940448
940448
شرفات

«مصريانو» لكارمينيه كارتولانو.. الإيطالي التائه في القاهرة !

27 فبراير 2017
27 فبراير 2017

طارق إمام -

(1)

جمل مصري مبتسم، يلتهم المكرونة الإسباجيتي الإيطالية من طبق. الطبق يبدو بعيداً عن متناوله، لكن خيط مكرونة موصول من الطبق إلى فمه، كأنه ذاهب إليه في مكانه! خيط رفيع، يصل بين عالمين يصعب أن يلتقيا، لكنه قد ينجح!

تصوُّر أوَّل يحمله غلاف كتاب (مصريانو ـ يوميات مصور إيطالي) الصادر عن دار العين بالقاهرة، للمصور والمترجم الإيطالي كارمينيه كارتولانو، والمقيم بالقاهرة منذ العام 1999.

الغلاف (الذي أنجزته جيرمانا لويسي) هو تقويض مبدئي لأكليشيه الأوروبي الذي يكتب عن مصر، كما يعكس طبيعة كتاب لا يخلو من سخرية، حيث يرسم صورة عبثية، هي جزء من الواقع الذي يكشفه ذلك الكتاب ببساطة آسرة.

الجمل (كعلامة مبذولة) لا يختلف كثيرا عن «الاسباجيتي»، فإذا كان المصريون ليسوا شعباً يركب الجمال، فالإيطاليون أيضا ليسوا كائنات تعيش فقط لتصنع المكرونة وتأكلها! «كارمينيه» يعاني طوال الوقت من أن اسمه لا يُنطق بشكل صحيح، لكنه يعاني أيضاً من حقيقة موجعة: أن كلمتي «مكرونة» و«مافيا» اللتين يطلقها أي مصري في وجهه عندما يعرف أنه إيطالي، ليس لهما وجود في اللغة الإيطالية من الأساس، «للأسف الشديد ما فيش حاجة اسمها مكرونة عندنا. إحنا نسميها pasta. ومافيش حاجة اسمها مافيا: إحنا نسميها حكومة!»

«مصريانو».. المنسوب هنا، وفق هذا الصك المبتكر، يتألب على القاعدة اللغوية العربية للنسب المكاني، فلا يغدو «مصرياً»، بل يستعير نسبه من القاعدة الإيطالية، بحيث يصبح «مصريانو» على غرار «إيتاليانو». طريقة أخرى مبتكرة للوصل بين عالمين تنجم عنها أبجدية ثالثة، تنتمي لكلاهما لكن تبقى مستقلة، هل رغب الكتاب في تأكيد شيء من هذا القبيل؟

(2)

أول ما يثير الانتباه في هذه اليوميات هو القبض الرهيف على السخرية، سخرية المصريين بكل توابلها، بقاموسها، ببنيتها السردية وبـ«نحوها» لو جاز التعبير، وبعمقها الثقافي الوجداني، وبشفراتها. من الواضح أن كارتولانو هضم جيداً بنية المفارقة في اللهجة، واستوعب ما تنطوي عليه من إمكانات، وقدرات إيحائية (وهذا مهم جداً)، حيث تكون المفارقة دائماً أقوى بما توحي به وليس بما يفصح عنه مستواها السطحي، وهذا ما يمنح حتى «النكتة» قوتها. استطاع كارمينيه، وأرجو ألا أخطئ في اسمه أنا الآخر، توليد مفارقات لا نهاية لها من خلال المواقف العابرة الكثيرة التي تشكل «دراما» هذا الكتاب إن جاز لي التعبير.

أتحدث هنا عن عنصرين في الحقيقة: الأول هو المشاركة في صنع المفارقة على مستوى الخبرة المعاشة، (خاصة وأننا أمام يوميات، قادمة مباشرة من الواقع)، فكارمينيه لا ينصت فقط أو يتفرج، لكنه يشارك في صنع المفارقة (في خصام واضح لصورة الخواجة التقليدي، المراقب والمحلل). العنصر الثاني، والمهم، هو القدرة على نقل نبض هذه المفارقات لدى التدوين، بحيث لا تفقد حرارتها وقوامها وقدرتها على الاحتفاظ بسخريتها، وهنا بالتحديد يظهر المحك الرئيسي في الكتابة التي تتكئ على السخرية.

اختار «كارمينيه» الانطلاق من الواقع اليومي، عبر سيل أشخاص «عاديين» ليس بينهم واحد من النخبة المثقفة. وترك العنان لألسنتهم ولسانه، في حواريات تشكل النسق الرئيسي للكتاب، وهو لا يتدخل في المشهد (لا يتسلط عليه بمعنى أصح) بالتعليق أو التحليل أو الوصف إلا قليلاً. الكلام هنا هو البطل المطلق.

لقد قرر كارتولانو ألا يقصر العامية المصرية على الحوار، لكنها شملت السرد بأكمله. اختيار مثير، ينحاز للغة الكلام في التدوين، ويمحي المسافة بين خطاب الوعي المتعالي وخطاب اللسان العفوي.

ينطلق الكتاب من مشهد «للخواجة» وهو يحاول العثور على تاكسي ينقله إلى التحرير. قد تطل الثورة برأسها من نافذة سائق، لكنها ما تلبث أن تختفي. مجاز عميق لواقع ثورة تحاول التشبث بزخمها.

«أنا: ميدان التحرير؟ /‏ سواق التاكسي: قبل ولا بعد ثورة 25 يناير؟./‏ أنا: لا دلوقتي. سواق التاكسي: جدع!. /‏ أنا: هتوصلني ولا لأ؟./‏ سواق التاكسي: معلهش رايح الهرم. أنا: غور بقى!».

مقطع دال، تتجاوز دلالته العميقة بنيته السطحية. على هذا النسق تتحقق كافة مشاهد اليوميات، بحيث تحضر دائماً التورية.

ثلاث محاولات فاشلة لاستقلال تاكسي، تحفل بالجدل العقيم المتعارف عليه مع سائقي تاكسي القاهرة، لكنها تسفر عن حكمة أولى في الكتاب: «في مصر سواق التاكسي بيختار الزبون.. مش الزبون اللي بيختار التاكسي».

المحاولة الرابعة تنجح، وينطلق معها مونولوج عبثي للسائق، ينتهي بأن يطلب من «الخواجة» تدبير عمل له في إيطاليا أو العثور على زوجة إيطالية له تسهل له السفر!

بعد متتالية «تاكسي القاهرة»، تنطلق متتاليات أخرى، أبطالها أصدقاء أو معارف مصريين، تتعمق من خلالها مفارقات تميت من الضحك، رغم أنها تعكس بعض الملامح التي توطنت في الشخصية المصرية، وأبرزها، بالطبع، «الفهلوة».

«الفهلوة» تسم أكثر من شخصية، بدءا من «سعيد» طالب اللغة الإيطالية الفاشل، الذي يمكن أن يدعي أن زوجته ماتت لكي لا يحضر الامتحان، ومروراً بـ«الحاج جابر» الذي يأتي «حسب مزاجه» لتنظيف السلم، ويحاول انتزاع أي «فلوس» من «الخواجة» من خلال حوارات طويلة العبارة البطل فيها «كل سنة وحضرتك طيب!». هناك أيضاً «كابتن زيزو» «متخصص المساج» الذي يدعي أنه يعمل مع المنتخب القومي لكرة القدم، وهو بالطبع ليس كذلك.

سنتعرف أيضاً على «عمر كازانوفا»، الذي يعمل بالسياحة رغم أنه لا يجيد أي لغة، وهو شخصية محورية في هذا الكتاب، ما تكاد تختفي إلا لتظهر من جديد، (في 6 مقاطع). يبدو «عمر» أقرب لـ«صديق البطل» كما نراه في السينما المصرية، طيب وغلبان، فهلوي وحضوره دائماً كوميدي، لكن يمكن أن يورط صديقه في مواقف لا تصدق. عمر شخصية روائية بكل تناقضته ودراما حياته الهزلية. يعشق الفتيات الأجانب، ولا يجيد التواصل معهن، ويصل به العبث حد أنه يستخدم للتواصل مع واحدة إيطالية قاموسين، أحدهما «عربي/‏ إيطالي» له، والآخر «إيطالي/‏ عربي» لها، ليستطيعا التحدث معاً!

الغرابة متحققة دائماً، غرابة قادمة من أشد المواقف مألوفية، لكنها تحت مجهر السرد تغدو قادرة على الإدهاش، على إعادة تعريف الظاهرة وتفجير ما تنطوي عليه من تناقض أصبح لفرط مألوفيته أقرب للمتعارف عليه. يلتقط كارتولانو مثلاً طريقة المصريين عندما يصر أكثر من شخص على أن يتولى «دفع الحساب» نيابة عن الآخرين. «الشهامة المصرية = طريقة دفع الحساب المنتشرة جداً في مصر والمكونة من خناقة كبيرة وساعات توصل للضرب بينك وبين اللي قاعد معاك علشان يدفع حساب القهوة أو الغدا أو العشا ليك».

كذلك، يمكن أن ترسم، بخبطات فرشاة سريعة، صورة لفتاة مصرية محجبة، يراها كارمينيه فجأة بدون الحجاب. المفارقة هنا مركبة، فهي من ناحية تخبره أنها «لسه محجبة بس مش الخميس بالليل»، وهو بدوره يخبرها أن «النهاردة السبت»!

(3)

كيف يتعامل المصريون مع «الكلام؟». إنه سؤال ممتد داخل الكتاب. في كثير من الأحيان يستخدم الكلام لتوصيل معنى مختلف عن المعنى الظاهر، وأحياناً للتعبير عن معنى مناقض بالأساس للمعنى الظاهري. يندهش السارد من «الكليشيهات» الكلامية الكثيرة، التي غالبا ما تكون مفتقدة لسياقها الطبيعي، مثل «كل سنة وانت طيب» التي تقال دون مناسبة تستدعيها، لكن الهدف منها الحصول على «بقشيش» أو «إكرامية»، أو «واحشني» «حتى لو بعد نص دقيقة بعد ما اتعرفت على مصري هو هيقول لك وحشتني». هناك أيضاً المقدمات الطويلة في المكالمات التليفونية: «الأخوات البنات فودافون واتصالات وموبينيل عايشين على الكلام التافه اللي المصريين بيبادلو بعض به في بداية كل مكالمة هاتفية. معظم الوقت المكالمة مالهاش هدف أو فايدة أصلاً».

ثمة حضور لافت دائماً لكلام يتناقض مع السلوك، مثلما حدث مع سائق التاكسي: «خلي يا باشا، قال لي/‏ لا.. لا! ما يصحش!/‏أبداً يا بيه، خليها عليا المرة دي»/‏ لا.. لا.. الشغل شغل»/‏ «مش قليل عشرة جنيه؟ الزحمة والقرف ده كله بعشرة جنيه؟»/‏ مش قلت لي خلي؟؟!/‏ .. وانت صدقت؟».

هذا الالتقاط الدائب لمفارقات في الحقيقة يومية، يتأمله «كارتولانو» طارحاً سؤالاً بريئاً عن الكلام، الذي تحول في الحقيقة لمجموعة شفرات في المجتمع المصري.. فلا يكفي أن تعرف معناه «المعجمي»، لكن لابد من الوقوف على دلالاته الاصطلاحية إن أردت أن تعيش.

في المحصلة، هناك «أبجدية الخواجات» و»أبجدية المصريين»، فصلان نهائيان يجمعان أبرز المفردات التي تستخدم من «الفريقين»، بشكل غير مثالي غالباً ولا يمكن أن يخلو من هزلية. هناك، بالطبع، سوء التفاهم الذي قد يحول حواراً عابراً مع «جرسون» إلى فصل في كتاب صراع الحضارات!.. حيث لا يلتقي القاموسان إلا لتأكيد هوة يصعب تجسيرها، وحيث «سوء التفاهم» بالمنطق الوجودي عنصر أصيل في أي حوار بين ثقافتين.