الملف السياسي

القضايا «المزمنة» .. في دهاليز المنظمة الدولية

13 فبراير 2017
13 فبراير 2017

محمد حسن داود -

لا شك في أن مهمة الأمين العام للأمم المتحدة منذ تأسيسها في عام 1945 وحتى يومنا هذا هي الأصعب والأشد تعقيدًا، ليس لطبيعتها المتشعبة ولكن للظروف والعوامل السياسية التي تجرده من كثير من صلاحياته وتحد من قدراته على الحركة وتكبل حريته حتى في كشف الحقائق والانتصار للحق

لقد رسم أنطونيو جوتيريس صورة قاتمة للسياسة العالمية في اليوم الأول لتوليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة خلفا لبان كي- مون، وقد شدد في رسالته بمناسبة تسلّمه منصبه على أنه سيجعل 2017 عاما من أجل السلام، وقال: «في هذا اليوم الأول على رأس الأمم المتحدة يراودني السؤال: كيف نساعد ملايين الأشخاص الذين تحاصرهم النزاعات؟ في هذا اليوم الأول من العام الجديد أطلب منكم جميعا أن تتخذوا معي هذا القرار: فلنلتزم بجعل السلام أولويتنا المطلقة»، وأوضح الأمين العام الجديد أن كل ما نقدره ونجله بصفتنا عائلة بشرية - الكرامة والأمل والتقدم والازدهار- رهن بالسلام، لكن السلام رهن بنا..»قفوا إلى جانبي في خدمة السلام، يومًا بعد يوم ولنجعل من 2017 عامًا للسلام».

وفي توصيفه لجانب من آلام البشرية نوه جوتيريس في رسالته بأن «المدنيين يتم قصفهم بقوة مميتة، النساء والأطفال والرجال يقتلون ويصابون ويجبرون على مغادرة منازلهم ويتم تجريدهم من ممتلكاتهم، حتى المستشفيات وقوافل الإغاثة يتم استهدافها» ثم فإنه يعتزم التركيز على ثلاثة مجالات استراتيجية يكون فيها التغيير ضروريًا، وهي البناء والحفاظ على السلام وتحقيق تنمية مستدامة وإصلاح العمليات الداخلية للأمم المتحدة.

وأمام هذه الأهداف النبيلة والرسالة السامية، وكذلك التعقيدات الكبيرة التي تحيط بمعظم الأزمات والقضايا الدولية - إن لم يكن جميعها - ربما كان التعليق المناسب دون تشاؤم أو أي شبهة تجريح «أفلح إن صدق»، فما طرحه جوتيريس هي رؤية منشودة ومنتظرة منذ عشرات السنين ربما منذ إنشاء «عصبة الأمم» بعدما وضعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أوزارها، ولكن المؤسف سارت البشرية منذ ذلك التاريخ وحتى بعد إنشاء منظمة للأمم المتحدة على طريق الآلام والأشواك في صورة حروب وصراعات وصدامات وأزمات حادة أسفرت عن مصرع عشرات الملايين من البشر وتشريد ملايين آخرين في مشارق الأرض ومغاربها، دون أن تتمكن الأمم المتحدة أو بالأحرى أمينها العام أيًّا كان أسمه أولونه أو جنسيته أو ديانته من نزع فتيل أزمة أو إنهاء صراع قبل أن يتحول إلى مأساة كبرى، وكثيرًا ما سقط في فخ تصارع الإرادات الدولية خاصة من جانب القوى الكبرى وتسييس المواقف لصالح أطراف بعينها، وهذا هو السبب الحقيقي للصعوبات التي يواجهها الأمين العام.

ولعل ذلك أيضًا هو السبب في تحول كثير من الصراعات والأزمات الدولية إلى ما يسمى بالقضايا «المزمنة» وهو تعبير توصيفي لكثير من المشاكل الدولية التي دخلت المنظمة الدولية وفرضت نفسها على الساحة العالمية منذ عشرات السنين دون أن تجد حلولا لها حتى اليوم، بما يجعل اعتبارها مشاكل «مزمنة» الوصف الأدق لها وهي عديدة في أرجاء العالم واصطدمت بها الأمم المتحدة منذ إنشائها وأغلب الظن أنها تمثل الهم الأكبر للأمين العام الجديد، وقد يستحق دخول كتاب الخالدين لو أنه نجح بالفعل في حلحلة هذه الأزمات نحو الحل، وبكل تأكيد لسنا في حاجة إلى القول إن الشرق الأوسط بكل قضاياه ومشاكله وأزماته قد استهلك على وجه التقريب أعمال الأمم المتحدة منذ إنشائها ويدل على ذلك هذا العدد المهول من القرارات والتوصيات الذي أصدرته عبر مجلس الأمن أو مؤسساتها ومنظماتها الأخرى كالجمعية العامة واليونيسكو بشأن المنطقة بهدف إقامة العدل ونشر السلام في ربوعها دون أن يتحقق ذلك على أرض الواقع، ولا يختلف المشهد حاليًا كثيرًا عما كان عليه قبل عشرات السنين بعد تفجر وتمدد الصراعات الأهلية والإقليمية الطاحنة في سوريا والعراق واليمن وليبيا إضافة إلى قضية الإرهاب التي أخذت بعدا دوليا ولكن ميدانها الأساسي والأوسع وربما الوحيد على المستوى العالمي هو كذلك دول الشرق الأوسط، ولذلك ليس مستغربًا أن تعتبر قضايا الشرق الأوسط على رأس القضايا «المزمنة» داخل دهاليز المؤسسة الدولية.

ورغم أن القضايا النوعية مثل: التنمية المستدامة والتغيرات المناخية والبيئية حاضرة بقوة واستحوذت على كثير من أعمال الأمم المتحدة، إلا أن القضايا السياسية والأمنية هي دوما الأشد سخونة والأكثر استحواذا على اهتمام الزعماء والقادة بحكم أنها بالفعل تمثل تهديدًا صريحًا للسلم والأمن الدوليين مثل أزمة الشرق الأوسط ومشكلة أفغانستان ومشاكل الكوريتين والأزمة القبرصية والخلافات الهندية الباكستانية والمآسي الإفريقية وقضايا أسلحة الدمار الشامل، ولكن من الواضح أن الهوى السياسي قد تحكّم في توجهات ونفوس الكثيرين عند نقاشهم وطرحهم للقضايا الملحة، مما أدى إلى حالة خطيرة من الانقسام الدولي في سبيل تحقيق الأهداف الشخصية، وقد اتضح ذلك في غياب استراتيجية شاملة تربط كل القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية وكذلك البيئية والإنسانية كقضية اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين وتأثيراتها المتبادلة.

غياب هذه الرؤية الاستراتيجية عن المنظمة الدولية يعني إطالة أمد النزاعات والصراعات والحروب وكذلك افتقاد السبل السليمة لتسويتها، فمن المؤكد أن هناك علاقات وثيقة بين حتمية إيجاد حلول وتسويات سلمية للصراعات القائمة في العراق وسوريا وليبيا واليمن والأراضي الفلسطينية المحتلة باعتبارها مفاتيح أساسية للتوصل إلى حلول متكاملة لمشاكل الإرهاب ولأزمات المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين والنازحين، فجميعها بالقطع أزمات مترتبة على بعضها البعض، وبدون ذلك يصعب جدا الحديث عن تنمية مستدامة أوتنمية اجتماعية وإصلاحات بيئية، ومن الواضح أن الرؤى الأحادية هي التي سيطرت على توجهات الأمم المتحدة فطغى عليها منهج الجزر المنعزلة التي لم تجتهد لربط القضايا ببعضها البعض أو البحث عن سلة الحلول المتكاملة.

ورغم فشل هذا المنهج وما يرتبط به من نتائج خطيرة وانقسامات حادة تجلت على سبيل المثال في التعامل مع الأزمة السورية التي أصبحت بلا شك القضية المحورية في أعمال الأمم المتحدة، إلا أن مثل هذه التوجهات والانقسامات ليست جديدة على المنظمة الدولية، فمعظم ما يصدر عنها من قرارات مجرد توصيات غير ملزمة وقد يستحيل تنفيذها حتى ولو كانت عادلة، وفي الغالب لا تجد طريقها صوب التنفيذ إلا إذا كانت تصب في خانة المصالح الغربية، حتى وإن نجحت الدول التي تشعر بالغبن في العالم وتثق في الوقت ذاته في عدالة قضيتها في استصدار قرارات تحمي مصالحها وتحقق مطالبها، إلا أن هذه القرارات تبقى مجرد حبر على ورق.

والصراع العربي - الإسرائيلي عامة والقضية الفلسطينية خاصة خير دليل على ذلك، فمنذ تفجر هذا الصراع صدرت عن الأمم المتحدة عشرات القرارات التي تصون الحقوق الفلسطينية وتطالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وعودة اللاجئين فضلا عن وجود لجنة دائمة «لحماية الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف» ورغم ذلك لا تزال الأراضي العربية محتلة والمذابح والمجازر ضد الفلسطينيين مستمرة بغطاء دولي توفره القوى الغربية الكبرى، بينما كان القرار الوحيد الملزم من جانب الجمعية العامة وحمل غبنا وظلما شديدين لأصحاب الحقوق المشروعة هو قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الصادر في نوفمبر عام 1947 وتأسس عليه قرار مجلس الأمن الدولي في مايو 1948 بالموافقة على قيام «دولة إسرائيل» وبذلك مهدت المنظمة في واحدة من المرات القليلة الفاعلة لأكبر مأساة بشرية مستمرة منذ قرن من الزمان تقريبا أي منذ صدور وعد بلفور عام 1917، وحدث ذلك بالقطع؛ لأن هذا التصرف كان يصب بشكل مباشر في صالح الصهيونية العالمية والمصالح الأمريكية - الغربية العليا.

وعلى المنوال ذاته سار الكثير من القرارات فيما يتعلق بحماية المصالح الإسرائيلية واجبة النفاذ، في حين بات واضحا أن القرارات المنصفة للفلسطينيين والعرب عموما تتعثر في أروقة الأمم المتحدة مهما كان عدد الدول الموافقة عليها، وأغلب الظن أن هذا النهج سيستمر في المرحلة المقبلة؛ لأن الإرادة السياسية للدول الكبرى لها الغلبة على إرادة وقرارات المنظمة الدولية، ولن يكون في مقدور جوتيريس تقديم الكثير على صعيد هذا الملف وغيره من «القضايا المزمنة».