أفكار وآراء

من واشنطن إلى موسكو... اتفاق أم افتراق؟

14 فبراير 2017
14 فبراير 2017

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ضمن المقالات الاستشرافية لمستقبل العالم بعد وصول الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب إلى سدة الحكم، يأتي الحديث عن العلاقات الأمريكية - الروسية وإلى أين تمضي، لاسيما بعد ما تردد خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية من أن روسيا كان لها بشكل أو بآخر تدخلات سافرة في توجيه الرأي العام الأمريكي من أجل انتخاب ترامب، وهي قضية لا تزال مفتوحة ولا يزال التحقيق الأمني جار في شأنها.

يعن لنا هنا أن نتساءل كما يتساءل الكثيرون لماذا يظهر ترامب هذه الأريحية الكبرى تجاه بوتين، على العكس تماما من مواقف المرشحة الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون؟ ثم وربما هذا هو الأهم هل يستمر هذا الوفاق بين ترامب وبوتين طويلا أم أن عقبات جديدة يمكن أن تظهر على الطريق؟   

تظهر الاتصالات الهاتفية الأخيرة بين بوتين وترامب أن هناك كيمياء قوية إيجابية بين الرجلين الكبيرين، تختلف اختلافا جذريا عن حالة سوء الفهم المتبادل التي سادت بين بوتين و أوباما لاسيما في الفترة الرئاسية الثانية للأخير، والمعروف أن ترامب قد أشاد سابقا بالرئيس الروسي، ووصفه بأنه زعيم أكثر من نظيره الأمريكي «باراك أوباما»، ومؤكدا أنه يكن احتراما كبيرا للروس وأنه ستكون له علاقة رائعة مع بوتين، وفي منتصف نوفمبر الماضي «هنأ» بوتين الرئيس المنتخب للولايات المتحدة بفوزه الكاسح، ويتفق الرئيسان في كل الأحوال على أن العلاقات الأمريكية - الروسية كانت غير مرضية أبدا،، بحسب صياغة موسكو، والآن ستبدأ الدولتان حوارا جديدا على أساسا من «المساواة»، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة المقابلة، وقال الكرملين إن الرئيسيين سيظلان على اتصال كما سيلتقيان قريبا.

والثابت أنه لا يمكن فهم العلاقات بين الدولتين العظميين دون إشارة ولو عابرة إلى قوة كل منهما ونفوذهما الدولي، والعهدة هنا على الراوي، مجلة «أمريكان أنترست» ذائعة الصيت فماذا عن ذلك؟

ترى المطبوعة الأمريكية أن أمريكا، لا تزال تحتل صدارة القوى الدولية، فرغم كافة التراجعات لا تزال هي الدولة الأولى في العالم من حيث القوة المسلحة، والناتج القومي، والتقدم العلمي، والموارد البشرية والطبيعية، عطفا على نظام سياسي رغم كل اخفاقاته لكنه يظل من أفضل الأنظمة الديمقراطية حول العالم. إضافة الى ذلك فإن واشنطن عادت لتتسيد الجميع فيما يخص الثروة النفطية، فعمليات التكسير النفطية - النفط الصخري - كانت هي الهدية المستمرة إذ تفوقت الولايات المتحدة وأصبحت البلد صاحب أكبر الأصول النفطية في العالم، واكتشفت الشركات الأمريكية طرقا إبداعية جديدة لتعزيز إنتاجها، واستمر الاقتصاد في تصاعد مطرد، وانخفضت معدلات البطالة إلى نسبة أقل مما كان عليه الحال قبل الأزمة المالية، وانتهى العام بزيادة كبيرة في معدلات فائدة البنك الفيدرالي، وهو الأمر الذي اعتبر تصويتا على الثقة في مرونة الاقتصاد.

تضع المجلة الأمريكية روسيا في الموقع الرابع للقوى العالمية، وهو تصنيف يغاير تماما النفوذ الذي أظهرته حول العالم بشكل واضح للجميع، وان كانت غير قادرة على الإشارة لإحراز بوتين انتصارات تراها تكتيكية وليست استراتيجية حول الكرة الأرضية، ومنها المشهد الروسي بنوع خاص، عطفا على أن نفوذ روسيا في مجالها الآسيوي واضح جدا للعيان، فقد نجحت القوات الروسية في إحباط أي سلام دائم في أوكرانيا، وانتخب رؤساء أصدقاء لروسيا في جورجيا، واستونيا ومولدوفا، في الوقت الذي تعرض فيه الاتحاد الأوروبي لصدمات بريكست وتمرد الشعبيين المشككين في الاتحاد الأوروبي بطول القارة، والتدفق المستمر للاجئين، الذي تسبب في جزئه الأكبر من أفعال روسيا في سوريا بحسب توجهات «أميركان أنترست».

يعن لنا أن نتساءل : هل باتت القناعة باقتسام النفوذ حول العالم متوافرة لبوتين وترامب عوضا عن المواجهة أو المجابهة التي يمكن أن تولد صراعا نوويا عالميا بين الدولتين؟

تقدم لنا صحيفة الجارديان البريطانية تصورا لما يمكن أن تكون عليه العلاقات بين البلدين حال مضت المصالحات الترامبية قدما وعندها أن بوتين لديه لائحة طلبات من الرئيس الأمريكي وتعود شكواه إلى عقود قديمة.

أولا: يريد الكرملين من الولايات المتحدة إلغاء العقوبات الاقتصادية التي فرضت على روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم لبلاده عام 2014 والمعروف أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية قد استهدفت تجميد أصول أصدقاء بوتين المليارديرات المقربين، وصرحت وزارة الخزانة بجفاء بأن هذا كان بسبب قربهم من الرئيس .

ثانيا: يتطلع بوتين الى أن يعترف ترامب بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، وهو الأمر الذي لم تفعله أي دولة أخرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي تغيير حدود دولة أوروبية بالقوة.

ثالثا: تبقى قضية سوريا مسألة مهمة للتفاهم بين البلدين وبوتين يريد أن تسحب واشنطن اعتراضها على بقاء الأسد رئيسا للسوريين.

رابعا: وأخيرا يمكن إذا اجتمع بوتين وترامب قريبا، أن يتناقشا في مسألة تقسيم النفوذ العالمي في عهد ما بعد الليبرالية، ويرى الكرملين أن له أحقية في دائرة نفوذ خاصة به تتضمن الجمهوريات التابعة سابقا للاتحاد السوفييتي، وشرق ووسط أوروبا، وتتحدث أيديولوجيات موسكو عن «دوائر نفوذ حضارية»، و«مركزية متعددة»، وهي رمز دخول لكي تكون روسيا قوة عالمية مسيطرة ذات نفوذ مماثل للولايات المتحدة.

هل ترامب الرجل المعروف بأنه يعقد الصفقات ويساوم بلا هوادة، والمخادع البارع، لن يطلب شيئا في المقابل من بوتين؟

يحاجج كثير من المراقبين بأن روسيا - بوتين ليس لديها الكثير الذي يمكنها تقديمه لواشنطن - ترامب، إلا أمور رمزية وليست مسائل ديناميكية، من عينة تسليم عميل جهاز الأمن القومي المنشق «إدوارد سنودن» للأمريكيين.

غير أن الملف الحقيقي والواقعي الذي يسعى إليه ترامب، هو ملف مكافحة الإرهاب والتطرف حول العالم، وموسكو في هذا الإطار لديها خبرة واسعة، فتجاربها مع الشيشان سابقا، ومع التيارات الأفغانية المختلفة من قبل، ولاحقا الدور الذي اضطلعت به في سوريا لمجابهة داعش والقضاء عليها قبل أن تتمكن من الزحف إلى المناطق الأوراسية، جميع هذه تجعل خبرة موسكو أعرض وأوسع وأكثر نفعا للأمريكيين ومنهم، عطفا على أن التلاحم الجغرافي والسياسي بين موسكو ومناطق نشوء وارتقاء الإرهاب، أقرب كثيرا من الولايات المتحدة المتمرسة خلف محيطين.

هناك علامة استفهام جوهرية في طريق العلاقات الأمريكية - الروسية الجديدة وهي ... هل هناك في الداخل الأمريكي من له مصلحة ما في وقف تصاعد التفاهم بين الأمريكيين والروس؟

هناك بالطبع قوى بعينها لاسيما من الجمهوريين، حزب ترامب نفسه، تقف في مواجهة مثل هذا التقارب، وهذا ما أشارت إليه صحيفة الواشنطن بوست مؤخرا بقولها ان الكونجرس الأمريكي قد يحاول نسف الجهود التي من المتوقع أن يبذلها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لتحسين العلاقات مع موسكو... ما الذي يجري داخل الكونجرس؟

يبدو أن هناك رغبة ما في إيقاف ما يطلق عليه «الربيع الروسي لترامب»، فقد وصف رئيس اللجنة العسكرية في الكونجرس السيناتور جون ماكين خطة ترامب للتعاون مع الحكومة الروسية حول سوريا بأنها غير مقبولة، مطالبا الإدارة الجديدة بوضع نفسها في مواجهة موسكو لـممارساتها الوحشية في سوريا، على حد زعم السيناتور.

من جانبه شدد السيناتور «ليندس غراهام» على أنه لا يمكن ان يسفر فوز ترامب عن تنصل واشنطن من التصدي لروسيا في العالم، مضيفا أنه بالرغم من أن ترامب يصبح مع وصوله إلى البيت الأبيض القائد العام للقوات المسلحة، لكن الكونجرس يحافظ على دوره في السياسات الأمريكية بهذا المجال، لذلك تعهد «غراهام» كرئيس للجنة الفرعية للمخصصات المالية للعمليات الخارجية في مجلس النواب، بضمان الدعم المالي الإضافي للجهود التي يبذلها حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون في سبيل التصدي لموسكو.

وعطفا على المتقدمين تنقل الصحيفة الأمريكية عن السيناتور «بينجامين كاردين»، عضو مجلس الشيوخ، قوله ان الكونجرس سيدرس مشروعي قرار جديدين يقترح احدهما معاقبة روسيا بسبب محاولاتها «المزعومة» للتأثير على الانتخابات الأمريكية، بينما يشدد الآخر العقوبات المفروضة على موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية... هل لمثل هذه المواقف من تأثير على شكل ما يمكن أن يتبلور من علاقات أمريكية ـ روسية؟

الثابت أن الديمقراطيين يناصبون ترامب العداء، بل ويحملون شيئا عميقا من الرغبة في الثأر من بوتين والروس، فهم في تقديرهم السبب الرئيسي في قطع الطريق على وصول هيلاري إلى البيت الأبيض. وكما رأينا فإن الكثيرين كذلك من الجمهوريين من عتاة السياسيين يستنكرون أن يأتي شخص ما من خارج المؤسسة الأمريكية الحاكمة مثل ترامب، ويصل إلى البيت الأبيض، ثم يقوم بما يشبه الانقلاب في علاقات واشنطن العميقة بالروس.

هذه المواقف ولاشك قد تمنع الرئيس ترامب من إيجاد فرص لتحسين العلاقات الثنائية بين الدولتين، والتي تشهد في السنوات الأخيرة تفاقما ملموسا، إذ لا يستطيع ترامب، إلا كسب دعم عدة أعضاء في الكونجرس لا يعارضون تدخل بلادهم في شؤون الدول الأخرى مثل العضو عن ولاية كاليفورنيا السيناتور «ريند بول».

يقول بعض الخبراء الروس أن الأمور قد لا تمضي إلى حيث يتوقع الكثيرون بين موسكو وواشنطن.. فعند «فيونا هيل » الخبيرة الروسية وكاتبة السيرة الذاتية لبوتين بمعهد بروكنجز : قالت « أعتقد أن الأمور ستؤول إلى ما هي عليه دائما، حيث سيفرح الروس كثيرا ويرتفع سقف توقعاتهم، ثم سيتبدد كل هذا».

أما أنا بورشفكايا، الزميلة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى فتؤكد على أنه : من الناحية التاريخية نلاحظ أن القادة السوفييت فضلوا التعامل مع الجمهوريين الذين اتسموا بالتوافق في السياسة والواقعية، إذ دائما ما كانوا يفون بوعودهم، لذلك لطالما عرف الكرملين ما الذي يمكنه توقعه من الجمهوريين ومكانته بالنسبة إليهم، واحترم الكرملين الجمهوريين لتحليهم بهذه الصفات واعتبر أن الديمقراطيين ضعفاء، حتى لو لم يتناسب هذا الاعتبار بالضرورة مع الواقع، إلا أن ترامب تحرر من الكثير من التقاليد الجمهورية، وفي الحقيقة كان ديمقراطيا معظم حياته، وقد يشكل سلوكه الخاطئ وغير المتوقع أشكالا جديدا، وقد يتفق ترامب وبوتين فيما بينهما إلى أن تتغير الأوضاع، لكن الضرر لمصداقية الولايات المتحدة وحلفائها قد يكون قد حصل بالفعل .

قبل أيام تحدثت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة السفيرة «نيكلي هايلي» أمام مجلس الأمن الدولي قائلة: إن العقوبات ستبقى مفروضة على روسيا، حتى تعيد روسيا سيطرة أوكرانيا على شبه جزيرة القرم، وأنها تأسف أن تكون أول تصريحاتها أمام مجلس الأمن لإدانة الأعمال العدائية لروسيا، وقد دعا لذلك التصريح السفير الروسي لدى الأمم المتحدة للتصريح بأن «النبرة الأمريكية قد تغيرت»

هل نجح الجناح المناوئ لترامب تجاه روسيا في تعديل وتبديل المشهد؟ وإذا كان ذلك كذلك فمن هم الفعلة الحقيقيون الآن في واشنطن الذين يرسمون ملامح المشهد العالمي لاسيما من واشنطن إلى موسكو؟ .