السطحي أو الآني الذي هو في الحقيقي أقرب إلى المسكنات للألم.

إن الإسلام ينطلق في حركة الهداية للبشر بتغيير الإنسان من أعماق ذاته، فهو يرى أن علة التبذير والتقتير تكمن في ذات الإنسان، وهي تدور حول «القوة العقلية» ونوعية المعارف التي تحملها، وحول «القوة الشهوية» و»الغضبية» وكيفية توجيهها إلى المسار الصحيح بقيادة القوة العقلية، فما لم يعمل الإنسان على مثل هذه المحاور فإن تغيير النفس البشرية إلى الأحسن سيواجه الكثير من صعاب، ولن يصل إلى مستوى التغيير الحقيقي حسبما تتطلبه الاحتياجات الذاتية للإنسان وللموجودات.

فمفهوم الإسراف والتبذير وإن كان ينصرف حسب المتعارف إلى المال العيني والنقدي بالخصوص، إلا أن الرجوع إلى اللغة فإنه يمكن أن يشمل الترف الفكري.

ونبقى على ما هو متعارف عليه فنقول: إن أفضل ما ضرب لتقريب التبذير والتقتير هو ما ورد في الأثر الشريف في المضمون إذ تارة أنت تفتح اليد كاملة وتريد أن تضع الماء فيها، وأخرى تقبض اليد وتريد أن تضع الماء فيها، ففي كلتا الحالتين لن تتمكن من الاستفادة بالماء لأنك لم تتمكن من وضع الماء في يدك، وأما لو وضعت أصابعك بنحو لا هي مضمومة ولا هي مفتوحة، فإنك سوف تتمكن من أخذ الماء في كفك. فكذلك التبذير والتقتير فإما أن تفتح يدك وإمكاناتك المادية بنحو لا يبقى لديك المال في وقت عوزك وحاجتك، وأخرى تقبض اليد بنحو لا يمكنك أن تسفيد بما لديك من الأموال، فكلتا الحالتين غير مقبولتين ولا ممدوحة.

ومن الجميل ما ورد في الأثر الشريف فلنتأمل فيه:»من افتخر بالتبذير احتقر بالإفلاس».

ومع النظر إلى ما جاء في الاثر الشريف فإننا سنجد انفتاح باب آخر في تفسير معنى التبذير، وهو المعنى النوعي، وهي غير ناظر إلى الكم المادي من العيني والنقدي، فإليك ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (ولا تبذر تبذيرا) فقال: من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، ومن أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد»، فهذا التبذير النوعي أيضاً مذموم.

وهنا صورة أخرى للتبذير الكمي مع مصاحبته للتبذير النوعي، وهو التبذير في الحلال، وهو أن يبذل الرجال ماله في الحلال ولكن يوقعه هذا البذل الحلال في ضيق المعيشة ولربما إلى الإفلاس، ففي هذه حالة لا يكون هذا الصرف للمال ممدوحاً بل يكون مذموماً.

والاقتصاد في كل شئ مطلوب لأنه عين الاعتدال والوسطية والعدالة في النفس وبين القوى الأربع، فإن الاعتدال في المعارف التي يحتاجها العقل، والاعتدال في تهذيب النفس وعدم الخروج بها عن الاعتدال والوسطية والعدالة يوجب لزوما الاعتدال في خارج النفس والذات، فعندها سوف تنعكس هذه الوسطية والاعتدال في سلوكه مع الآخرين.

وقد ورد في الاثر: «حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة». وجاء أيضاً:»أدل شئ على غزارة العقل حسن التدبير».فعلى الإنسان أن يقدر جمال عقله الذي يتمتع به ولا يبتذل نفسه بالدخول إلى الرذائل والتي منها التبذير والتقتير، وأن يفرغ همته لأجل الوصول إلى الفضيلة التي كل عاقل يريدها، ويكون صاحبها محل الاحترام والتقدير، وقد رد في الأثر: «كن سمحاً ولا تكن مبذراً، وكن مقدراً ولا تكن مقتراً».

وتزداد الحاجة إلى الاقتصاد في البذل والصرف للأموال في زماننا الحاضر حيث تدهور الحالة الاقتصادية في العالم، فعلى الإنسان ان لا يصرف المال في الكماليات بل عليه أن يقتصر على الأساسيات ما أمكن، والفعل الأغرب المستهجن أن يسعى المرء وراء تغير الثوب والسيارة والهاتف والساعة والنعال والاكسسوارات والعبايات والمصر والكمة والستائر البيتية والمجلس وغرفة الجلوس والنوم.. إلخ على الصيحات للموديلات السوقية الجديدة، أو على اساس ما عمل مثل أو شبهه الصديق والصديقة والقريب والقريبة، فإن هذا العمل يستهجنه العقلاء والعقل، ولربما يصدق على من يقوم بمثل هذه الأفعال صفة «السفيه».