926383
926383
شرفات

بعبارة اخرى :في المطر كلنا شعراء

13 فبراير 2017
13 فبراير 2017

د. حسن مدن -

في رواية حنا مينة «الثلج يأتي من النافذة» يشعر بطل الرواية بالبرد يلسعهُ وهو وحيد في غرفته، ومن النافذة بدا الوادي مغموراً بالثلج الذي أحاله إلى رقعة مدهشة من البياض. كانت تلك لحظة خلوة مع الذات يستعيد فيها الرجل عمراً من الذكريات ومن التمزقات، ولأن لسعات البرد تواصلت على جسده همّ من حينه متوجهاً نحو النافذة ليغلقها اتقاء للنسمات الباردة، ولكن لدهشته وجد النافذة موصدة. «من أين يأتي البرد إذاً؟ - تساءل في سره، وحينها أيقن أن البرد، لا يأتي من النافذة، إنه يأتي من داخل الروح.

لكن البرد لا يبعث على الذكريات الحزينة وحدها.

الشتاء هو فصل الأناقة واللقاءات المعطرة بالود والدفء. نحن نشتاق لملابسنا الشتوية التي تنتظر عاماً كاملاً في خزاناتنا، ونحن للذكريات والأمكنة الأليفة التي تقترن بالشتاء، وبالنسمات الباردة إذ تهب على الوجه منعشة، وموقظة لما توارى من عزيز الأماني.

مثلا: ذكرانا ونحن صغار نندس تحت ألحفة الشتاء، ونتكور فوق الأسرة، ونصغي إلى حكايات الأمهات، وذكرى الغرف الدافئة في مدنٍ باردة، ومن وراء زجاج فتحات المدافيء التي تحرق الزيت نقطة نقطة، يبدو لهب النار في تماوج مدهش للألوان، فينسل الفرح والدفء إلى قرارة النفس، وينتشي الجسد بالدعة والأمان المحيطين، فتشي الدنيا بأيام بيض، وبلقاءات بيض، وبأحبة لا يغادرون الفؤاد أبداً.

مرحى للنسمات الباردة التي تهب علينا، فيشب الفرح الأخضر في نفوسنا، مرحى للغيوم تتحفنا بكل هذا الكرم والحفاوة، وتمنحنا شيئاً مختلفاً له مذاق الأنس والسعادة والبهجة، فتطرد عنا رتابة أيامنا وكآبة مألوف عاداتنا وتجعلنا مشرقين بمحاذاة فأل الحياة.

الوجوه تحت بقعة الشمس الشتوية هي الأخرى مختلفة. طلة العين مثلاً في وجه ترتسم على ملامحه خطوط الشمس هي غيرها خارج تلك البقعة من الضوء. بوسع القلوب الرهيفة في حالٍ كهذا أن تُمعن النظر في ما لا تراه إلا حينها. لشمس الشتاء فوق صفحة البحر عند مطالع الغروب حكاية أخرى أشبه بالملحمة، تماوج للألوان وتمازج، عناق حبيبين استسلما للوجد فلم تعد تفرق ما إذا كانا اثنين أم واحد. لا بحر هناك ولا شمس، هناك قصيدة أخرى فيها من زرقة البحر أواخرها ومن ضوء الشمس البقايا. كأنهما يذهبان معاً إلى بيت بعيد، ولوهلة ينتابك الوهم بأن بيت البحر هو عند الشمس، إنه انسحب إلى هناك لينام.

وحين تنهمر عليك الحكايات يسافر بك السؤال عما إذا كان شتاء الأشياء جميل في عينيك لأنه جميل، أم أن الأمر آت من بصيرة الفؤاد. للفؤاد ما هوى، فلا تثقل على الهوى مما تريد، إن لم يكن للحب من مجدٍ سوى أنه يجعل الأشياء مدهشة لكفاه، كفاه أن يأخذ بيديك بحنوٍ فيريك الجانب الحلو في الدنيا، فيجعل من نسمة ليلية باردة قصيدة، ومن شمس شتوية ناعسة فوق بحر استسلم للجمال أغنية.

****

في لحظة تجلٍ ونزق يهتف شاعر استبد به الضيق: «سأبدد الغيوم بيدي»!. ربما طال الخريف على هذا الشاعر وحجبت الغيوم عنه الشمس طويلاً فحنَّ إلى ربيع تغمره شمس دافئة. لكن هذا يحدث هناك، في بلدان لا تعرف الشمس إلا لماما.

أما عندنا فالشمس تفيض عن الحاجة، فلا تكاد تغيب عنا، إنما تتوارى أحيانا نادرة وراء الغيوم، لذا يليق بنا أن تختفي بالغيم كطقس مغاير للعادة. هل جربتم السير بمحاذاة البحر في يومٍ غائم تتهيأ سماؤه للمطر وأبصرتم النوارس البيضاء الجذلى تقيم أعراسها بمحاذاة ماء البحر محتفية بكل هذه الفتنة. هل راقبتم زخات المطر تسقط على سطح البحر: ماء وماء في قصيدة عشق.

«لوهلة تشعر أن الغيم يوشك أن يأخذك في حضنه»- هذا ما كتبته لي قارئة من الفجيرة قبل سنوات واصفة الجو الغائم، الماطر حولها.

ما سر هذا الحنين الذي يشعله المطر في افئدتنا، حنين إلى ماذا؟ حنين إلى من؟ أإلى أيام فرح مضت، الى وجوه جميلة نأت، أم انه حنين إلى المجهول، إلى المنتظر من الأيام الرائعة التي لم نعشها بعد، ويتقد في نفوسنا التوق اليها، وإلى الأحبة الذين نريد أن يغسل المطر أرواحنا ونحن بمحاذاتهم، في أقرب مسافة من القلب.

في المطر كلنا شعراء حتى لو لم نكتب الشعر، حين تضج ارواحنا بالفرح وبالشجن في ذات اللحظة. فرحون نحن وحزانى، كأن المطر يوقظ الأشياء الغافية في نفوسنا التي تريد لها مناسبة لأن تقيم أعراسها.

يسبق قوس قزح بألوان طيفه المدهشة المطر، مُعلناً بيان الطبيعة الأول ويبدو القوس قريبا جدا حتى يدهمك الشعور بانك على وشك ان تمسك به. القوس غير الدائرة، الأخيرة مغلقة، أما القوس خاصة حين يكون قزحيا فإنه مشروع قصيدة، والقصيدة إيماءة، إيحاء، نص مفتوح كما القوس القزحي في نصف استدارته يستدرجك لأن تختار لتكملته الصورة التي تلائم مزاجك.

غض طرفاً عن بحيرات الماء التي تتجمع بعد كل مطر في شوارع مدننا التي لم يهيئها مصمموها لاستقباله، ارفع رأسك عاليا وحدق في السماء ممتنا لهذا العطاء الجميل، جُل بناظريك على الأشجار التي غسلها المطر، وتيقن من أنك لم ترها قبل ذاك بهذه النضارة، واطمئن إلى أنها، مثلك، منتشية، تتنفس الهواء النقي وقد أزالت ما علق بأوراقها من آثام البشر.

****

في نفس كل منا يوقظ المطر ذاكرة ناعسة، أخذها الوسن لكن نومها خفيف.

التصق الفتى بالنافذة ينتظر ويتأمل المطر يهطل فيغسل الشوارع ويمنح غابة الأشجار الداكنة الخضرة نضارة وزهواً، وخطر في باله: يقال أن الدموع تغسل الحزن، فهل كانت السماء حزينة وارتأت أن تغسل أحزانها فتلقي ما في جوفها من أحزان على شكل مطر؟

ساعة الموعد أزفت، والمطر ينهمر بدون توقف، وتمنى الفتى في قرارة نفسه أن يهدأ المطر قليلاً ليمنحها فرصة المجيء، لكن المطر هزأ من رجائه فازداد غزارة.

ووسط جنون المطر، جاءت الحافلة متأخرة عن موعدها، ولكنه جاءت. ومنه اندفعت الصبية تلتف بمعطفها أكثر، ترفع خصلة عن شعر عينيها، وتسير. من النافذة أبصر الفتى الصبية تسرع إلى موعدها، وتناهت إلى مسامعه وقع خطوات حذائها على أسفلت الشارع المغسول بالمطر. خفق قلبه المسحور حتى كاد يطير. وفكر: طوبى للمحبين تحت المطر..!

أحلى مطر كان مطر الطفولة. مطر بيوت الطين التي كانت «مزاريب» المطر المصنوعة من قطع الخشب مثبتة أعلاها، وكان المطر ينهمر، يضج بالفرح وبالوعود، ونحن بأوانينا الصغيرة نركض باتجاه المطر المنحدر غزيراً من «المزاريب»، لنملأها مطراً يستخدمه الكبار فيما بعد للطبخ أو لصنع الشاي أو القهوة. كان لطعم الشاي المصنوع من مياه المطر مذاق آخر يغمر القلب بنشوة حنون.

بعد سنوات، حين سرق العمر الطفولة، وفي بلادٍ أخرى نائية، جربتُ أن أطعم الشاي المصنوع بماء المطر، لم أستعد ذلك الطعم الذي كان في الطفولة، ألأن مطر الوطن أحلى أم لأن للطفولة طعمها الذي لا يستعاد أبداً؟ أم لأن العمر سكب قطراته المُرة في أمطارنا فما عاد لها المذاق العذب الذي كان؟

يمكن لذكرى المطر، ويا للأسف، أن تكون باعثة على الأسى والوحشة، أيضاً، حين تقترن بالفقد.

جاءني خبر استشهاد هاشم في يوم خريفي غائم وبارد، كنتُ على سفر حين خابرني رفيق ليحمل النبأ. قال أن الفتى الذي حمل روحه على كفه مات. خرجت إلى شوارع المدينة على غير هدى، كالتائه. باريس لم تعد مدينة للنور، تفاقم إحساسي بالوحدة والغربة، وبدت لي الشوارع موحشة وكئيبة. وفي غمرة هذا الحزن انهمر مطر غزير، ودبَّ في داخلي ألم من ذاك الذي لا تعرف مصدره، قدماي عجزتا عن حملي وشيء كدبيب النمل اجتاح جسدي، اختنقت مقلتاي حتى أوشكتا على البكاء، وكأن نصلاً ماضياً اخترق كل ما في النفس من مشاعر مطمئنة فمزقها إرباً.