936890
936890
إشراقات

الكتـــــــــــــــــاب - مكانته في حياة المسلم.. وتأثيره في تهذيب السلوك

23 فبراير 2017
23 فبراير 2017

القراءة.. طريق إلى التقدم والحضارة -

محمد عبدالرحيم الزيني -

أستاذ الفلسفة ــ كلية العلوم الشرعية -

من المسلمات العقلية أن القراءة أصبحت ملمحا من ملامح عبقرية الأمم، وهي مفتاح شخصيتها ودلالة على رقيها، بها تتوسل إلى الاكتشافات العلمية، وتبتكر الأجهزة التي تعمل على نهضة الحياة وتوفير الجهد والوقت وجلب الثراء والمتعة والسعادة إلى الإنسان، وسبيل إلى الرقي والتقدم، وطريق موصل إلى المدنية المعاصرة، ويعد توزيع الكتاب وسعة انتشاره مؤشرًا صادقًا للصحوة الثقافية عند أي شعب من الشعوب، فمن المهم بمكان لفت الأنظار إلى دور كافة المؤسسات التعليمية، المدارس والمعاهد والجامعات، والقائمين عليها في تحبيب القراءة لهذا الجيل الصاعد، وغرس حب القراءة والشغف بها وتدريبهم على «فضيلة القراءة» «وثقافة الاطلاع»، بعد أن صرفته الوسائل الحديثة نعني وسائل التواصل الاجتماعي عن القراءة وأصبحت تسرق وقته فيما لا يفيد ويهدر عمره فيما لا طائل وراءه.

تستضيف السلطنة كل عام «معرض مسقط الدولي للكتاب»، وبهذه المناسبة الطيبة وقيام هذا العرس الثقافي والتظاهرة المعرفية الفكرية، نود أن نتحدث عن أهمية زيارة المعرض والاطلاع على آخر الإصدارات وأهم الكتب التي صدرت في الدول العربية وأكثرها انتشارًا واستحواذًا على اهتمام القراء ومحبي الاطلاع والمعرفة. لا سيما وأن هذا المعرض الحافل يشارك فيه معظم دور النشر العربية من الشرق والمغرب، وفي مبناه الجديد الذي يتسع لكافة دور العرض المحلية والعربية.

وغني عن البيان أن نشير إلى أهمية الكتاب في تاريخ الحضارة الإنسانية، ودوره في ارتقاء سلوك الإنسان وترسيخ المفاهيم الدينية الإيجابية في النفوس والعقول، والقيم الأخلاقية التي قصد بثها في الضمائر، وتعديل السلوكيات المعوجة. وقد حمل الرسل هذه المهمة المعرفية والاستنارة الفكرية، والتوجيه الديني والتعليمي، وبذلوا جهودًا مضنية في محو الأفكار الوثنية والتصورات الغليظة عن الألوهية وإعلان كلمة التوحيد وإخلاص العبودية لله. وأعلن القرآن في أول خطاب سماوي إلى الأرض، وأول أمر إلى رسوله الكريم قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)؛ وهذا الأمر الإلهي له دلالة عميقة ومغزى تستكشف الأجيال في كل عصر ومصر أهميته ومعناه وأبعاده.

ومن المعلوم أن المقصود ليس القراءة بمعناها المعهود فقط، أي مجرد تناول كتاب ما ثم تجري العين على سطوره وتفهم معطياته وأغراضه؛ ولكن المقصود من القراءة هنا قراءة في النفس الإنسانية واستكشاف أغوارها؛ ظاهرها وباطنها، مقاصدها ودوافعها وانفعالاتها، وتقويمها وتهذيب سلوكياتها، وقيادتها إلى طريق الحق والخير والعدل والاهتداء بمشاعل الدين وأنوار القرآن وإرشاد الأنبياء. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

وقراءة في الكون الفسيح والنظر في مخلوقاته دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، والتأمل في الإبداع الذي يسري فيها، والسنن التي تتحكم في عناصرها، والنظام الدقيق الذي يلفها، وتوافق الموجودات مع بعضها وانسجامها مع الإنسان.أضف إلى ذلك الإحساس الكامل بأن هناك خالق قادر مبدع، هو الذي أبدع هذه الموجودات من العدم وخلقها ونسقها على هذا النحو المبدع بقوله: كن فيكون. (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

وقراءة في مصير الأمم السابقة، الذين لبوا نداء الرب وانصاعوا لأوامره واستوعبوا مضمون دعوة الرسل فنجوا من الغضب الإلهي والعذاب الأبدي، وفازوا بالدنيا والآخرة، أما الذين تجافوا عن التعاليم الدينية وعاندوا الأنبياء وطرحوا تعاليمهم فكان مصيرهم الفشل والفساد والهلاك والدمار.

وقد كانت الحضارة الإسلامية سباقة إلى الاهتمام بالعلم بمفهومه الشامل وكان الكتاب هو أداة التسجيل، لذلك اهتمت بالكتاب من حيث كتابته ونسخه وتسجيل ما جادت به قرائح العلماء وحفظ التراث الإسلامي في كافة العلوم، بداية من القرآن الكريم وانتهاء بعلوم الفلسفة والمنطق مرورًا بأصول الفقه والمذاهب الفقهية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب علم الكلام والتصوف الإسلامي، وكان الاهتمام الشديد بنسخ هذه الكتب الموسوعية اهتمامًا واسعًا، وأنشأت الدولة الإسلامية دواوين لنسخ الكتب الإسلامية وترجمة العلوم اليونانية، مع تخصص كثير من العلماء لهذه المهنة، وأشار أبو حيان التوحيدي (403 هـ) أنه نسخ عشرات الكتب بأمر من الصاحب بن عباد (385 هـ) وظهرت مهنة الوراقين الذين يبيعون الكتب لمن يرغب وكانت ضمن المهن التي اشتغل بها بعض أفراد المجتمع، وذكر الجاحظ (255 هـ)أنه كان شغوفا بالقراءة والاطلاع فكان يقرأ كل ما تقع عليه عينه من علوم حتى أنه من شغفه كان يذهب إلى دكاكين الوراقين ويسهر للقراءة فيها.

ولإدراك خلفاء المسلمين أهمية الكتب والاطلاع على علوم الحضارات المجاورة، طلبوا ترجمة هذه الكتب. ولذلك أسس هارون الرشيد دار الحكمة في بغداد وكانت تضم آلاف الكتب والمخطوطات والرسائل في كافة العلوم الإسلامية آنذاك وقام ابنه المأمون بإضافات معتبرة عن طريق ترجمة علوم الأوائل واستجلاب المخطوطات من الدول المجاورة، بغرض توسيع دائرة المعرفة، وفتح آفاق القراءة والدراسة والبحث والاطلاع، وكذلك دار الحكمة بالقاهرة التي أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمي. ولم يتأخر خلفاء الأمويين في الأندلس عن هذا النهج المضيء والاستنارة الفكرية، فأسسوا المكتبات العامة وزودوها بآلاف من الكتب حيث كانوا يرسلون علمائهم لشرائها من المشرق أو نسخها، وكانت مكتباتهم تمثل مراكز الإشعاع التي سطعت أنوارها على أوربة وساعدت في نهضتها.

ولا جرم أن نقتدي بهذا الدور الرائد للحضارة الإسلامية، ونعيد أمجادها وأنوارها وانفتاحها على فكر الآخر، وندرك أهمية القراءة ومردوها الديني والمعرفي والأخلاقي والتربوي علينا جميعا، فإذا كان العمر يقاس بالسنين فإن القراءة تؤدي إلى توسيع الأفاق وفتح أبواب المعرفة المتعددة، والإطلال على عوالم مختلفة من المذاهب الدينية والفرق الكلامية والطرق الصوفية والمذاهب السياسية والفلسفية والاجتماعية، وتعطينا أكثر من حياة بل حيوات، ليس هذا فحسب بل تضيف إلى أعمارنا أعمارًا متطاولة، وسفرًا في العصور ماضيها وحاضرها، ورحلة لا تنتهي خطواتها إلا بانتهاء العمر القصير، ناهيك أن القارئ يجالس الأنبياء والعلماء والحكماء والأدباء والشعراء الذين لم يراهم، بل إن القراءة تجعلنا معاصرين لهم، فنقرأ أفكارهم ونجلس بين أيديهم نسمع عظاتهم وحكمهم وندرس نثرهم وشعرهم وأمثالهم؛ فنحن حينما نقرأ سيرة الرسول الكريم ونطالع رحلته في الحياة فكأنما عايشناه ورأينا كفاحه لنشر الإسلام ودعوته السمحة للمشركين أن يلحقوا بالقافلة قبل فوات الأوان، وكذلك سمعنا حديثه وأوامره ونواهيه وشاهدنا صحابته وهم يلتفون حوله في يقين وإخلاص وفداء، وقس على ذلك حينما نقرأ لباقي النجوم الزاهرة التي سطعت في سماء الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى.

ومن المسلمات العقلية أن القراءة أصبحت ملمحًا من ملامح عبقرية الأمم، وهي مفتاح شخصيتها ودلالة على رقيها، بها تتوسل إلى الاكتشافات العلمية، وتبتكر الأجهزة التي تعمل على نهضة الحياة وتوفير الجهد والوقت وجلب الثراء والمتعة والسعادة إلى الإنسان، وسبيل إلى الرقي والتقدم، وطريق موصل إلى المدنية المعاصرة، ويعد توزيع الكتاب وسعة انتشاره مؤشرا صادقا للصحوة الثقافية عند أي شعب من الشعوب، وتعبيرا عن فضيلة القراءة وعمق نظرات الجمهور وسعة أفقه، ولذلك تحرص الدول الأوربية على توزيع كتب علمائها على أوسع نطاق ثم تهتم بترجمته، والإعلان عنه وتسويقه. ولو قارنا بين عدد الكتب التي تطبع على مستوى الوطن العربي ودولة أوربية واحدة نجد أن الميزان يكون في صف الأوربيين، ويكفي أن نعلم أن أفضل كتاب لأشهر مؤلف عربي لا يزيد توزيعه عن أكثر من خمسة آلاف نسخة، في حين أن الكتاب الواحد في أوروبا وأمريكا يوزع بالملايين مهما كانت رداءة أفكاره وضحالة مضمونه، وضآلة أغراضه.

وموجز القول إن القراءة هي الحياة الحقيقية والثمرة الناضجة التي نستطيع أن نقطفها من شجرة الحياة في هذه الرحلة القصيرة، بعيدًا عن لهو العابثين، وثرثرة الجاهلين الذين يصدعون رؤوسنا، ويقولون كل شيء ولا يقولون شيئا .

إننا نهيب بأبنائنا الطلاب ومحبي القراءة والاطلاع أن ينتهزوا فرصة إقامة معرض مسقط الدولي للكتاب، لإنشاء مكتبات صغيرة خاصة بهم، فهذه سنة إسلامية محمودة «وخير جليس في الزمان كتاب» وقال أحد أدباء العربية: «إن الكتاب أنبل جليس، وآنس أنيس، وأصدق صديق، وأحفظ رفيق، وأكرم مصاحب، وأفصح مخاطب، وأبلغ ناطق، وأكتم وامق (محب)، يورد إليك، ولا يصدر عنك، ويحكي لك، ولا يحكي عنك». وأغلب بيوت آبائنا وأجدانا كانت عامرة بهذه الكتب لاسيما الكتب الدينية، ولكن بعد هذا الانفجار المعرفي وانفتاح النوافذ أمامنا أصبح على المثقف ألا ينغلق داخل شرنقته وينطوي على ذاته بل عليه أن يطل على العالم الخارجي، ويقرأ للكتاب الأجانب في كافة فروع المعرفة أو ما يروق له وما يتفق مع ميوله ودوافعه، سواء أكانت روايات أو كتب اجتماعية أو سياسية حتى يعرف كيف يفكر الآخر فينا ونظرته إلينا وتصوره عنا، وفي الوقت نفسه يكون وجهة نظر علمية عن الآخر.

من المهم بمكان لفت الأنظار إلى دور كافة المؤسسات التعليمية، المدارس والمعاهد والجامعات، والقائمين عليها في تحبيب القراءة لهذا الجيل الصاعد، وغرس حب القراءة والشغف بها وتدريبهم على «فضيلة القراءة» «وثقافة الاطلاع»، بعد أن صرفته الوسائل الحديثة نعني وسائل التواصل الاجتماعي عن القراءة وأصبحت تسرق وقته فيما لا يفيد، ويهدر عمره فيما لا طائل وراءه.

ويجب أن يعلم الجيل المعاصر أنه محظوظ بعد أن أتيحت له سبل المعرفة، وتيسر له سهولة الحصول على الكتاب، وأصبح ميسورا لاقتناء أي كتاب من الكتب. ونأمل أن تنشط النوادي الثقافية المنتشرة في السلطنة في نشر الفكر النافع والأدب الهادف. مع بث حب القراءة والنهم إلى المعرفة في نفوس الشباب وتشجيعهم في هذا الاتجاه، وعقد الندوات الثقافية التي تنمي ملكات الشباب وتكتشف مواهبهم وتصقل تجاربهم وتساعد في تطوير إنتاجهم، وفي الوقت نفسه تطرح هموم الشباب وآمالهم وطموحاتهم نحو الغد الباسم وتعالجها بشفافية وصراحة مع وضع الحلول لها.

ونأمل أن يصدر في السلطنة سلسلة شهرية للكتاب وأخرى للرواية، مع التأسيس لمجلات فكرية ودينية وعلمية، والحمد لله فالكوادر الفكرية والدينية متوفرة، وجمهرة المثقفين العمانيين قادرون على الإقدام على ذلك. وأعتقد أن كافة الإمكانات متاحة.

فالقراءة هي المدخل الحقيقي للتقدم وبناء الإنسان المعاصر لمواكبة كافة الأفكار والمذاهب التي يموج بها العالم المعاصر.

 

هل يقرأ أطفالنا؟

فوزي بن يونس بن حديد -

[email protected] -

بالقراءة والتمعن والاطلاع تأتي المفاهيم لتصنع الإنسان ولتقرأ معنى العلم في حياة المرء، وقد ركزت جميع الدراسات على الطفل باعتباره أنبوبة يستخرج منها المجتمع لبناته، فعملت على تنمية فكره من خلال غرس روح القراءة والمطالعة، وتحرص على تنبيه أولياء الأمور إلى الاهتمام بالأبناء منذ الصغر حتى يتربى وينمو مع الكتاب، ويحيا مع صفحاته في جميع المجالات، وتبقى العلاقة بينهما ما بقي هو في الحياة، لذلك أقترح أن تنشأ معارض خاصة بالأطفال لا يرتادها الكبار، وتخصص لهم جلسات ثقافية وندوات ومناقشات على كافة المستويات.

عندما نزل الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمره بالبناء الفكري حينما قال له جبريل عليه السلام «اقرأ»، فهي لا تعني القراءة السطحية التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل تعني الاطلاع على كل جديد في مجالات الحياة المختلفة والبحث والتنقيب على كل ما يفيد الأمة من قريب أو من بعيد، ولا يتحجر الإنسان في اتجاه فكري واحد بدعاوى مضلّلة أو فتاوى معلّلة ويبقى في جحره دون أن تتوسع معارفه وعلومه وتنمو أخلاقه وفق الحقيقة المعرفية، والإسلام لا يريد لأتباعه أن يتصدروا المشهد الإنساني دون أن تكون لهم قواعد معرفيّة وهو لا يمنع من الاستفادة من الآخر ولو كان غير مسلم، فلقد أثبت التاريخ أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع غير المسلمين في مجالات حياتية مختلفة لتثقيف المسلمين ببعض العلوم التي يجهلونها بل إنه حث المسلمين أنفسهم على التعلّم والعلم والمعرفة وبيّن لهم أن الإسلام دين عالمي يدعو أتباعه بكافة أجناسهم وألوانهم وأعراقهم ومذاهبهم أن يتسلحوا بالعلم؛ لأن الدعوة للعلم دعوة ربانية تتجلى حقيقتها في هذه الكلمة الموجزة «اقرأ».

والكل يعلم أن العلم يكون بالتعلّم فهو ليس وحيا يوحى من السماء، بل لا بد من ثني الرُّكب والجلوس بين يدي العلماء، والأهم من ذلك التنقيب في الكتب التي ورثها العلماء والمحققون والمتخصصون، فبينما تعب الأوّلون وشقوا في تأليف الكتب والإصدارات والمجلدات لعدم توفر الأدوات الأساسية التي تعينهم على الكتابة والنسخ يجد الناس اليوم أنفسهم أمام مسرح من الكتب الورقية والإلكترونية الكثيرة والمنتشرة والمختلفة والمتنوعة في جميع الفنون والاتجاهات والتخصّصات، تنتظر من ينفض عنها الغبار ويتصفحها وينتفع بها، فالكتاب صار اليوم لصيقا بالإنسان والإنسان يرفضه ويتعلّل بعدم وجود الوقت الكافي للتصفح أو أنه يتمادى في إيجاد المبررات ليتخلص من شيء اسمه الكتاب.

وبينما أيضًا برع الأوّلون في شتى العلوم وفنونها وفي تأليف الكتب بجميع أنواعها تقاعس الشباب عن تصفّح كتاب ولم يعد يهوى قراءة الكتب، ولم تعد القراءة تغويه كما كانت تفعل من قبل، بل قلّت رغبته في الانكباب على أي كتاب يمكن أن يعينه على هموم الحياة مهما كان محتواه، فالكاتب قديما تعب وكابد وجاهد من أجل أن يرث العلم من آبائه وأجداده الذين هم أيضا كانوا قد قاموا بواجبهم العلمي، غير أن عصرنا اليوم نشهد فجوة علمية قد حدثت وسببت الكثير من المشاكل في عالمنا العربي والإسلامي الذي كتب تاريخه من قبل، وأخذ عنه الغرب جواهره في وقت كان أبناؤه يلهون ويلعبون، وعندما لم يعد العربي يقرأ، تأخّر كثيرًا عن الركب وصار يبحث عن الفتات في وقت كان هو الذي يتصدر المشهد الثقافي.

وعندما نقرأ المشهد الثقافي في عالمنا اليوم نجد أنه يتسم بالبؤس والشقاء الفكري، ذلك لأنه لم يعد يمنح الكتاب مكانته العالية ولم يعد يحنّ للكتاب بل شغلته أدوات أخرى عن القراءة والكتابة أنتجت جيلاً لا يقرأ بل يضيع وقته في اللهو واللعب عبر ذبذبات إلكترونية، وترك متعة التعامل مع الكتاب الذي -وإن فقد شيئا من بريقه- إلا أنه لا يزال صامدا في وجه الاستعمار الإلكتروني، نعم إنه لم يمت ولن يموت لأن الثقافة عنوان الحضارة ولأن الكتاب خالد ما بقي إنسان على وجه الأرض، فالقرآن الكريم سمّاه الله عز وجل كتابا عندما قال سبحانه وتعالى: «ذلك الكتاب لا ريب فيه» وقوله تعالى: «كتاب أنزلناه» وقوله: «كتاب فصلت آياته من لدن حكيم خبير» فالكتاب كتاب بغض الطرف عما يحتويه وعلى الإنسان أن يحترم ما فيه لأن صاحبه بذل جهدًا كبيرًا في تأليفه، فإن أصاب فله أجران وإن لم يصب فله أجر واحد.

ومع هذا التقهقر في علاقة الإنسان بالكتاب جاءت ما يسمى بمعارض الكتاب لتعيد للكتاب ألقه ولمحتواه بريقه، ولتسترجع الحنين والمتعة التي كادت أن تضيع بين الرفوف والأمتعة رغم الإقبال الضعيف على بعض هذه المعارض في بعض الدول أو الاهتمام بجانب واحد من جوانب الحياة دون الاطلاع على الجوانب الأخرى، هذه الأزمة خلقت فجوة بين الكتاب والقارئ، ولم نعد نسمع بالقارئ النهم الذي ينكبّ على الكتب جميعها بكافة فروعها إلا قليلا في زمن تكاثرت فيه أنواع وأشكال الترفيه وعلى أعلى المستويات، ولم يعد الكتاب في نظرهم وسيلة متعة بقدر ما هو معيق عن إحداث نشوة في النفس ولذّة في الروح، ويبدو أن الكتاب في نظرهم فقد سحره وتأثيره على فكر القارئ.

ومهما يكن من أمر فإن الكتاب وإن تعرّض للقرصنة من قِبلِ من يفكرون في إقصائه عن الساحة واستبداله بأدوات الترفيه الأخرى سيبقى الكتاب دوما النور الذي يشع في فكر الإنسان لا ينطفئ إلا بموته، والوميض الذي يتعدى برقُه صاحبه ليستضيء به الآخرون ويضيء الدروب للآخرين، ويبقى الكتاب في صدارة المشهد الثقافي مهما تشبثت به خيوط العنكبوت، فنفخة واحدة تمسح عنه الغبار ويرجع إلى ما كان عليه، ولذلك كان التعلم وسيلة من وسائل قهر الجهل والتخلف والأمية التي عمت مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وعندما تقرأ إحصائيات الأميين في عالمينا العربي والإسلامي تطلع على نتائج ينده لها الجبين فعلاً وتصيب الإنسان بالصدمة فكيف يوجد عربي لا يقرأ ولا يكتب، وهو الذي نزل بين يديه القرآن، كتاب الله عز وجل.

ولهذا ما نجحت المجتمعات الأخرى إلا بعد أن فقهت معنى الكتاب وقدرته على بناء الإنسان فكريا وعلميا، فبالقراءة والتمعن والاطلاع تأتي المفاهيم لتصنع الإنسان ولتقرأ معنى العلم في حياة المرء، وقد ركزت جميع الدراسات على الطفل باعتباره أنبوبة يستخرج منها المجتمع لبناته، فعملت على تنمية فكره من خلال غرس روح القراءة والمطالعة، وتحرص على تنبيه أولياء الأمور إلى الاهتمام بالأبناء منذ الصغر حتى يتربى وينمو مع الكتاب ويحيا مع صفحاته في جميع المجالات، وتبقى العلاقة بينهما ما بقي هو في الحياة، لذلك أقترح أن تنشأ معارض خاصة بالأطفال لا يرتادها الكبار، وتخصص لهم جلسات ثقافية وندوات ومناقشات على كافة المستويات، ليست بحجم المعارض التي تقام الآن ولكن بأحجام صغيرة أو متوسطة منها يفهم الطفل أن القراءة متعة لا مثيل لها وهو يرتع في جناحه بلا أب ولا أم ولا رقيب سوى ما تربى عليه من عادات.

بهذه الكيفية نصنع أجيالاً من القراء، جيلاً بعد جيل ينعم بأساليب القراءة ويتفنن في مخرجاتها، بل يصنع نفسه بنفسه، يعتمد على نفسه في الاختيار والشراء والاطلاع، يكتسب شخصيته منذ نعومة الأظفار، ويستقل بذاته القرائية التي تتيح له المجال أن يبرع في تخصص من التخصصات ويتعرف على جميع الثقافات، كم نحن فعلا بحاجة إلى مثل هذه الملتقيات الطفولية التي تعبر بحق عن وعي كامل بحقيقة العلم وتطبيقا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» وقول معاذ بن جبل: «َتعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، لأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَالأُنْسُ فِي الْوَحْدَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْعُزْلَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الأَخِلَّاءِ، وَالْقَرِيبُ عِنْدَ الْغُرَبَاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، وَهُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ، وَأَئِمَّةً فِي الْخَيْرِ تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَتُرْمَقُ أَعْمَالُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلائِكَةُ فِي خِلَّتِهِم، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَفِي صَلاتِهَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى حِيتَانِ الْبَحْرِ وَهَوَامِّهِ، وَسِبَاعِ الْبَرِّ وَأَنْعَامِهِ، وَالسَّمَاءِ وَنُجُومِهَا، لأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى، وَنُورُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ، يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ، وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالْفِكْرَةُ فِيهِ تُعْدَلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، وَبِهِ يُطَاعُ وَيُعْبَدُ، وَبِهِ يُعْمَلُ وَيُحْفَدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ وَيُؤْجَرُ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلالُ مِنَ الْحَرَامِ، إِمَامُ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ، قَالَ: تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ».

وبهذه الطريقة الإبداعية نستطيع أن نبني جيلاً من القراء يضعون بصمتهم في الحياة ولا يعترفون بالكسل سبيلا ولا بالعزوف عن الكتاب طريقا، كلنا يشتكي اليوم عزوف الناس عن القراءة في زمن لا نقرأ إلا قليلا أو في المناسبات، وفي زمن يتحرك كل شيء بزرّ من الأزرار التي كثرت اليوم وإن أفادت القارئ بالمعلومات إلا أنها أفقدته متعة التصفح وتقليب الصفحات، وطي الصفحة التي وصل عندها ليبدأ المسير بعد وقت غير طويل ويعيد الكرة عند التوقف كل مرة، بل يدون فيه تاريخ البداية وتاريخ النهاية معلنا أنه قد انتهى من هذا الكتاب أو ذاك، فينشأ الجيل على حب الكتاب ونكوّن مبدعين في جميع المجالات فبالمطالعة والاطلاع يحصل الإبداع.