الملف السياسي

حتى لا نحمل جوتيريس أكثر مما يستطيع !

13 فبراير 2017
13 فبراير 2017

د. عبد الحميد الموافي -

في ظل تطورات أثرت وتؤثر على الأمم المتحدة، بل وغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، تولى جوتيريس مهام ارفع منصب دبلوماسي دولي، وهو منصب الأمين العام للأمم المتحدة، مع بداية هذا العام، ونظرا لأنه دبلوماسي برتغالي مخضرم، مارس السياسة في البرتغال، حتى وصل الى منصب رئيس الوزراء، وخبر العمل الدولي في الأمم المتحدة من خلال توليه منصب المفوض السامي لمفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، فإنه من الطبيعي أن تزداد الآمال حول ما يمكن أن تقوم به الأمم المتحدة

ليس من المبالغة في شيء القول بأن السنوات العشر التي انتهت مع نهاية عام 2016، والتي تولى فيها «بان كي مون» منصب الأمين العام للأمم المتحدة، كانت بوجه عام أقرب الى الأداء الكلاسيكي، أو التقليدي للأمم المتحدة، أي الأداء الذي يحرص من خلاله الأمين العام للمنظمة، باعتباره المسؤول الأكبر فيها، وعن إدارتها، على تجنب المواقف الجدلية، والسير في نطاق الحدود التي تحددها، بشكل غير مرئي، الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وخاصة الولايات المتحدة بشكل خاص وروسيا والدول الغربية والصين بوجه عام، والتي يقرأها أو يراها الأمين العام بطريقته، ووفق شخصيته وحسب قدرته، أو بمعنى أدق تصوره لدوره، وما يمكن أن يقوم به، من موقعه، لخدمة قضية السلام والأمن الدوليين، وحل ما يمكن من القضايا بالطرق السلمية، ولزيادة قدرة المنظمة الدولية الأم، على دفع سبل ومجالات التعاون بين الدول الأعضاء، سواء من خلال تناولها للقضايا التي تهم المجتمع الدولي، في حاضره ومستقبله، وهي قضايا أوسع بكثير من القضايا السياسية بالطبع، أو من خلال المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة. ومع أن الأمر ليس مسألة شخصية، لهذا الأمين العام أو ذاك، لأسباب كثيرة لا يشكل الأمين العام سوى واحد منها فقط، إلا أن أداء وديناميكية وقدرة الأمين العام تتأثر بالطبع بخبرته وبرؤيته وبقدرته على التواصل مع الدول الأعضاء، وبمدى نجاحه في تأمين قدر كاف من التأييد له، يمكنه من الدفع في الاتجاه الذي يراه مناسبا لخدمة قضايا السلام والأمن الدوليين ودعم التعاون الدولي، مع تجنب الصدامات الحادة مع الدول المؤثرة، والتي تعرقل عمله، أو حتى تقطع الطريق عليه، هو ذاته، وتمنعه من مواصلة مهامه عند أول فرصة ممكنه للقيام بذلك، وهو ما حدث مثلا مع أستاذنا الراحل الدكتور بطرس غالي، العربي الوحيد الذي تولى هذا المنصب الدولي الرفيع، وهو الوحيد أيضا، الذي لم يتم التجديد له في منصبه بعد فترة السنوات الخمس الأولى، وذلك بسبب خلافه مع وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين اولبرايت، بعد إدانته الحادة لمجزرة قانا التي ارتكبتها إسرائيل في جنوب لبنان، والتي أصابت فيها أيضا بعض أفراد قوة السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، بعد أن لجأ المدنيون الى مقر تلك القوة فقامت إسرائيل بقصفها في همجية صارخة، أدانها بطرس غالي بقوة.

ومع الوضع في الاعتبار أن سنوات بان كي مون في منصب الأمين العام للأمم المتحدة شهدت قبول فلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، ورفع العلم الفلسطيني بين أعلام الدول الأعضاء أمام مبناها العتيد في نيويورك، كما شهدت مؤتمر قمة المناخ في باريس، ثم التوقيع على اتفاقية باريس للمناخ أواخر العام الماضي، كما شهدت محاولات روسيا لاستعادة نفوذها ومكانتها الدولية، عبر تحركاتها العسكرية ضد جورجيا عام 2008 وضد أوكرانيا عام 2014 - ضم منطقة القرم - وفي سوريا عام 2015، فإنها شهدت أيضا تحرك حلف الأطلنطي في ليبيا عام 2011 لإسقاط معمر القذافي، وتشكيل التحالف الدولي لمقاومة تنظيم داعش بزعامة واشنطن، وهو ما تم أيضا خارج الأمم المتحدة في عام 2014، وقضايا أخرى عديدة منها تعثر عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل بسبب إصرار إسرائيل على الاستمرار في سياساتها الاستيطانية لالتهام ما تبقى من أراض فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية والإجهاز بشكل عملي، على فرص حل الدولتين، وقد جاء القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي الذي أدان الاستيطان الإسرائيلي وطالب بوقف عمليات الاستيطان باعتبارها غير قانونية - القرار 2334 في منتصف ديسمبر الماضي - ليشكل موقفا دوليا هاما في هذا المجال، ولم يكن ذلك ممكنا لولا امتناع واشنطن عن التصويت، وذلك في إطار حسابات ثنائية أمريكية إسرائيلية، وليس انتصارا للحق الفلسطيني بالطبع. وبرغم ذلك وغيره، إلا أن المنظمة الدولية الام كانت اقرب الى الصمت القسري، أو بمعنى أدق «الصمت المحسوب»، حيال الكثير من القضايا على امتداد المنطقة والعالم، باستثناء بعض البيانات او التصريحات الصادرة عن الأمين العام، لمجرد تسجيل المواقف، وهو جزء من الواجبات التي لا يمكن تجنبها بحكم طبيعة ومهام الأمين العام للأمم المتحدة.

في ظل هذا المناخ، وفي ظل تطورات أثرت وتؤثر على الأمم المتحدة، بل وغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، تولى جوتيريس مهام ارفع منصب دبلوماسي دولي، وهو منصب الأمين العام للأمم المتحدة، مع بداية هذا العام، ونظرا لأنه دبلوماسي برتغالي مخضرم، مارس السياسة في البرتغال، حتى وصل الى منصب رئيس الوزراء، وخبر العمل الدولي في الأمم المتحدة من خلال توليه منصب المفوض السامي لمفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، فإنه من الطبيعي أن تزداد الآمال حول ما يمكن أن تقوم به الأمم المتحدة خلال فترة توليه منصب الأمين العام لها، خاصة وان له علاقات جيدة مع مختلف الأطراف الدولية ، في أوروبا والولايات المتحدة وعلى امتداد العالم ، وفي المنطقة العربية التي سيقوم بزيارة 5 دول من دولها في الأيام القادمة ، غير أن الأداء الدولي، ومدى فعالية ممارسة الأمم المتحدة ، وغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، لدورها، لا تتوقف فقط على ديناميكية الأمين العام، ولا على تصوره فقط لدوره ونواياه واستعداده للعمل، لأنها تتوقف في النهاية على مواقف الدول الأعضاء حيال القضايا والتطورات المختلفة، وحساباتها لمصالحها في كل حالة، ومن هنا حرص جوتيريس في بداية تسلمه منصبه على التأكيد على انه لا يتوقع «معجزات»، وانه على استعداد للتعاون مع الدول الأعضاء وبذل الجهود من أجل قضية السلام، وان النجاح يتطلب تعاون كل الأطراف. وعلى أية حال فانه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إن الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، وبرغم انه قضى عدة سنوات على رأس مفوضية اللاجئين، إلا انه في حاجة الى الاستماع مباشرة من كثير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، سواء في المنطقة أو خارجها، لرؤاها وتوقعاتها لمدى قدرة الأمم المتحدة على النهوض بدورها المأمول لخدمة السلام والأمن الدوليين، والسعي الى حل المشكلات المعروضة أمامها، وخاصة المتفجرة منها، على أساس مبادئ وقواعد ميثاق الأمم المتحدة. هذا فضلا عن بحث قضايا عديدة حول عمل وأداء المنظمة الدولية، ومحاولات إصلاحها والنهوض بها، وهي عديدة، حيث توجد العديد من الدراسات الرصينة والمقترحات التي قدمتها شخصيات دولية رفيعة. وبغض النظر عن سيل الانتقادات المعروفة والمتكررة بشأن الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، وهي انتقادات لا تستند في كثير من الأحيان الى استيعاب حقيقي، أو موضوعي، لآليات عمل وطبيعة وحدود عمل المنظمة الدولية وصراعات الدول الأعضاء فيها لتحقيق مصالحها أو على الأقل للحفاظ عليها، إلا انه يمكن القول بأن الجميع، ودون استثناء تقريبا، لا يزال يريد الأمم المتحدة، ويريد لها الاستمرار، برغم أية انتقادات قد يأخذها عليها. ويعود هذا الشعور ليس فقط الى تعقد الحياة والعلاقات الدولية من ناحية، والأمل في أن تقوم الأمم المتحدة بدورها، ولكنه يعود أيضا الى حقيقة أن الأمم المتحدة مثلت خطوة اكثر تطورا على صعيد التنظيم الدولي، حيث اعتمدت ولا تزال تعتمد على مبدأ الضمان الجماعي بين الدول الأعضاء كسبيل للحفاظ على السلام والأمن الدوليين، ومواجهة العدوان الذي تتعرض له دولة عضو، وانه برغم أية مشكلات عملية، فإن الأمم المتحدة يمكنها أن تدفع نحو تطور النظام الدولي بخطى متتابعة، حتى ولو كانت قصيرة، ولم يكن تطوير مبدأ حق التدخل الإنساني لحماية الشعوب من ناحية ثانية. وزيادة وزن مبادئ القانون الدولي الإنساني، وتقليص مفهوم السيادة بأشكال مختلفة، سوى تطبيقات هامة في هذا المجال.

صحيح أن الأداء الدولي للأمم المتحدة لا يزال مرهونا، الى حد كبير، بثقل وتأثير القوى الكبري، وسيظل مرهونا لسنوات قادمة، ولكن الصحيح أيضا انه لا بديل عن الأمم المتحدة ودورها الممكن . وذلك أمر يدركه السياسيون المخضرمون، والعارفون لحقائق الحياة الدولية. ومن هذا المنطلق فان الأمين العام الجديد للأمم المتحدة يمكنه أن يجد دعما وتأييدا غير قليل من دول تتمنى لو تقوم الأمم المتحدة بدورها المأمول، ولو جزئيا على الأقل.

*ثانيا: بدون الدخول في جوانب قانونية ، فانه يمكن القول بأن الأمم المتحدة تملك شخصيتها الاعتبارية كمنظمة دولية، يمثلها ويعبر عنها الأمين العام لها، وانه يقوم بواجباته في العمل للحفاظ على السلام والأمن الدوليين وفق ما منحه ميثاق الأمم المتحدة والنظام الداخلي لها من مهام ومسؤوليات، غير أن الأمم المتحدة ليست منظمة فوق قومية مثلا، بمعنى أنها لا تستطيع، وفق ميثاقها، أن تفرض أشياء أو إجراءات أو خطوات على الدول الأعضاء، إلا اذا كان ذلك بناء على قرار يتم اتخاذه على أساس الفصل السابع من الميثاق، وهو الفصل الذي يعطي مجلس الأمن حق استخدام القوة ضد إحدى الدول الأعضاء في حالات العدوان وفي حالات محددة، اذا اتفقت على ذلك الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والدول الأعضاء الأخرى. فالأمم المتحدة لا تزال تضم دولا ذات سيادة، وتستطيع هذه الدول أن تحتج بسيادتها في مواجهة أية خطوة قد تقررها الأمم المتحدة في ظرف أو آخر، والأمثلة في هذا المجال اكثر من أن تحصى. وبرغم ذلك فان السنوات الماضية، منذ إنشاء الأمم المتحدة، كونت، أو بنت تأثيرا أدبيا ملموسا للأمم المتحدة، تحاول الكثير من الدول احترامه أو مسايرته، ولا يدخل في ذلك الدول المارقة مثل إسرائيل، التي ترفض التقيد بقرارات الأمم المتحدة العديدة، فيما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي والاستيطان وغيرها . وليس من المبالغة في شيئ القول بأن هذا الرصيد المعنوي هو ما يمكن أن يعول عليه جوتيريس لتحقيق قدر اكبر من تعاون الدول الأعضاء مع مبادراته لإصلاح الأمم المتحدة، ولو بخطى محدودة.

*ثالثا: انه بعيدا عن اليوتوبيا، والينبغيات، والافتراضات التي تتجاهل حقائق العلاقات الدولية، سواء خلال السنوات الماضية أو الآن، فان الأمم المتحدة كمنظمة دولية، تتحمل اكثر بكثير مما يمكن أن تتحمله، اذا وضعنا على عاتقها مهمة حل المشكلات الراهنة بشكل مثالي، أو كما نتمنى نحن، لأن هناك غيرنا يتمنون ويأملون أن تسير الأمم المتحدة في اتجاه يخدم مصالحهم هم حسبما يرونها، وليس وفق مبادئ العدل والخير والشفافية والمساواة بين الدول، أو إعطاء كل ذي حق حقه ! صحيح أن مبدأ المساواة في السيادة وأمام القانون هو احد مبادئ الأمم المتحدة، وهو ما يؤخذ به في عضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ولكن الأمم المتحدة قامت وتعمل أيضا على أساس المسؤولية الخاصة التي تتحملها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومجلس الأمن الدولي بتكوينه الراهن بالنسبة لعمليات حفظ السلام والأمن الدوليين. وعلى ذلك فإن الأمم المتحدة، وحتى محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، لن تتمكن وحدها من استعادة الحقوق ، ولكنها يمكن أن تساعد في استعادة تلك الحقوق ، وفق طبيعة ومدى وعمق وقوة الأطراف المشتبكة في صراع مصالح حول هذه القضية أو تلك، ومن هنا فانه من غير المناسب أن نهرب الى الأمام ونلقي بكل اللوم على الأمم المتحدة، أو أن نجعل منها مشجب نعلق عليه فشلنا أو ضعفنا، فالأمر يبدأ من عندنا نحن، واذا استطعنا بناء قوتنا الذاتية، عندئذ سنجد أن الأمم المتحدة تقف الى جانبنا، أو على الأقل سنتمكن من إيجاد سبل لتطبيق قراراتها التي في صالحنا، أما هي فلن تستطيع أن تحمل حقوقنا إلينا، والمؤكد أن استيعابنا لذلك سيساعد جوتيريس كثيرا في القيام بأعباء دوره الذي لا يمكن لعاقل أن يحسده عليه !