أفكار وآراء

الانكسارات العربية من منظور مراكز الأبحاث الغربية

15 فبراير 2017
15 فبراير 2017

د.عبد العاطي محمد -

ما بين يناير 2011 ويناير 2017 جرت مياه كثيرة تحت الجسر في المنطقة العربية، ما بين ابتهاج وترحيب بما حملته رياح التغيير في البداية وإحباط ورفض لما آلت إليه النتائج وصولًا إلى مرحلة من الغموض المفعم بالقلق حول الحاضر والتوقعات السلبية للمستقبل. ومن الطبيعي بعد كل ما جرى أن تنشط همة المعنيين بالشأن العام خبراء كانوا أو مثقفين أو نشطاء أو سياسيين بحثًا عن أسباب الفشل وطرق الإنقاذ أو النجاح.   

ورغم أهمية انشغال الرأي العام بملاحقة الأحداث الساخنة والسريعة اليومية والتفاعل معها بحكم شدة تأثيرها المباشر على حياة المواطن العربي أيًّا كان وضعه وموقعه، إلا أن هذه الأحداث ما هي إلا العرض من المرض في حقيقة الأمر، والأخير هو مهمة الباحثين والمتخصصين والنخبة بوجه أعم. وفي هذا الإطار طرح مركز كارينجي للشرق الأوسط تقريرا عن حالة العالم العربي وذلك في فاعلية جرت ببيروت أوائل العام الجديد تحت عنوان «انكسارات عربية: المواطنون، والدول، وعقود اجتماعية».

وقد اختار القائمون على هذا المشروع البحثي تعبيرًا مخففًا لوصف المشهد الراهن بكل ما فيه من وهن غير مسبوق، هو الانكسار بدلا من الفشل بوصفه التعبير الصادم عن حقيقة ما آلت إليه الأوضاع، واحتكموا في ذلك إلى النتائج المؤلمة التي لا تنكرها العين. ولكن التقرير لا شك أنه فاجأ الكثيرين عندما قرر أن هذه النتائج ليست وليدة اليوم (أي بعد 6 سنوات من التجربة)، وإنما كانت حاضرة في المشهد من اللحظة الأولى!. هكذا تحدثت إحدى الكلمات الافتتاحية عند عرض التقرير، وجاء فيها «منذ عام 2011 نجد أنفسنا أمام مشهد يتدهور بوتيرة متسارعة وينفتح على شتى الاحتمالات، لقد تخلخلت بعض الركائز الأساسية التي قامت عليها الأنظمة العربية، وتحاول الآن مختلف النظم جاهدة احتواء أصداء ثورات مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية».

ودون الدخول في تفاصيل التقرير الطويلة خصوصا أنه متاح أمام المعنيين والرأي العام للاطلاع عليه بعد أن جعل الانترنت مثل هذه الأمور سهلة المنال، فإنه يقدم مقاربة متميزة لتبيان أسباب الوهن أو الفشل أو التعثر (يختار المرء ما يشاء من التعبيرات)، وتشخيص الحالة الراهنة، والنظرة المستقبلية، وطريق الإنقاذ أو الخلاص. وينطلق التقرير مما يسميه التيارات العابرة للحدود التي تفعل فعلها أفقيا وعموديا في الميادين الإنسانية والسياسية والجيوسياسية (الجغرافيا السياسية). وبذلك يقدم تحليلاً شاملاً يضم عموم العوامل الأساسية محلية وخارجية التي تنصرف على عموم المشهد في كل الوطن العربي. ويلخص هذه العوامل أو بالأحرى الأسباب التي أدت إلى تدهور الأوضاع العربية في ثلاث مجموعات كبرى تضم كلاً منها عدة أعوام حاكمة.

المجموعة الأولى بعنوان المشهد الإنساني وتضم تجارب المواطنين العرب المتغيرة في سياق الضغوط الديموغرافية والهجرة البشرية والاستقطاب السياسي والحراك الاجتماعي.

والمجموعة الثانية بعنوان المشهد السياسي، وتضم أزمة الحوكمة في أرجاء المنطقة، والضغوط على الأنظمة الريعية، وتأثير القطاع الأمني ووسائل الإعلام على السياسات العربية.

وأما المجموعة الثالثة والأخيرة فهي بعنوان المشهد الجيوسياسي، وتضم النظام الإقليمي الآيل للانهيار في سياق حافل بالعديد من الصراعات الداخلية النزاعات بين الدول ومضاعفات انخفاض أسعار النفط وآثار التغيرات المناخية وشح الموارد في المدى البعيد.

ويطرح التقرير دلائل وقرائن بل ودراسات حالة لشرح المشاكل في كل هذه العناصر التي تضمها المجموعات الثلاث.

ولا يتفاءل التقرير لا من الحاضر، ولا من المستقبل، بل يقدم رؤية صادمة لكل منهما، ربما للتحذير وحفز صانع القرار العربي على الإسراع بالحلول وبشكل جدي. فوفقا لما جاء في التقرير فإن المنطقة في وضع التدهور ومرحلة الثورات أو التغيير جاءت بنتائج معاكسة أو فشلت بشكل صريح. فما الذي سيحدث في المرحلة الآنية من جانب الدول من جهة ومن جانب المواطنين من جهة أخرى؟. يجيب التقرير: «في غمرة البلبلة التي اكتنفت الأوضاع القديمة يشوب الغموض الوجهة التي ستتجه إليها المنطقة. ووفقا لما قاله الفيلسوف الإيطالي جرامشي وقت أن كان سجينًا في ثلاثينات القرن العشرين خلال الحكم الفاشي، القديم آيل للزوال بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه يبرز عدد كبير من الأعراض المرضية، وهذا هو الواقع الذي يواجهه اليوم الشرق الأوسط». وتطبيقا لهذه المقولة يقول التقرير:«إنه بما أن الدول تحاول احتواء أصداء ما جرى في 6 سنوات، فإنها ستطلب من المواطنين التضحية بمزايا المعونات الاجتماعية التي اعتادوا عليها منذ عهد بعيد بدعوى التقشف المالي، وسيقبل المواطنون بذلك، ولكنهم من جهة أخرى سيتوقف قبولهم بالأنظمة القديمة وسيطالبون بالمساواة والعدل وبدور أكبر في القرارات المتعلقة بالقضايا الوطنية. وأما السلطات التي ستخشى الإصلاح السياسي والاقتصادي خوفا على نفوذها، فإنها ستواصل التشبث بالوضع الراهن المتهافت حتى لو أسفر ذلك عن نتائج كارثية».

وحتى لا تقع هذه النتائج الكارثية، يؤكد التقرير أنه لن يكون بمقدور الدول العربية تنمية مجتمعات مزدهرة، إلا إذا اقتدت بنماذج سياسية واقتصادية جديدة. هنا لا يقدم التقرير شرحًا لما يدعو إليه من نماذج جديدة. ولكنه في مواضع رئيسية منه لا يرى حلا إلا في ترسيخ المواطنة والتنوع أو التعددية السياسية (تفكيك الموروثات الثقافية والسياسية). ويقصد بذلك بناء مواطنة جامعة وحاضنة للتنوع تعطى ضمانات للجميع كأفراد وليس فقط كجماعات واحترام التنوع المجتمعي على صعيد الممارسة السياسية. واهتم التقرير بالدعوة إلى التخلص مما أسماه بالركود السياسي والنزعة التسلطية وكذلك الفساد. واللافت تأكيده على أن هذه المثالب الثلاثة ترتبط ارتباطا لا فكاك منه بالصراع والإرهاب في المنطقة.

من يتأمل محتويات التقرير وما ذهب إليه من تشخيص وتقويم والمنهجية المميزة التي اتبعها، خاصة أنه جاء بناء على دراسة مسحية سابقة قام بها عدد كبير من الباحثين، لا يملك إلا التعبير عن التقدير لجهد أصحابه، وهو لا شك مفيد لصانع القرار العربي وإن كان ليس ملزمًا، تمامًا مثلما غيره من الدراسات والمشرعات البحثية التي يمكن أن تقدم رؤية مغايرة وطريقة مختلفة لعلاج الأزمات العربية الراهنة. وهنا يمكن طرح ثلاث ملاحظات رئيسية تنقل وجهة البحث والنقاش ثم الحل نقلة أخرى مختلفة إلى حد كبير مع كل ما ذهب إليه هذا التقرير.

الملاحظة الأولى تتعلق بما يمكن تسميته إعادة إنتاج القديم ولكن بلغة ومعلومات معاصرة. فالمتابع للشأن العربي قبل أحداث 2011 لا يجد جديدا في كل ما جاء به تقرير كهذا لا من حيث التوجه ولا حتى من حيث المفردات. ولو شحذ البعض ذاكرته بعض الشيء لاكتشف أن كثيرًا من تقارير الأنظمة العربية الرسمية في ذلك الزمان وصلت إلى نفس التشخيص وطرحت نفس المفردات!. فقط ظلت المشكلة قائمة لأن الأنظمة لم تطبق ما كانت تصل إليه من توصيات أو قرارات، أو لأنها تباطأت كثيرًا في التطبيق فسبق السيف العزل. وبشحذ أكبر للذاكرة يستطيع المتابع أن يكتشف أيضا أن تقارير عديدة كانت تصدر من مؤسسات بحثية غربية من بينها كارينجي ذاتها تركز على التغيير السياسي بلغة إصلاحية ولم يتحدث أي منها عن أن الثورات باتت على أبواب المنطقة. وعندما فوجئت بما جرى ركبت الموجة سريعا ودفعت في اتجاه تصعيدها وتناست أنها كانت في السابق تتحفظ وترى أن هناك معوقات هيكلية تجعل الإصلاح بطيئا. الانتقال ما بين الموقف ونقيضه يفرض التحفظ في التعامل مع هكذا تقارير.

وأما الملاحظة الثانية فتتعلق بالتداخل ما بين الداخل والخارج في مسار التطورات العربية. وقد اهتم التقرير بالتركيز على العوامل المحلية التي أدت إلى تدهور الأوضاع. ولا أحد يقلل من أهمية ذلك، ولكن الكثير مما ورد في التقرير سواء ما يتعلق بالاستقطاب السياسي والحراك الاجتماعي والخلافات المذهبية، والأخطر مشهد الهجرة البشرية وغيرها من المآسي الإنسانية، إنما وقع بفعل التدخلات الخارجية الغربية سياسية كانت أم عسكرية .كانت الحرب على العراق بداية الانفجار وتلاها ما تلاها بعد 2011 حيث كانت التدخلات الغربية حاضرة بقوة. وحتى العلاقات العربية - العربية كانت متماسكة ولو في الحد الأدنى قبل ذلك التاريخ، إلى أن امتدت أيادي الخارج فوقع التشرذم. التقرير لم يربط بين الداخل والخارج.

وتتعلق الملاحظة الثالثة برؤية العالم، وهي مسألة فكرية وثقافية بالدرجة الأولى وتنصرف إلى تحديد ما يريده العرب لأنفسهم في هذا العالم المضطرب وما يريدونه من غيرهم. وإلى الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة في معارك العرب مع الخارج لا تريد مراكز الأبحاث الغربية أن تقبل أو حتى تتفهم أن جدول القيم ومضمونها مختلف إلى حد كبير مع ما عرفه الغرب. لا يعني ذلك أن العرب يعيشون في كوكب آخر، ثم لا تعنيهم القيم السائدة عالميا. على العكس تماما هناك اهتمام بالقدر نفسه ولكن الأولويات مختلفة وبناء على تغير الأولويات تتغير المواقف والسياسات. العدالة تأتي في مقدمة أولويات القيم لا الحرية ولا المساواة رغم الإيمان بهما. والعقيدة محور أساس في تحديد المواقف من الآخر ومن الأحداث ذاتها. التقارير الغربية لا تهتم بهذا وذاك في تناولها للشأن العربي، بينما تضع كل تركيزها على الحرية، ولذلك تظل التقارير الغربية بعيدة عن حقيقة الواقع العربي.