ahmed-al-f
ahmed-al-f
أعمدة

نوافـذ :مدين يبتلع «ورقة» دائنه

24 فبراير 2017
24 فبراير 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

لا تزال مقولة: «الدين هم بالليل، وذل بالنهار» يتردد صداها بين جنبات كل من اكتوى بهذا الـ«دين» وذاق مرارة طعمه، وغصة لقمته، وهناك القليل القليل الذين لم يحل هذا الضيف – غير المرضي عنه – عتبات ديارهم، حيث نأوا بأنفسهم عن شره ومآسيه، عن همومه ومذلته، وهو في كل الأحوال صورة من الصور الاجتماعية التي تتداخل فيها المعطيات الاجتماعية على وجه الخصوص، ولذلك فكم من الناس تنازلوا عن كرامتهم، وباعوا شرفهم لكي يخرجوا أنفسهم من ضوائق الدين وهوانه، وكم من الناس الذين دفعوا من أعمارهم الكثير «ثمنا» غاليا لكي يحرروا رقابهم ويعتقوها من هذا المارد المتسيد على طول المشهد الإنساني منذ البدايات الأولى لعمر الإنسانية، كما يبدو، وإلى زمن ممتد، ويبقى في حكم المستحيل التخلص من صوره بأي شكل من الأشكال؛ كحالة عامة؛ أما عند القياس على أشخاص بعينهم، فذلك ليس مستحيلا، وهناك أناس كثيرون حصنوا أنفسهم من الوقوع في مطبات الديون، فعاشوا سعداء، كرماء، وإن عاشوا على الكفاف، المهم أنهم أراحوا أذهانهم، وأجسادهم، وأعراضهم، وكرامتهم حتى آخر أعماهم في هذه الحياة.

وللأهمية التي يحتلها الـ«دين» في حياة الناس، فقد خصص الله سبحانه وتعالى آية بأكملها، وهي أكبر آية في كتاب الله في آخر سورة البقرة، هذا بخلاف الهدي النبوي المتعلق به، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان عندما يُحضر إليه ميتا للصلاة عليه كان يسأل إن كان هذا الميت مدينا، فإن قيل له إن عليه دينا فإنه يأمر أصحابه رضوان الله عليهم بالصلاة عليه، كما أن في سيرته صلى الله عليه وسلم الحث الدائم على إعفاء المعسرين من قبل الدائنين، لما في ذلك من الأجر العظيم، وفي سيرة صحابته من بعده، وعلى امتداد التاريخ الإسلامي الكثير من المواقف التي سجلتها الكتب التي امتثل فيها كثير من الناس في هذا الشأن فنالوا أجري الدنيا، وإن شاء الله الآخرة أيضا.

وفي واقعنا المحلي الكثير من القصص والمواقف في هذا الجانب، ولا تزال المحاكم تزخر بقضايا المدينين، على ما أتصور، انعكاسا لما نسمعه، وما نشاهده أحيانا، وأشد ما لفت نظري في مسائل التقاضي على الـ«دين» هو أن أحد الإخوة الولاة ذكر لي بالحرف الواحد أنه حضر عنده متخاصمان دائن يريد ماله، ومدين يماطل في سداد الدين، وقبيل الدخول على سعادة الوالي جلس الاثنان في قاعة الانتظار، فما كان من المدين إلا أن طلب ورقة إثبات الدين من الدائن؛ للتأكد من التاريخ، فسلمه إياها بحسن نية، فما كان من المدين إلا أن طوى الورقة بصورة سريعة ووضعها داخل فمه، وفي غمضة عين مضغها وابتلعها، والدائن في حال ذهول من الموقف، وعندما دخلا إلى الوالي طلب الدائن بإثبات دينه، فأخبره بالقصة، وعندما سأل المدين عن ذلك أنكر الدين بكامله، فوقف الوالي حائرا بينهما، وعاد الدائن بـ«خفي حنين» كما يقال، وهناك مواقف أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها، وكلها تنبئ عن ارتباك العلاقة بين الدائن والمدين بصورة دائمة، على الرغم من أن بدايات العلاقة بينهما مبنية على الصداقة والأخوّة، ولكن تنقلب هذه العلاقة فيما بعد الى خصومة وقد تصل إلى مستوى العداوة.

وسيظل الدين ماردا مهيبا مخيفا ترتعد الفرائص من أثره، وكل من نجاه الله منه، عليه أن يحمد الله ليل نهار، لأنه بالفعل «هم بالليل؛ وذل بالنهار» نجاكم الله منه.